موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في خضم التصعيد المتواصل بين إسرائيل وإيران، لم يكن اسم العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة "الأسد الصاعد" (The Rising Lion) مجرّد تعبير بلاغي أو اختيار لغوي عرضي. بل جاء محمّلًا برموز دينية وتوراتية عميقة، تُوظَّف ضمن خطاب سياسي وعسكري متكامل، تسعى إسرائيل من خلاله إلى إضفاء طابع لاهوتي على سياساتها الهجومية، خاصة حين تتعلّق بخصم تعتبره تهديدًا وجوديًا، كما هو الحال مع إيران.
هذا النمط من التسمية لا يُعدّ سابقة في السياق الإسرائيلي، بل ينتمي إلى استراتيجية أوسع من تسييس الدين وتديين السياسة، حيث تُستحضر نصوص العهد القديم ليس في الإطار الروحي، بل في إطار تعبوي، يُسوّغ العنف تحت غطاء الرسالة الإلهية. والنتيجة: خطاب يمزج بين اللاهوت والبارود، ويُقدّم الحرب كفعل مقدّس.
الأسد في التوراة: مجاز القوة والاستعداد للانقضاض
يرتبط الأسد في المخيال التوراتي بالقوة والانقضاض الحاسم. في (سفر التكوين 9:49)، يبارك يعقوب ابنه يهوذا بالقول: "يَهوذا شِبْلُ أَسَدٍ مِنَ الِٱفتِراسِ صَعِدتَ يا بُنَيَّ. جَثَمَ ورَبَضَ كالأَسَدِ واللَّبُؤَة، فمَن ذا يُقيمُه؟". هذه الصورة ترسّخت في الذاكرة الدينية كرمز للهيبة والتهديد الكامن، إذ يبدو الأسد ساكنًا، لكنه جاهز للوثب متى استدعت الضرورة.
الصهيونية الدينية، التي ترى في دولة إسرائيل تحقيقًا لوعد إلهي، تبنّت هذه الرمزية، واعتبرت أن إسرائيل الحديثة هي وريثة مجد يهوذا، وأن أي اعتداء عليها يستدعي نهوض الأسد مجددًا. وهكذا تتحوّل الحرب إلى فعل وراثي، وتصبح السياسة امتدادًا للنبوة.
نبوءة بلعام: القوة النائمة التي لا تُوقظ إلا بثمن
في (سفر العدد 9:24)، يُردَّد الوصف ذاته: "جَثَمَ ورَبَضَ كأَسَدٍ وكلَبُؤَةٍ، فمَن ذا يُقيمُه؟"، ولكن هذه المرة بصوت بلعام، الذي يُشيد بشعب إسرائيل كقوة راقدة. هذا التوصيف يلبّي حاجة الخطاب الأمني الإسرائيلي لتبرير الضربات الاستباقية؛ فالهجوم يصبح مجرّد نهوض اضطراري لأسدٍ رابض، لا اعتداءً، بل دفاعًا مشروعًا.
الله كأسد مفترس: بين الردع والعقاب
في (سفر هوشع 14:5)، يُشَبه الله نفسه بالأسد الذي يفترس دون أن يُنقَذ منه أحد: "أَنِّي أَنا لِأَفْرائيمَ كالأَسَد، ولبَيتِ يَهوذا كالشِّبْل. أَنا أَنا أَفتَرِسُ وأَمْضي وأَخطَفُ ولا مُنقِذ". في الخطاب السياسي الإسرائيلي، يُستحضر هذا النموذج لتقديم الحرب كأداة للعدالة الإلهية، لا فقط كوسيلة ردع. إيران، في هذا السياق، لا تُقدَّم فقط كخصم سياسي، بل كقوة "شيطانية" تهدّد "شعب الله"، ما يُحوّل أي ضربة ضدها إلى فعل مبرَّر لاهوتيًا.
حين يتحوّل النص المقدّس إلى مشروع حرب
لم تُطلق تسمية "الأسد الصاعد" من فراغ. بل جاءت في إطار منظومة أيديولوجية تسعى لربط الماضي التوراتي بالحاضر العسكري. ومن خلال هذا الربط، تُشرعن إسرائيل سياساتها الأمنية أمام جمهورها الداخلي والعالمي، وتُطوّع اللاهوت لخدمة الاستراتيجية.
وقد ظهر هذا النوع من التبرير في عمليات سابقة ضد لبنان وغزة وسوريا، حيث تكرّر استخدام استعارات دينية لتأطير العمل العسكري. ففي إحدى المناسبات، شبّه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إيران بـ"عماليق"، العدو التوراتي الذي يجب محوه. ويستند هذا التشبيه إلى ما جاء في (سفر التثنية 17:25-19).
هذا النص يُوظَّف لعرض الصراع مع إيران كمعركة وجودية دينية، يجب فيها "محو" العدو كما أُمر في العهد القديم. إن استدعاء هذه النصوص من شأنه تأجيج عقلية الاستئصال بدلًا من الدفع نحو الحلول السياسية.
كما تكررت تلاوة نصوص توراتية في احتفالات عسكرية، أبرزها من سفر يشوع والمزامير، ما يدل على ترسيخ هذه اللغة في الثقافة الأمنية الإسرائيلية.
البعد القانوني والأخلاقي: عندما يسقط القانون أمام النبوءة
الخطورة لا تكمن فقط في الخطاب، بل في نتائجه. إذ يُحوّل هذا المنطق السياسي إلى معركة مقدسة، تتجاوز كل المعايير الأخلاقية والقانونية. القانون الدولي الذي يُفترض أن يُبنى على مبادئ إنسانية، يُطاح به أمام نبوءات تُفسَّر سياسيًا.
فالضربات العسكرية التي تستهدف مدنيين أو تُنفّذ خارج الأطر القانونية، تصبح مقبولة بل وضرورية ضمن خطاب "الأسد الصاعد"، لأن هذا الأسد لا يعرف الرحمة بل الردع، ولا يُقيَّد باتفاقيات بل بوصايا.
مقارنات مع خطابات دينية عالمية
هذا التوظيف ليس حكرًا على إسرائيل؛ فقد شهد العالم استخدامًا مشابهًا خلال غزو العراق عام 2003، عندما وصف جورج بوش الابن العملية بأنها "مهمة إلهية". ولكن الخطاب الإسرائيلي يمتاز بارتباطه بنصوص يُنظر إليها كجزء من هوية قومية، لا مجرّد عقيدة روحية. وهذا ما يجعله أكثر تجذّرًا، وأشدّ خطرًا، خاصة في سياق نزاع إقليمي مشحون.
دعوة للتفكيك والمساءلة
إن تفكيك هذا الخطاب وتعرية أبعاده الأيديولوجية والدينية لم يعد ترفًا نقديًا، بل ضرورة أخلاقية وسياسية. المطلوب اليوم ليس فقط فضح العنف، بل فضح اللغة التي تُجمله.
كما أن على الإعلام العربي والدولي، والمجتمعات المسيحية في الغرب، واجبًا مضاعفًا في مواجهة هذه الأسطرة العسكرية، عبر تفنيدها، ورفض تحويل نصوص العهد القديم إلى ذخيرة لفظية تُطلق باسم الرب.
فحين تزأر التوراة، لا تصرخ السماء، بل يسقط الإنسان.