موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١
في بحور الخير والشرّ

أشخين ديمرجيان :

 

عندما تكون حياتنا مريرة وصعبة وشائكة، يشجّعنا كثيرًا ما وعدنا به السيّد المسيح في موعظته الشهيرة على الجبل: "طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم سيعاينون الله..." (متّى 5: 2 وتابع). لذلك تُستطاب العيشة القشفة، والتوبة الشاقَّة، أكثر من كل لذةٍ أرضية.

 

على شواطىء البحر في مدينة "سكاجين" في الدنمارك بإمكان المشاهد أن يراقب ظاهرة طبيعية مدهشة وفريدة من نوعها. تقع هذه المدينة في أقصى شمال تلك الدولة، حيث يلتقي بحر البلطيق ببحر الشمال ولكنّهما لا يختلطان، نتيجة الاختلاف بينهما في كثافة المياه وغيرها من الخصائص.

 

هذه حال النفوس التقيّة: لا يمكن لبحور الخير فيها أن تندمج أو تذوب في بحور الشرّ بل تقاومها حتى آخر لحظة من حياتها لأنّهما على طرفي نقيض. وأنّى للضمير الطيّب النقي الصافي أن يتّفق مع نفوس انعدم فيها الضمير وأصبح قاسيًا كالصخر يتلوّن ألوانًا كالحرباء، ويدور مع الظروف كيفما دارت متقلّبا لا يثبت على حال... فيصبح ذلك "الضمير" المطّاط شبه ميّت يختلق ألف حجّة وألف عذر وألف كذبة وكذبة.

 

ويغلب على النفوس الصالحة روح الفرح مع أنّها أحيانًا لا تكون ميسورة الحال. وتُنجز الأعمال المُثمرة تجاه نفسها والآخرين. تعيش ببساطة وقناعة من غير تكلّف. وتهتمّ بالقريب وترعاه، محاولة تطبيق تعاليم السيّد المسيح كما وردت في الإنجيل المقدّس. هذه النفوس الطيّبة تُدرك أن السيّد المسيح لم يتوجّه في الموعظة إلى الجُموع التي كانت تستمع إليه وحسب، بل إلى الحضارة البشريّة جمعاء وبلا استثناء على مرّ الأجيال. وكان المعلّم الصالح يهدف في تعاليمه العلَنيّة إلى إلغاء "حضارة الموت" وتأسيس حضارة الحياة والمحبّة والرحمة التي ما زلنا نفتقر اليها.

 

وقف السيّد المسيح على قمّة الجبل يُنادي البشرية جمعاء في كلّ مكان وزمان قال: "أحبّوا أعداءكم.. باركوا لاعنيكم" أي نصحنا باقتلاع كلّ عداوة أو حقد أوبغض أورغبة في إلغاء الآخر من قلوبنا البشريّة.  وأوصانا بمحبّة القريب بدل الكراهية، والرحمة بدل التعسّف والظلم والاستعلاء، والإحسان بدل السلب والنهب. ويُكمل التفسير بقوله: "إن أحببتُم الذين يُحبّونكم فأيّ منّة لكم؟ وإذا أحسنتُم إلى الذين يُحسنون إليكم فالخطأة هكذا يصنعون".

 

بناءً على تعاليم السيّد المسيح "القريب" هو الغريب والمظلوم والفقير والوحيد واليتيم والمريض والعاجز والمُسنّ والمُلحد... وينبغي أن نُعينهم في شدّتهم على قدر طاقتنا، فنعكس الرحمة الالهيّة: "كونوا رُحماء كما أنّ أباكم هو رحيم". وخيراتنا هي من فضله تعالى علينا لكي نفعّلها في خدمة حضارة المحبّة.

 

السيّد المسيح يُلغي التنكُّر للأخوّة التي اقترفها قايين لدى قتله لشقيقه. ويُلغي خيانة المودّة والخداع لأجل الأذى، أو الانقضاض على الآخر كفريسة لأجل قتله وإزالته من الوجود. ويرفض السيّد المسيح تصرّف القويّ المتعجرف أو الأنانيّ الذي يُريد كلّ شيء لنفسه ويُعادي الآخرين من دون سبب ويُلغيهم من الوجود.

 

هكذا يرتقي السيّد المسيح بالبشريّة إلى مرحلة النضج الفكريّ والروحانيّ معًا. ومن غير هذه الوصايا ينهار الإنسان ويضيع... وتنحلّ الانسانيّة وتتبدّد... فيتحوّل العالم إلى غابة كثيفة مظلمة ظالمة ملأى بالوحوش المفترسة، كما هو الحال اليوم.

 

 

خاتمة

 

سيأتي يوم يجني فيه الإنسان ثمار كلّ شدّة احتملها بصبر. في الدينونة تفرح النفوس التقيّة وتكتئب النفوس الخالية من العبادة. لنتعلّمنّ الآن أن نحتمل آلامًا يسيرة، كي ننعم بالحياة الأبديّة. "لقد صبر اخوتنا على ألم ساعة، ثمّ فازوا بحياة أبديّة..." (2 مك: 36:7).