موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٤ أغسطس / آب ٢٠٢٥

وجه يطل بين الشقوق

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي :

 

لا تحتاج الحقيقة إلى صوت مرتفع لتعلن حضورها، يكفي أن يتعب القناع من حمل ملامح ليست له، فيتهاوى كورقة جافة أو يتقشر كطلاء جدار مشموس. الوجوه لا تنكشف بضجيج، بل بصمت طويل يتسلل خلاله أول نفس حر من خلف الواجهة، ومن تلك اللحظة تبدأ الحكاية التي لم تكتب في دفاتر المجاملة.

 

ما نحسبه تغيرا في الناس ليس سوى انكشاف متأخر لما كان حاضرا منذ البدء. الزمن ليس ساحرا يبدل الطباع، ولا معلما يغير القلوب، ولا خيميائيا يحول المعادن الرخيصة إلى ذهب. إنه مصباح صبور، يسلط ضوءه على ما حاولنا حجبه أو تلميعه أو إخفاءه عن أنفسنا قبل الآخرين.

 

القناع نصنعه نحن من خيوط الخوف وألوان القبول الاجتماعي، ونزيد سماكته كلما سعينا لنبدو أكثر صلابة وأقل هشاشة، لكنه مهما بدا قويا يتآكل أمام احتكاك الحقيقة. في لحظة انفعال عابر أو انكسار لا يمكن حجبه أو أزمة تكشف المعادن الحقيقية، يطل الوجه العاري. عندها ندرك أن ما اعتبرناه تغيرًا لم يكن سوى وجه قديم خرج إلى الضوء.

 

الحياة، بضجيجها ومفاجآتها ومنعطفاتها القاسية ومطباتها، ترفع الستائر وتفتح النوافذ وتسلط الضوء من زوايا مختلفة. ومن يسلط الضوء لا يخلق شيئا جديدا، بل يريك ما كان موجودا طوال الوقت. هنا فقط تختبر العلاقات الحقيقية، حين تضيق الصدور وتتعثّر الخطى ويخدش الكبرياء. لا أحد يستطيع أن يزيف رد فعله حين تمس كرامته أو يهدد ضعفه، وهناك يفتح الزمن دفاتر الناس أمامنا سطرًا بعد سطر، حتى الذين كنا نظن أننا نعرفهم جيدًا.

 

سقوط الأقنعة ليس فضيحة، بل كشف يعيد تعريف مقاييسنا. نحن لا نبحث عن وجه جميل بقدر ما نفتش عن وجه صادق، ولا ننجذب إلى خطاب بليغ بقدر ما نصغي لكلمة تشبه صاحبها. وعندما ينكشف الآخر، نكتشف أننا صدقنا الصورة المريحة أكثر من الحقيقة القاسية، وأن المشكلة لم تكن في أن أحدهم خدعنا، بل في أننا أردنا تصديقه أكثر مما أردنا معرفة الحقيقة.

 

لهذا لم أعد أخاف من تقلب البشر، ولا أفاجأ بانهيار علاقة أو تصدع صداقة أو خفوت محبة. لقد تعلمت أن الإنسان لا يتغير، بل يتكشف، وأن الصدمة ليست في الفعل نفسه، بل في حجم الوهم الذي عشنا معه. وربما لا يسقط القناع دفعة واحدة، لكنه يتآكل شيئا فشيئا حتى يطل وجه الصدق من بين الشقوق..

 

(الدستور الأردنية)