موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (مَتَّى 2: 13-15، 19-23)
13 وكان بَعدَ انصِرافِهِم أَنْ تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُف في الحُلْم وقالَ له: ((قُم فَخُذِ الطِّفْل وأُمَّه واهرُبْ إلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك، لأَنَّ هيرودُس سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفْل لِيُهلِكَه)). 14 فقامَ فأَخَذَ الطِّفْل وأُمَّه لَيلاً ولَجَأَ إلى مِصْر. 15 فأَقامَ هُناكَ إلى وَفاةِ هيرودُس، لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: ((مِن مِصْر دَعَوتُ ابني)). 19 وما إن تُوُفِّيَ هيرودُس حتَّى تراءَى ملاكُ الرَّبِّ في الحُلْم لِيوسُف في مِصْر 20 وقالَ له: ((قُمْ فَخُذِ الطِّفْل وأُمَّه واذهَبْ إلى أَرضِ إِسْرَائِيل، فقد ماتَ مَن كانَ يُريدُ إِهلاكَ الطِّفْل)). 21 فقامَ فأَخذَ الطِّفْل وأُمَّه ودَخَلَ أَرضَ إِسْرَائِيل. 22 لَكِنَّه سَمِعَ أَنَّ أَرخِلاَّوُس خلَفَ أَباهُ هيرودُس على اليَهودِيَّة، فخافَ أَن يَذهَبَ إِليها. فأُوحِيَ إِليه في الحُلْم، فلجَأَ إلى ناحِيَةِ الجَليل. 23 وجاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: إِنَّه يُدعى ناصِريّاً.
مُقَدِّمَة
تَحْتَفِلُ الكَنِيسَةُ في هذا الأُحُدِ بِعِيدِ العائِلَةِ المُقَدَّسَةِ، فَتُوَجِّهُ إِلَيْنَا دَعْوَةً عَمِيقَةً لِلتَّأمُّلِ في مَعْنَى العائِلَةِ في ضَوْءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَلَا سِيَّمَا مِنْ خِلَالِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ الَّذِي تَقْتَرِحُهُ عَلَيْنَا اللِّيتُورْجِيَا اليَوْمَ (مَتَّى 2: 13–15، 19–23). يَعْرِضُ هذا النَّصُّ مَشْهَدًا دِرَامِيًّا لِهُرُوبِ العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ تَلَقَّتْ أَمْرًا إِلَهِيًّا بِالفِرَارِ مِنْ وَجْهِ مَلِكٍ طَاغِيَةٍ يَسْعَى إِلَى قَتْلِ الطِّفْلِ الَّذِي وُلِدَ حَدِيثًا في مَمْلَكَتِهِ.
إِنَّهُ إِنْجِيلٌ يَتَحَدَّثُ عَنْ عَائِلَةٍ مُهَدَّدَةٍ، تَسْعَى إِلَى صَوْنِ حَيَاتِهَا وَصَوْنِ حَيَاةِ الطِّفْلِ يَسُوعَ، وَبِالتَّالِي إِلَى حِمَايَةِ الحَيَاةِ بِحَدِّ ذَاتِهَا. وَمِنْ خِلَالِ مَسِيرَتَيِ الهُرُوبِ المُتَتَالِيَتَيْنِ، الأُولَى إِلَى مِصْرَ وَالثَّانِيَةِ إِلَى الجَلِيلِ، تَدْخُلُ العَائِلَةُ المُقَدَّسَةُ في قَلْبِ تَدْبِيرِ اللهِ الخَلَاصِيِّ، حَيْثُ يُصْبِحُ الهُرُوبُ فِعْلَ طَاعَةٍ وَإِيمَانٍ، لَا هُرُوبَ خَوْفٍ أَوْ ضَعْفٍ.
وَهَكَذَا تَتَجَلَّى مَسِيرَةُ الخَلَاصِ في الإِصْغَاءِ لِكَلِمَةِ اللهِ وَالطَّاعَةِ لِإِرَادَتِهِ، وَفي الِابْتِعَادِ عَنْ مَنْطِقِ العُنْفِ وَالمَوْتِ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الحَيَاةِ. مِنْ هُنَا تَنْبُعُ أَهَمِّيَّةُ التَّوَقُّفِ عِنْدَ وَقَائِعِ هذا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، وَالتَّأمُّلِ في أَبْعَادِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، لِفَهْمِ رِسَالَةِ العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ كَنَمُوذَجٍ حَيٍّ لِكُلِّ عَائِلَةٍ مَدْعُوَّةٍ إِلَى الثَّبَاتِ في الإِيمَانِ، وَحِمَايَةِ الحَيَاةِ، وَالسَّيْرِ بِثِقَةٍ في طُرُقِ اللهِ مَهْمَا بَدَتْ صَعْبَةً أَوْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي مَتَّى 2: 13-15، 19-23)
تُشِيرُ عِبَارَةُ "بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ" إِلَى انْصِرَافِ المَجُوسِ بَعْدَ أَنْ أَتَمُّوا زِيَارَتَهُمْ وَسُجُودَهُمْ لِلطِّفْلِ يَسُوعَ (مَتَّى 2: 12)، وَهُوَ مَا يَفْتَحُ الْمَجَالَ لِتَدَخُّلِ اللهِ الْجَدِيدِ فِي حُلْمِ يُوسُفَ (مَتَّى 2: 13). وَالمَجُوسُ، فِي أَصْلِهِمِ التَّارِيخِيّ، كَانُوا طَبَقَةً دِينِيَّةً تَنْتَمِي إِلَى قَبِيلَةٍ مَادِيَّةٍ فِي فَارِس، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ المُؤَرِّخُ اليُونَانِيُّ هِيرُودُوتُس. وَكَلِمَةُ "مَجُوس" هِيَ لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ تُطْلَقُ عَلَى الكَهَنَةِ، وَكَانَتْ رُتْبَتُهُمْ تَقَعُ بَيْنَ السُّلْطَةِ الحَاكِمَةِ وَالشَّعْبِ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَمَارِي. وَلِأَنَّ كَهَنَةَ فَارِسَ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِعِلْمِ النُّجُومِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَمْتَلِكُونَ مَعْرِفَةً وَسُلْطَانًا خَفِيَّيْنِ، أَصْبَحَتْ كَلِمَةُ μάγοι فِي اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ تُسْتَعْمَلُ أَحْيَانًا بِمَعْنَى السَّاحِر. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ السَّلْبِيِّ اسْتُعْمِلَتِ الكَلِمَةُ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (8: 9، 11؛ 13: 6، 8)، حَيْثُ تُرْتَبَطُ بِالسِّحْرِ وَالخِدَاعِ. أَمَّا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (2: 1)، فَيَسْتَعْمِلُ الإِنْجِيلِيُّ نَفْسَ اللَّفْظِ لِيُشِيرَ إِلَى حُكَمَاءِ مِنَ المَشْرِقِ جَاءُوا لِيَسْجُدُوا لِلْمَسِيحِ، فَيُحَوِّلُ الْمَعْنَى مِنْ دَلالَتِهِ السِّلْبِيَّةِ إِلَى دَلالَةٍ خَلَاصِيَّةٍ، حَيْثُ يُصْبِحُ المَجُوسُ شُهُودًا لِنُورِ اللهِ الَّذِي يَجْذِبُ الأُمَمَ إِلَى الْمَسِيحِ. وَكَانَ المَجُوسُ فِي خِدْمَةِ دِيَانَةِ زَرَادُشْت، وَعُرِفُوا بِلِبَاسِهِمُ الخَاصِّ وَبِحَيَاتِهِمِ المُنْعَزِلَةِ نِسْبِيًّا عَن بَقِيَّةِ الشَّعْبِ. وَمِنْ جُمْلَةِ وَظَائِفِهِمِ الدِّينِيَّةِ إِبْقَاءُ النَّارِ مُتَّقِدَةً عَلَى مَذْبَحِ أَهُورَا مَزْدَا (أُورْمَزْد)، وَمُقَاوَمَةُ شَرِّ أَهْرِيمَان، رَمْزِ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ. وَكَانُوا يَقُدِّسُونَ العَنَاصِرَ الأَرْبَعَةَ: النَّارَ، وَالمَاءَ، وَالتُّرَابَ، وَالهَوَاءَ، وَخَاصَّةً النَّارَ الَّتِي كَانَتْ مَحْوَرَ عِبَادَتِهِمْ. وَمِنْ عَادَاتِهِمِ الجِنَازِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُحْرِقُونَ أَجْسَادَ المَوْتَى وَلَا يَدْفِنُونَهَا فِي التُّرَابِ، بَلْ يَضَعُونَهَا فِي مَوَاضِعَ مُرْتَفِعَةٍ لِتَأْكُلَهَا جَوَارِحُ الطُّيُورِ. وَكَانَ المَجُوسُ يُعَدُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ الفَارِسِيَّةِ، يُدَرِّسُونَ الفَلْسَفَةَ وَعِلْمَ الهَيْئَةِ وَغَيْرَهَا مِنَ العُلُومِ المَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَيُظْهِرُ سِيَاقُ مَتَّى (2: 1–12) أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً وَذَاتَ مَكَانَةٍ فِي زَمَنِ وِلَادَةِ المَسِيحِ. وَرَغْمَ أَنَّهُ لَا يُعْلِنُ الإِنْجِيلُ بِوُضُوحٍ مَوْطِنَهُمُ الأَصْلِيَّ، فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ أَنَّهُمْ تَعَرَّفُوا إِلَى خَبَرِ مَجِيءِ المَسِيحِ مِنْ خِلَالِ اليَهُودِ المُتَشَتِّتِينَ فِي المَشْرِقِ. وَبِذَلِكَ، يُعَدُّ المَجُوسُ بَاكُورَةَ الوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ دَخَلُوا إِلَى نُورِ الإِيمَانِ، وَعَلَامَةً مُبَكِّرَةً عَلَى أَنَّ خَلَاصَ المَسِيحِ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ. وَمِنْ هُنَا أَقَامَتِ الكَنِيسَةُ عِيدَ ظُهُورِ الرَّبِّ لِلأُمَمِ فِي السَّادِسِ مِنْ شَهْرِ كَانُونِ الثَّانِي، تِذْكَارًا لِزِيَارَتِهِمْ وَإِعْلَانِ المَسِيحِ نُورًا لِلْعَالَمِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "تَرَاءَى"، ففي الأصل اليوناني ὤφθη / ἐφάνη وليس φαίνεται وهي أفعال تدلّ على ظهورٍ مفاجئٍ ومُبادِر من الله، وحيٍ يتجاوز المنطق البشري في لحظة خطرٍ أو تهديدٍ أو قرارٍ مصيريّ، ويتطلّب طاعة فوريّة. وهي بذلك تعبّر عن نعمة الله المبادِرة التي يتدخّل بها ليحمي تدبيره الخلاصي. إنّه وحيٌ لا يُناقَش بل يُطاع، على مثال ظهورات الله لموسى في سفر الخروج، حين كان الشعب مهدَّدًا وكان التدخّل الإلهيّ حاسمًا. ويقابل ذلك فعل "ظَهَرَ" في إنجيل لوقا، ففي الأصل اليوناني ἐνεφανίσθη، (1:11) حيث لا يكون التركيز على التدخّل الطارئ، بل على كشف التدبير الإلهي وإعلانه للعالم. فالظهور هنا يدلّ على حدثٍ يُدرَك ضمن مسار الخلاص، مرتبط بالزمان والمكان، وببداية رسالة أو انتقال مرحلة في تاريخ الخلاص، ويتطلّب لا طاعة فوريّة فقط، بل إصغاءً عميقًا ومسيرة إيمانٍ وشهادة. هكذا، يتدخّل الله في متّى لينقذ التدبير، ويكشفه في لوقا ليُعلَن ويُعاش.
أَمَّا عِبَارَةُ "مَلَاكُ الرَّبِّ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἄγγελος κυρίου، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ العِبْرِيَّةِ מַלְאַךְ (وَمَعْنَاهَا: رَسُول)، فَتُشِيرُ إِلَى مَلَاكٍ مِنَ الرَّبِّ، وَبِالتَّحْدِيدِ إِلَى أَرْوَاحٍ خَادِمَةٍ مُرْسَلَةٍ لِلْخِدْمَةِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ الَّذِينَ سَيَرِثُونَ الخَلَاصَ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "أَمَا هُمْ كُلُّهُمْ أَرْوَاحٌ مُكَلَّفُونَ بِالخِدْمَةِ، يُرْسَلُونَ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ سَيَرِثُونَ الخَلَاصَ؟" (عِبْرَانِيِّينَ 1: 14). وَيُؤَكِّدُ الكِتَابُ المُقَدَّسُ أَنَّ المَلَائِكَةَ كَانُوا يَأْتُونَ بِخِدْمَاتِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ شَعْبِ اللهِ؛ فَظَهَرَ مَلَاكٌ لِهَاجَرَ (التَّكْوِينِ 16: 7)، وَثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ لِإِبْرَاهِيمَ (التَّكْوِينِ 18: 2–22)، وَظَهَرَ مَلَاكٌ لِبِلْعَامَ (العَدَدِ 22: 22)، وَلِيَشُوعَ (يَشُوعَ 5: 14)، وَلِامْرَأَةِ مَنُوحَ (القُضَاةِ 13: 3)، وَلِحِزْقِيَالَ النَّبِيِّ (حِزْقِيَالَ 10)، وَلِشَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدِ نَغُو فِي الأُتُونِ (دَانِيَالَ 3: 25، 28)، وَلِدَانِيَالَ فِي جُبِّ الأُسُودِ (دَانِيَالَ 6: 22)، وَلِزَكَرِيَّا (لُوقَا 1: 11)، وَلِمَرْيَمَ (لُوقَا 1: 26–27)، وَلِلرُّعَاةِ (لُوقَا 2: 8–15)، وَلِيُوسُفَ (مَتَّى 2: 13)، وَلِلْمَسِيحِ عِنْدَ تَجْرِبَتِهِ (مَتَّى 4: 11)، وَفِي جِهَادِهِ فِي البُسْتَانِ (لُوقَا 22: 43)، وَعِنْدَ قِيَامَتِهِ (مَتَّى 28: 2). وَسَيَحْضُرُونَ فِي الدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ (مَتَّى 13: 14). وَكَلَّمَ مَلَاكُ الرَّبِّ فِيلِبُّسَ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 8: 26)، وَأَتَى إِلَى بُطْرُسَ فِي السِّجْنِ وَخَلَّصَهُ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 12: 7–10)، وَظَهَرَتْ مَلَائِكَةٌ لِيُوحَنَّا (رُؤْيَا 1: 1–7). وَيُسْتَدَلُّ عَلَى عَدَدِ المَلَائِكَةِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى (26: 53)، وَعَلَى قُوَّتِهِمْ مِنْ سِفْرِ المَزَامِيرِ (103: 20)، وَعَلَى سُرْعَتِهِمْ مِنْ سِفْرِ القُضَاةِ (13: 20)، وَعَلَى وَظِيفَتِهِمْ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى (18: 10). وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَلَائِكَةٌ لِحِرَاسَتِهِمْ (مَتَّى 18: 10)، كَمَا يُشَارِكُ المَلَائِكَةُ المُخَلَّصِينَ فِي المَجْدِ (عِبْرَانِيِّينَ 12: 22)، وَهُمْ حَصَّادُو النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ (مَتَّى 25: 31–33). وَمَعَ كُلِّ مَا لَهُمْ مِنْ مَجْدٍ وَبَهَاءٍ، فَهُمْ غَيْرُ جَدِيرِينَ بِالعِبَادَةِ (كُولُوسِّي 2: 18).
أَمَّا عِبَارَةُ "يُوسُفَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἰωσὴφ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الاسْمِ العِبْرِيِّ יוֹסֵף (وَمَعْنَاهُ: يَزِيدُ)، فَتُشِيرُ إِلَى زَوْجِ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ أُمِّ يَسُوعَ (مَتَّى 1: 16؛ لُوقَا 3: 23)، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ، مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ (مَتَّى 1: 20). هَاجَرَ إِلَى النَّاصِرَةِ (لُوقَا 2: 4)، وَمَارَسَ فِيهَا مِهْنَةَ النِّجَارَةِ (مَتَّى 13: 55). وَكَانَ يُوسُفُ عِبْرَانِيًّا بَارًّا، مُحَافِظًا عَلَى الفُرُوضِ وَالطُّقُوسِ اليَهُودِيَّةِ (لُوقَا 2: 21–24)، وَعَلَى الأَعْيَادِ اليَهُودِيَّةِ (لُوقَا 2: 41 وَمَا بَعْدُ). وَقَدِ اتَّصَفَ بِالرِّقَّةِ وَالشَّهَامَةِ، وَأَظْهَرَ نُبْلَ أَخْلَاقِ الأَبِ العَطُوفِ فِي زِيَارَةِ الرُّعَاةِ (لُوقَا 2: 16)، وَعِنْدَ اضْطِرَارِ العَائِلَةِ لِلْهُرُوبِ إِلَى مِصْرَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَتِهَا (مَتَّى 2: 13–15)، وَلَدَى مُشَاطَرَتِهِ الحَدَبَ الأَبَوِيَّ عَلَى يَسُوعَ (لُوقَا 2: 48)، وَفِي فَهْمِ الجُمْهُورِ لِهَذِهِ العَلَاقَةِ (يُوحَنَّا 1: 45). وَيَغْلِبُ الظَّنُّ أَنَّ يُوسُفَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ يَسُوعُ فِي خِدْمَتِهِ العَلَنِيَّةِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "الحُلْمِ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَفْكَارٍ وَصُوَرٍ تَخْطُرُ لِلْعَقْلِ أَثْنَاءَ النَّوْمِ، يَسْتَخْدِمُهَا اللهُ كَوَسِيلَةٍ وَحْيِيَّةٍ لِتَبْلِيغِ مَقَاصِدِ مَلَكُوتِهِ، فَتُصْبِحُ أَدَاةً إِلَهِيَّةً تَصِلُ مِنْ خِلَالِهَا تَنْبِيهَاتُهُ وَإِرَادَتُهُ إِلَى شَعْبِهِ فِي لَحَظَاتٍ مَصِيرِيَّةٍ. وَيَحْمِلُ الحُلْمُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ بُعْدًا لَاهُوتِيًّا عَمِيقًا، إِذْ لَا يَكُونُ مُجَرَّدَ نِتَاجٍ نَفْسِيٍّ، بَلْ مَجَالًا لِمُبَادَرَةِ اللهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ حَيْثُ يَصْمُتُ الإِنْسَانُ وَتَسْكُنُ مُقَاوَمَتُهُ. هَكَذَا نَرَى أَنَّ اللهَ أَلْقَى سُبَاتًا عَمِيقًا عَلَى آدَمَ، وَفِي حَالَةِ النَّوْمِ عَمِلَ عَمَلَ الخَلْقِ، فَكَوَّنَ حَوَّاءَ مِنْ أَضْلَاعِهِ (تكوين 2: 21–22)، مُعْلِنًا أَنَّ أَعْمَالَهُ الخَلَاصِيَّةَ تُنْجَزُ أَحْيَانًا فِي صَمْتِ الإِنْسَانِ وَعَجْزِهِ. وَكَذَلِكَ أَغْمَضَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ فِي سُبَاتٍ، وَفِي ذَلِكَ النَّوْمِ عَقَدَ مَعَهُ عَهْدَهُ (تكوين 15: 12–18)، مُثَبِّتًا وَعْدَهُ الإِلَهِيَّ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لِلإِنْسَانِ دَوْرٌ إِلَّا القَبُولَ وَالثِّقَةَ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يُفْهَمُ الحُلْمُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى كَوَسِيلَةِ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ هَادِئٍ وَلَكِنْ حَاسِمٍ، يُوَجِّهُ يُوسُفَ فِي طَاعَةٍ عَمَلِيَّةٍ فَوْرِيَّةٍ، وَيُدْخِلُهُ فِي تَدْبِيرِ اللهِ الخَلَاصِيِّ دُونَ جِدَالٍ أَوْ كَلَامٍ، بَلْ بِالإِصْغَاءِ وَالطَّاعَةِ. وفي هذا الحُلْمُ الثَّانِي قَدْ عَرَّفَهُ ملاك الرب كَيْفَ يُحَافِظُ عَلَى حَيَاةِ الصَّبِيِّ. وَمَعَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنِ الأَبَ الطَّبِيعِيَّ لِيَسُوعَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِمَثَابَةِ وَلِيِّ أَمْرِهِ، فَكَانَ مَسْؤُولًا عَنْ حِمَايَتِهِ وَسَلَامَتِهِ. إِنَّ الإِرْشَادَ الإِلَهِيَّ لَا يَأْتِي إِلَّا لِلْقُلُوبِ المُعَدَّةِ، وَمُنْذُ الحُلْمِ الأَوَّلِ ظَلَّ يُوسُفُ يَتَقَبَّلُ إِرْشَادَ اللهِ دُونَ أَنْ يُصَابَ بِالكِبْرِيَاءِ. وَهَذِهِ الأَحْلَامُ أَوَّلًا يَقْصِدُ بِهَا أَنْ تُؤَثِّرَ عَلَى الحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ لِلأَفْرَادِ، مِثْلَ حُلْمِ جِدْعُونَ الَّذِي شَجَّعَهُ (قُضَاةِ 7: 13). وَثَانِيًا أَحْلَامٌ تَوْجِيهِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ؛ فَقَدْ أُرْسِلَتِ الإِعْلَانَاتُ الإِلَهِيَّةُ فِي أَحْلَامٍ إِلَى أَبِيمَالِك (تَكْوِينِ 20: 3)، وَإِلَى يَعْقُوبَ (تَكْوِينِ 28: 12)، وَإِلَى لَابَانَ (تَكْوِينِ 31: 24)، وَإِلَى يُوسُفَ (تَكْوِينِ 37: 5)، وَإِلَى سَاقِي فِرْعَوْنَ وَخَبَّازِهِ (تَكْوِينِ 40: 5)، وَإِلَى فِرْعَوْنَ (تَكْوِينِ 41: 7)، وَإِلَى سُلَيْمَانَ (1 مُلُوكِ 3: 5)، وَإِلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ (دَانِيَالَ 2: 1)، وَإِلَى دَانِيَالَ (دَانِيَالَ 7: 1–2)، وَإِلَى يُوسُفَ خَطِيبِ مَرْيَمَ (مَتَّى 1: 20)، وَإِلَى المَجُوسِ (مَتَّى 2: 12). وَقَدْ تُسْتَخْدَمُ كَلِمَةُ الرُّؤَى بِمَعْنَى الحُلْمِ (تَكْوِينِ 46: 2)، عَلَى أَنَّهَا غَالِبًا مَا تُشِيرُ إِلَى مَا يُعْلَنُ لِلرَّائِي وَهُوَ يَقِظٌ (2 مُلُوكِ 6: 17؛ أَعْمَالُ 18: 9؛ لُوقَا 1: 22).
أَمَّا عِبَارَةُ "هِيرُودُسَ" فَتُشِيرُ إِلَى هِيرُودُسَ الكَبِيرِ، وَهُوَ الِابْنُ الثَّانِي لِأَنْتِيبَاتَرَ، الأَدُومِيِّ الأَصْلِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ أَدُومِيَّةً أَيْضًا، لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا مِنْ نَاحِيَةِ الجِنْسِ، مَعَ أَنَّ الأَدُومِيِّينَ كَانُوا قَدْ رَضَخُوا لِلْمَذْهَبِ اليَهُودِيِّ بِالقُوَّةِ مُنْذُ سَنَةِ 125 ق.م. وَكَانَ قَيْصَرُ قَدْ عَيَّنَ هِيرُودُسَ حَاكِمًا عَلَى اليَهُودِيَّةِ سَنَةَ 37 ق.م. (مَتَّى 2: 1–23). وَرَدَ اسْمُهُ تِسْعَ مَرَّاتٍ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ. وَقَسَّمَ هِيرُودُسُ فِلَسْطِينَ بَيْنَ أَبْنَائِهِ الخَمْسَةِ. وَكَانَ قَاسِيَ القَلْبِ، عَدِيمَ الشَّفَقَةِ، يَسْعَى وَرَاءَ مَصْلَحَتِهِ، وَلَا يَتَرَاجَعُ مَهْمَا كَانَتِ الخَسَائِرُ. وَلَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ لِلْحَقِيقَةِ، وَلَا يَنْتَبِهُ إِلَى صُرَاخِ المَظْلُومِينَ، وَاشْتُهِرَ بِكَثْرَةِ الحِيَلِ. وَقَتَلَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ وَأَبْنَاءٍ وَأَقَارِبَ خَوْفًا مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ. غَيْرَ أَنَّهُ بَنَى أَمَاكِنَ كَثِيرَةً فِي فِلَسْطِينَ: مُدُنًا وَشَوَارِعَ وَأَبْنِيَةً، لِتَخْلِيدِ اسْمِهِ، وَأَنْفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَمْوَالًا طَائِلَةً. وَمِنْ أَشْهَرِهَا مَدِينَةُ قَيْصَرِيَّةَ الَّتِي بَنَاهَا عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ المُتَوَسِّطِ، وَسَمَّاهَا كَذَلِكَ تَكْرِيمًا لِأُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ. ثُمَّ رَمَّمَ مَدِينَةَ السَّامِرَةِ بَعْدَ أَنْ تَهَدَّمَتْ، وَسَمَّاهَا سَبَسْطِيَّةَ، أَيْ مَدِينَةَ أُوغُسْطُسَ. وَحَصَّنَ القُدْسَ وَزَيَّنَهَا بِالمَلَاعِبِ وَالقُصُورِ. وَبَدَأَ فِي تَرْمِيمِ الهَيْكَلِ فِي القُدْسِ وَتَزْيِينِهِ. وُلِدَ يَسُوعُ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نِقْمَةُ الشَّعْبِ عَلَيْهِ قَدْ تَفَاقَمَتْ، وَبَعْدَ أَنْ بَلَغَ خَوْفُهُ مِنْ مُنَافَسَةِ أَعْدَائِهِ أَشَدَّهُ، الأَمْرُ الَّذِي أَسْرَعَ بِقَتْلِ جَمِيعِ الأَطْفَالِ فِي بَيْتِ لَحْمٍ، حَتَّى لَا يَنْجُوَ ابْنُ دَاوُدَ، وَلَا يَمْلِكَ عَلَى اليَهُودِ وَيَتَرَبَّعَ عَلَى عَرْشِهِ (مَتَّى 2). وَلَكِنَّ الوَقْتَ لَمْ يُمْهِلْهُ كَثِيرًا؛ إِذْ مَرِضَ مَرَضًا خَطِيرًا، وَسَافَرَ إِلَى شَرْقِيِّ الأُرْدُنِّ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِحَمَّامَاتِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرِيحَا أَسْوَأَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلًا. وَهُنَاكَ مَاتَ فِي السَّنَةِ السَّبْعِمِائَةِ وَالخَمْسِينَ لِتَأْسِيسِ رُومَا، مَا يُنَاسِبُ عَامَ 4 ق.م.، وَهُوَ فِي السَّبْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، بَعْدَ أَنْ مَلَكَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَدْ أَمَرَ عِنْدَ سَاعَةِ مَوْتِهِ بِقَتْلِ وُجَهَاءِ القُدْسِ، حَتَّى يَعُمَّ الحُزْنُ المَدِينَةَ، وَلَا يَبْتَهِجَ أَحَدٌ مِنَ السُّكَّانِ بِمَوْتِ مَلِكِهِ المَكْرُوهِ.
أمَّا فِعْلُ "قُمْ" فَهُوَ فِعْلُ نُهُوضٍ وَطَاعَة، يُسْتَعْمَلُ كِتَابِيًّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ السُّكُونِ إِلَى الفِعْل، وَمِنَ الِانْتِظَارِ إِلَى الرِّسَالَة. إِنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى تَحَرُّكٍ فَوْرِيّ، بِلَا تَرَدُّدٍ أَوْ مُسَاوَمَة. وَفِي سِيَاقِ إِنْجِيلِ مَتَّى، يَحْمِلُ هَذَا الفِعْلُ بُعْدًا فِصْحِيًّا عَمِيقًا: قِيَامٌ مِنْ أَجْلِ الحَيَاة. فَالطَّاعَةُ هُنَا لَيْسَتْ فِكْرَةً نَظَرِيَّة، بَلْ حَرَكَةٌ جَسَدِيَّة وَتَارِيخِيَّة تُنْقِذُ الطِّفْلَ، وَتُدْخِلُ الإِنْسَانَ فِي تَدْبِيرِ اللهِ الخَلَاصِيّ. وفي الواقع، يدعو ملا ل الرب يوسف للحماية حياة يسوع.
أَمَّا فِعْلُ "اهْرُبْ" فَقَدْ يَبْدُو، ظَاهِرِيًّا، فِعْلَ ضَعْفٍ، لَكِنَّهُ فِي المَنْطِقِ الكِتَابِيِّ فِعْلُ حِكْمَةٍ وَخُضُوعٍ لِمَشِيئَةِ الله. فَالْهُرُوبُ هُنَا لَيْسَ هُرُوبًا مِنَ الإِيمَان، بَلْ هُرُوبًا مِنَ العُنْفِ حِفَاظًا عَلَى الحَيَاة. إِنَّهُ يُعْلِنُ أَنَّ الخَلَاصَ لَا يَتَحَقَّقُ بِالمُوَاجَهَةِ القَاتِلَة، بَلْ بِالسَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَحُدِّدُهُ الله، وَلَوْ بَدَا طَرِيقَ انْسِحَاب. وَهَكَذَا يَصِيرُ "الهُرُوبُ" شَكْلًا مِنْ أَشْكَالِ الطَّاعَةِ المُخَلِّصَة، وَمُشَارَكَةً فِي تَدْبِيرِ الخَلَاص، لَا تَرَاجُعًا عَنْهُ.
14 فقامَ فأَخَذَ الطِّفْل وأُمَّه لَيلاً ولَجَأَ إلى مِصْر.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَقَامَ فَأَخَذَ الطِّفْلَ" إِلَى أَمْرِ اللهِ وَخُضُوعِ الإِنْسَانِ لِإِرَادَتِهِ؛ فَمِنْ خِلَالِ الحُلْمِ يَقُودُ اللهُ شَعْبَهُ إِلَى الخَلَاصِ (التَّكْوِينِ 18: 1). وَهَكَذَا رَحَلَتِ العَائِلَةُ المُقَدَّسَةُ مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ إِلَى مِصْرَ، حَيْثُ نَجَتْ مِنَ القَتْلِ وَوُفِّرَتْ لَهَا الحِمَايَةُ.
أَمَّا عِبَارَةُ "قَامَ"، فَتُشِيرُ إِلَى يُوسُفَ الَّذِي أَصْغَى إِلَى كَلِمَةِ اللهِ وَاسْتَجَابَ لَهَا بِطَاعَةٍ فَوْرِيَّةٍ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِالسَّمَاعِ، بَلْ هَمَّ بِالانْطِلَاقِ وَالدُّخُولِ فِي الفِعْلِ عَلَى ضَوْءِ الإِرَادَةِ الإِلَهِيَّةِ. إِنَّهُ قِيَامُ الإِيمَانِ الَّذِي يُتَرْجِمُ الوَحْيَ إِلَى حَرَكَةٍ وَقَرَارٍ وَمَسِيرَةٍ. وَيَتَوَازَى هَذَا القِيَامُ مَعَ مَا نَرَاهُ فِي شَخْصِ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ، الَّتِي، بَعْدَ زِيَارَةِ المَلاَكِ لَهَا، "قَامَتْ وَانْطَلَقَتْ مُسْرِعَةً" (لوقا 1: 39)، فَكَانَ قِيَامُهَا أَيْضًا اسْتِجَابَةً فِعْلِيَّةً لِكَلِمَةِ اللهِ، لا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، بَلْ تَنْدَفِعُ نَحْوَ الخِدْمَةِ وَالشَّهَادَةِ. وَبِهَذَا، يُصْبِحُ فِعْلُ "قَامَ" فِي الحَالَتَيْنِ تَعْبِيرًا عَنْ إِيمَانٍ حَيٍّ لَا يَبْقَى سَاكِنًا، بَلْ يَنْهَضُ لِيُطِيعَ، وَيَنْطَلِقَ لِيَخْدِمَ، وَيَدْخُلَ فِي مَسِيرَةِ الخَلَاصِ. فَالطَّاعَةُ الحَقِيقِيَّةُ، سَوَاءٌ عِنْدَ يُوسُفَ أَوْ عِنْدَ مَرْيَمَ، هِيَ دَائِمًا قِيَامٌ مِنَ الذَّاتِ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ، وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الحَرَكَةِ فِي نُورِ كَلِمَتِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "مِصْرَ" فَهِيَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، عَلَى الأَرْجَحِ، مِنِ اسْمِ مِنْفِيسَ فِي اللُّغَةِ المِصْرِيَّةِ القَدِيمَةِ، (حِي–كُو–بِتَاح وَمَعْنَاهُ: " بَيْتُ رُوحِ بِتَاح") وَقَدْ صَارَ هَذَا الاسْمُ فِي اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ Αἴγυπτος ، وَمِنْهُ جَاءَ الاسْمُ اللَّاتِينِيُّ Egyptأَيْ: قِبْطِيّ. أَمَّا المِصْرِيُّونَ القُدَمَاءُ فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى بِلَادِهِمْ عِدَّةَ أَسْمَاءٍ، مِنْهَا "كِيمِي"، وَتَعْنِي الأَرْضَ السَّوْدَاءَ، ثُمَّ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ "الأَرْضَيْنِ"، أَيْ: مِصْرَ العُلْيَا وَمِصْرَ السُّفْلَى. أَمَّا اسْمُ البِلَادِ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ فَهُوَ مِصْرُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ اسْمِهَا فِي اللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ מִצְרַיִם، وَتُشِيرُ صِيغَةُ المُثَنَّى، عَلَى الأَرْجَحِ، إِلَى مِصْرَ العُلْيَا وَمِصْرَ السُّفْلَى. وَتَدُلُّ مِصْرُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ عَلَى مَلْجَإٍ لِكَثِيرٍ مِنَ الهَارِبِينَ؛ فَقَدْ هَرَبَ إِلَيْهَا يَعْقُوبُ (التَّكْوِينِ 27: 43–45)، وَلُوطٌ (التَّكْوِينِ 19: 15)، وَمُوسَى (الخُرُوجِ 2: 15)، كَمَا هَرَبَ يَرُبْعَامُ إِلَى مِصْرَ (1 مُلُوكِ 11: 40). وَلَمْ يَكُنِ الذَّهَابُ إِلَى مِصْرَ أَمْرًا شَاذًّا فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ، إِذْ كَانَتْ فِيهَا عِدَّةُ جَالِيَاتٍ يَهُودِيَّةٍ مُنْتَشِرَةٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ المُدُنِ الرَّئِيسِيَّةِ. وَقَدْ بَدَأَ وُجُودُ هَذِهِ الجَالِيَاتِ مُنْذُ فَتْرَةِ السَّبْيِ الكَبِيرِ (إِرْمِيَا 43–44).
15 فأَقامَ هُناكَ إلى وَفاةِ هيرودُس، لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: ((مِن مِصْر دَعَوتُ ابني)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَفَاةِ هِيرُودُسَ" إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ إِثْرَ مَرَضٍ عَدِيمِ الشِّفَاءِ، وَذَلِكَ سَنَةَ 4 ق.م.، وَهُوَ تَأْرِيخٌ يَتَّفِقُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي المَصَادِرِ التَّارِيخِيَّةِ. وَيَرْتَبِطُ هَذَا التَّأْرِيخُ بِخَطَإٍ فِي تَقْدِيرِ حِسَابِ سِنِيِّ العَصْرِ المَسِيحِيِّ، الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا فِي القَرْنِ الرَّابِعِ المِيلَادِيِّ، إِذْ أَخْطَأَ دِيُونِيسِيُوسُ الصَّغِيرُ حِينَ رَبَطَ مِيلَادَ يَسُوعَ بِتَأْسِيسِ رُومَا. وَعَلَى ذَلِكَ، يَكُونُ يَسُوعُ قَدْ وُلِدَ عَلَى الأَرْجَحِ سَنَةَ 5 أَوْ 6 ق.م
أَمَّا عِبَارَةُ "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" فَتُشِيرُ إِلَى اقْتِبَاسٍ مِنَ النَّبِيِّ هُوشَعَ (11: 1)، وَهُوَ نِدَاءٌ يَتَوَجَّهُ فِي سِيَاقِهِ الأَصْلِيِّ إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ لِيَعُودَ مِنْ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى. وَلَكِنَّ الإِنْجِيلِيَّ مَتَّى، بِإِلْهَامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، طَبَّقَ هَذَا النَّصَّ عَلَى يَسُوعَ المَسِيحِ. فَكَمَا أَنَّ شَعْبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ بَعْدُ طِفْلٌ، نَزَلَ إِلَى مِصْرَ، كَذَلِكَ فَعَلَ يَسُوعُ. وَكَمَا قَادَ اللهُ شَعْبَهُ مِنْ مِصْرَ فِي الخُرُوجِ، كَذَلِكَ فَعَلَ مَعَ يَسُوعَ. وَبِخُرُوجِ يَسُوعَ مِنْ مِصْرَ، أَتَمَّ اللهُ مَسِيرَةَ خَلَاصِ شَعْبِهِ، مُسْتَشْهِدًا مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ هُوشَعَ: "وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي"(هُوشَعَ 11: 1). وَفِي نَظَرِ النَّبِيِّ هُوشَعَ، يَبْتَدِئُ تَارِيخُ إِسْرَائِيلَ الحَقِيقِيُّ بِالخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، حَيْثُ يَتَجَلَّى اللهُ كَإِلَهٍ مُخَلِّصٍ، وَيَتَكَوَّنُ الشَّعْبُ كَابْنٍ مَدْعُوٍّ إِلَى الحُرِّيَّةِ وَالعَهْدِ.
19 وما إن تُوُفِّيَ هيرودُس حتَّى تراءَى ملاكُ الرَّبِّ في الحُلْم لِيوسُف في مِصْر
يُشير فِعْلُ "تَرَاءَى، إلى مُبَادَرَةٍ إِلَهِيَّةٍ فَجَائِيَّةٍ، تَدَخُّلٍ سَمَاوِيٍّ يَأْتِي فِي اللَّحْظَةِ المُنَاسِبَةِ، لَا لِيُعْلِنَ مَعْلُومَةً فَحَسْب، بَلْ لِيُطْلِقَ أَمْرًا يَسْتَدْعِي طَاعَةً فَوْرِيَّةً. وَهُوَ نَفْسُ النَّمَطِ الَّذِي رَافَقَ يُوسُفَ فِي جَمِيعِ أَحْلَامِهِ: وَحْيٌ صَامِتٌ، وَأَمْرٌ وَاضِحٌ، وَطَاعَةٌ بِلاَ تَرَدُّدٍ.
أَمَّا ذِكْرُ "الحُلْمِ"، فَيُؤَكِّدُ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ اللهَ يَخَاطِبُ يُوسُفَ فِي فَضَاءِ الصَّمْتِ وَالِاسْتِسْلاَمِ، حَيْثُ يَغِيبُ الجِدَالُ وَتَسْكُنُ الحِسَابَاتُ البَشَرِيَّةُ. فَالحُلْمُ هُنَا لَيْسَ هَرَبًا مِنَ الوَاقِعِ، بَلْ دُخُولًا أَعْمَقَ فِي مَشِيئَةِ اللهِ.
وَأَخِيرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ "مِصْرَ" لَيْسَ تَفْصِيلًا جُغْرَافِيًّا فَحَسْب، بَلْ يَحْمِلُ بُعْدًا خَلَاصِيًّا عَمِيقًا: فَكَمَا خَرَجَ شَعْبُ اللهِ قَدِيمًا مِنْ مِصْرَ بَعْدَ مَوْتِ فِرْعَوْنَ، هَا هُوَ يَسُوعُ، إِسْرَائِيلُ الجَدِيدُ، يُدْعَى لِلْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِ هِيرُودُسَ. إِنَّهَا عَوْدَةُ الاِبْنِ مِنْ مَنْفَاهُ، وَبِدَايَةُ مَسِيرَةِ التَّحَقُّقِ العَلَنِيِّ لِلتَّدْبِيرِ الإِلَهِيّ.
تُشِيرُ هذِهِ الآية إِلَى لَحْظَةٍ حَاسِمَةٍ فِي تَدْبِيرِ اللهِ الخَلَاصِيّ، إِذْ يَرْتَبِطُ مَوْتُ هِيرُودُسَ بِنِهَايَةِ زَمَنِ الِاضْطِهَادِ وَالْخَوْفِ، وَبِبِدَايَةِ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ فِي مَسِيرَةِ الطِّفْلِ يَسُوعَ. فَسُلْطَانُ الطُّغْيَانِ، مَهْمَا بَدَا مُطْلَقًا، يَبْقَى مُقَيَّدًا بِزَمَنٍ يَسْمَحُ بِهِ اللهُ، وَيَسْقُطُ عِنْدَمَا تَكْتَمِلُ مَقَاصِدُهُ.
20 وقالَ له: ((قُمْ فَخُذِ الطِّفْل وأُمَّه واذهَبْ إلى أَرضِ إِسْرَائِيل، فقد ماتَ مَن كانَ يُريدُ إِهلاكَ الطِّفْل)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ" إِلَى حَرَكَتَيْنِ مُتَكَمِّلَتَيْنِ: الأَمْرِ وَتَنْفِيذِ الأَمْرِ. فَيُوسُفُ لَا يَكْتَفِي بِسَمَاعِ كَلِمَةِ المَلَاكِ، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى العَمَلِ بِهَا، فَتُصْبِحُ الطَّاعَةُ فِعْلًا حَيًّا يُتَرْجِمُ الإِيمَانَ إِلَى مَسِيرَة. وَهَكَذَا تَتَجَلَّى دِينَامِيَّةُ الخَلَاصِ فِي التَّلَاقِي الخَلَّاقِ بَيْنَ مَشِيئَةِ اللهِ وَاسْتِجَابَةِ الإِنْسَانِ. وَيَأْتِي أَمْرُ العَوْدَةِ بِصِيغَةٍ تُحَاكِي أَمْرَ الرَّبِّ لِمُوسَى: "اذْهَبْ، ارْجِعْ إِلَى مِصْرَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ"، فَيَتَقَدَّمُ يُوسُفُ هُنَا كَحَامِلٍ لِلتَّدْبِيرِ الخَلَاصِيّ، يُنَفِّذُ الكَلِمَةَ كَمَا نَفَّذَهَا مُوسَى، لَا بِالقُوَّةِ بَلْ بِالطَّاعَة.
أَمَّا عِبَارَةُ "اذهَبْ أَرْضِ إِسْرَائِيلَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἰσραήλ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الاسْمِ العِبْرِيِّ יִשְׂרָאֵל (ِمَعْنَى: يُجَاهِدُ مَعَ الله أَو اللهُ يُجَاهِد)، فَتُشِيرُ إِلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ التَّارِيخِيَّة، أَيْ إِلَى الأَرَاضِي الوَاقِعَةِ غَرْبَ نَهْرِ الأُرْدُنِّ، وَهِيَ أَرْضُ الوَعْدِ وَمَسْرَحُ تَدَخُّلِ اللهِ فِي تَارِيخِ الإِنْسَانِ. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الأَرْضَ لَا تُفْهَمُ فِي الكِتَابِ كَمُعْطًى جُغْرَافِيٍّ أَوْ ضَمَانٍ آلِيّ، بَلْ كَمَجَالٍ لِلْحُضُورِ الإِلَهِيّ وَلِاسْتِئْنَافِ مَسَارِ الخَلَاصِ. وَفِي هَذَا السِّيَاق، يَرَى أوريجانوس أَنَّ عَوْدَةَ المَسِيحِ مِنْ مِصْرَ لَا تُفْهَمُ كَحَدَثٍ جُغْرَافِيٍّ فَحَسْب، بَلْ كَإِعْلَانٍ رَمْزِيٍّ لِـخُرُوجٍ جَدِيد، فِيهِ "لَا يُخْرِجُ اللهُ شَعْبًا مِنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْن، بَلْ يُحَرِّرُ الإِنْسَانِيَّةَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الخَطِيئَة". فَالمَسِيحُ، بِحَسَبِهِ، "يَدْخُلُ الأَرْضَ لِيُقَدِّسَهَا بِحُضُورِهِ، وَيُحَوِّلَ تَارِيخَهَا إِلَى مَسَارِ خَلَاص". وَيُضِيفُ كيرلس الإسكندري أَنَّ المَسِيحَ، بِدُخُولِهِ أَرْضَ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ طَالِبِي نَفْسِهِ، «يُعِيدُ كِتَابَةَ تَارِيخِ الخَلَاصِ مِنْ جَدِيد، لَا بِالسَّيْفِ بَلْ بِالطَّاعَة»، فَيَتَحَقَّقُ الخُرُوجُ لَا كَحَدَثٍ سِيَاسِيّ، بَلْ كَتَحْرِيرٍ رُوحِيٍّ شَامِل، يَقُودُ الإِنْسَانَ مِنَ العُبُودِيَّةِ إِلَى حُرِّيَّةِ البُنُوَّة.
أَمَّا عِبَارَةُ "فَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ إِهْلَاكَ الطِّفْلِ" فَتُحِيلُ، فِي بُعْدِهَا الرَّمْزِيِّ، إِلَى خَبَرِ مَنْفَى مُوسَى فِي أَرْضِ مِدْيَنَ، حِينَ قَالَ الرَّبُّ لَهُ: "اذْهَبْ، ارْجِعْ إِلَى مِصْرَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ" (الخُرُوجِ 4: 19–23). وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ أَرْضُ المَوْعِدِ إِلَى أَرْضِ ضِيقٍ، وَيُضْطَرُّ البَارُّ إِلَى الهُرُوبِ حَتَّى تَحِينُ سَاعَةُ العَوْدَةِ. وَبِهَذَا يَسِيرُ يَسُوعُ، بِشَكْلٍ رَمْزِيٍّ، فِي مَسِيرَةِ شَعْبِهِ: نُزُولٌ، وَهُرُوبٌ، وَعَوْدَةٌ، قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ فِي الجَلِيلِ، أَرْضِ الأُمَمِ، حَيْثُ سَيَبْدَأُ إِعْلَانَ الخَلَاصِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ.
تُشَكِّلُ هذه الآية ذُرْوَةَ الرَّبْطِ الَّذِي يُقِيمُهُ الإِنْجِيلِيُّ مَتَّى بَيْنَ شَخْصِ مُوسَى وَشَخْصِ يَسُوعَ، فَيُقَدِّمُ يَسُوعَ بُوصْفِهِ مُوسَى الجَدِيدَ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ المَسِيحَ المُخَلِّصَ. أَوَّلًا، يَسْتَخْدِمُ مَتَّى تَعْبِيرًا يَكادُ يَكُونُ نَقْلًا لَفْظِيًّا مِنْ سِفْرِ الخُرُوجِ، حِينَ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى فِي أَرْضِ مِدْيَنَ: "اذْهَبْ، ارْجِعْ إِلَى مِصْرَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ" (الخُرُوجِ 4: 19). وَهَكَذَا يَجْعَلُ مَتَّى قِصَّةَ يَسُوعَ تَسِيرُ عَلَى خُطَى قِصَّةِ مُوسَى: مُوسَى: طِفْلٌ مُهَدَّدٌ بِقَرَارِ قَتْلٍ، يُخَلَّصُ بِتَدَخُّلٍ إِلَهِيٍّ، يَهْرُبُ، ثُمَّ يَعُودُ لِيُخَلِّصَ الشَّعْبَ. يَسُوعُ: طِفْلٌ مُهَدَّدٌ بِقَرَارِ هِيرُودُسَ، يُخَلَّصُ بِتَدَخُّلٍ إِلَهِيٍّ، يَهْرُبُ إِلَى مِصْرَ، ثُمَّ يَعُودُ لِيُحَقِّقَ الخَلَاصَ النِّهَائِيَّ.
ثَانِيًا، يَكْشِفُ هَذَا التَّوَازِي أَنَّ يَسُوعَ لَا يَسْتَأْنِفُ تَارِيخَ إِسْرَائِيلَ فَقَطْ، بَلْ يُعِيدُ تَكْوِينَهُ وَيُتِمُّهُ. فَإِذَا كَانَ مُوسَى قَدْ قَادَ الشَّعْبَ مِنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْنَ إِلَى حُرِّيَّةِ العَهْدِ، فَإِنَّ يَسُوعَ يَقُودُ الشَّعْبَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الخَطِيئَةِ وَالمَوْتِ إِلَى حُرِّيَّةِ البُنُوَّةِ الإِلَهِيَّةِ.
ثَالِثًا، يُظْهِرُ مَتَّى أَنَّ أَرْضَ إِسْرَائِيلَ، الَّتِي هِيَ أَرْضُ الوَعْدِ، تَصِيرُ فِي زَمَنِ هِيرُودُسَ أَرْضَ خَطَرٍ وَتَهْدِيدٍ، كَمَا كَانَتْ مِصْرُ أَرْضَ عُبُودِيَّةٍ فِي زَمَنِ مُوسَى. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الجُغْرَافِيَا لَا تُخَلِّصُ، بَلْ حُضُورُ اللهِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ أَرْضَ الخَلَاصِ. فَحَيْثُ يَكُونُ يَسُوعُ، هُنَاكَ يَكُونُ الخُرُوجُ الجَدِيدُ.
وَأَخِيرًا، فَإِنَّ عَوْدَةَ يَسُوعَ مِنْ مِصْرَ بَعْدَ مَوْتِ الطَّاغِيَةِ تُعْلِنُ حَقِيقَةً لَاهُوتِيَّةً عَمِيقَةً: مَوْتُ قُوَى الشَّرِّ هُوَ الشَّرْطُ لِبِدَايَةِ الخَلَاصِ. فَمَا كَمَا سَقَطَ فِرْعَوْنُ لِيَبْدَأَ عَهْدُ الحُرِّيَّةِ، سَيَسْقُطُ كُلُّ طُغْيَانٍ أَمَامَ مَلِكُوتِ الطِّفْلِ الَّذِي سَيَصِيرُ المَصْلُوبَ القَائِمَ. وهَكَذَا يَقْدِّمُ مَتَّى يَسُوعَ لَا كَمُجَرَّدِ شَبَهٍ بِمُوسَى، بَلْ كَذَاكَ الَّذِي يُتِمُّ فِيهِ اللهُ كُلَّ مَا بَدَأَهُ مَعَ مُوسَى: خُرُوجٌ نَهَائِيٌّ، وَعَهْدٌ جَدِيدٌ، وَخَلَاصٌ شَامِلٌ.
21 فقامَ فأَخذَ الطِّفْل وأُمَّه ودَخَلَ أَرضَ إِسْرَائِيل.
يُشِيرُ فِعْلُ "فَقَامَ" في الأصل اليوناني ἐγερθεὶς إِلَى يُوسُفَ الَّذِي أَطَاعَ فَوْرًا، بِلا تَرَدُّدٍ، لِيَحْمِلَ الرِّسَالَةَ الَّتِي أُوكِلَتْ إِلَيْهِ. فَهُوَ لَا يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ فَحَسْب، بَلْ يَقُومُ إِلَى طَاعَةٍ فِعْلِيَّة تُدْخِلُهُ فِي مَسَارِ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيّ. وَهَكَذَا يَحْمِلُ هَذَا الفِعْلُ بُعْدًا فِصْحِيًّا وَاضِحًا: قِيَامٌ مِنَ السُّكُونِ إِلَى الحَيَاة، وَمِنَ الِانْتِظَارِ إِلَى الرِّسَالَة، فَيُصْبِحُ يُوسُفُ شَرِيكًا فِي عُبُورِ الخَلَاصِ، لا مُجَرَّدَ مُتَلَقٍّ لِلأَمْر.
أَمَّا عِبَارَةُ "الطِّفْلِ وَأُمِّهِ" َتُشِيرُ إِلَى اقْتِرَانٍ لا يَنْفَصِلُ بَيْنَ الِابْنِ وَأُمِّهِ، فَالأَمْرُ الإِلَهِيُّ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِنْقَاذِ الطِّفْلِ وَحْدَهُ، بَلْ بِحِفْظِ الوَحْدَةِ الأُسَرِيَّةِ كَمَجَالٍ لِلحَيَاةِ وَالخَلَاص. وَهَكَذَا تُبْرِزُ العِبَارَةُ أَوْلَوِيَّةَ الحَيَاةِ فِي ضُعْفِهَا، وَأَوْلَوِيَّةَ العَائِلَةِ كَإِطَارٍ أَوَّلِيٍّ يَتَجَسَّدُ فِيهِ تَدْبِيرُ اللهِ. فَالخَلَاصُ يَبْدَأُ بِحِمَايَةِ الحَيَاةِ، وَيَنْمُو فِي حِضْنِ عَائِلَةٍ مَحْمِيَّةٍ بِالطَّاعَةِ وَالإِيمَان.
أَمَّا فِعْلُ "أَخَذَ" فَيُشِيرُ إِلَى فِعْلِ رِعَايَةٍ وَأَمَانَةٍ وَحِمَايَةٍ وَحِرَاسَة. فَيُوسُفُ لَا "يَذْهَبُ" وَحْدَهُ، بَلْ يَحْمِلُ مَعَهُ الوَدِيعَةَ الَّتِي أَوْكَلَهَا اللهُ إِيَّاهُ. إِنَّهُ أَخْذٌ يَتَضَمَّنُ التِزَامًا، لَا تَمَلُّكًا؛ وَمَسْؤُولِيَّةً، لَا سَيْطَرَة. وَهَكَذَا يَتَجَلَّى يُوسُفُ كَحَارِسٍ لِلسِّرِّ، أُمِينٍ لِمَا لَا يَمْلِكُهُ، مُكَلَّفٍ بِحِفْظِ الحَيَاةِ فِي مَسِيرَةِ الطَّاعَة، حَتَّى يُتِمَّ اللهُ تَدْبِيرَهُ الخَلَاصِيّ.
أمَّا عِبَارَةُ "دَخَلَ أَرْضَ إِسْرَائِيل" فتشير إِلَى صَدًى وَاضِحٍ لِرِوَايَةِ خُرُوجِ مُوسَى وَعَوْدَتِهِ مِنْ مِدْيَان إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيل بَعْدَ مَوْتِ طَالِبِي نَفْسِهِ (خروج 4: 19–23). فَالدُّخُولُ إِلَى الأَرْضِ لَيْسَ رُجُوعًا جُغْرَافِيًّا فَحَسْب، بَلْ اسْتِئْنَافٌ لِمَسَارِ الخَلَاصِ، إِذْ تُفْهَمُ الأَرْضُ لَاهُوتيًّا مِنْ خِلَالِ الحُضُورِ الإِلَهِيّ، لَا كَضَمَانٍ آلِيٍّ مُنْفَصِلٍ عَنِ الطَّاعَة. وَكَمَا عَادَ مُوسَى بَعْدَ مَوْتِ طَالِبِي نَفْسِهِ (فِرْعَوْن)، كَذَلِكَ يَعُودُ يَسُوعُ بَعْدَ مَوْتِ طَالِبِي نَفْسِهِ (هِيرُودُس)، لِيَبْدَأَ مَرْحَلَةَ تَحْقِيقِ الوَعْدِ وَاسْتِئْنَافِ خَلَاصِ الشَّعْبِ مِنْ جُذُورِهِ. وَتُبْرِزُ هَذِهِ الآيَةُ تَتَابُعَ أَفْعَالٍ مَاضِيَةٍ يُظْهِرُ طَاعَةً فَوْرِيَّةً كَامِلَة: نُهُوضًا، فَعُبُورًا بِالحِمَايَة، فَدُخُولًا إِلَى الأَرْض. وَهَكَذَا يَكْتُبُ مَتَّى يَسُوعَ عَلَى مِثَالِ مُوسَى، لِيُعْلِنَهُ مُخَلِّصَ الخُرُوجِ الجَدِيد، الَّذِي يَقُودُ الشَّعْبَ لَا إِلَى أَرْضٍ فَقَط، بَلْ إِلَى مَلْءِ الحُضُورِ الإِلَهِيّ.
22 لَكِنَّه سَمِعَ أَنَّ أَرخِلاَّوُس خلَفَ أَباهُ هيرودُس على اليَهودِيَّة، فخافَ أَن يَذهَبَ إِليها. فأُوحِيَ إِليه في الحُلْم، فلجَأَ إلى ناحِيَةِ الجَليل.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَرْخِلاَّوُسَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἀρχέλαος (وَمَعْنَاهُ: حَاكِمُ الشَّعْبِ) إِلَى ابْنِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ مِنْ زَوْجَتِهِ مَلْثَاسَ السَّامِرِيَّةِ. وَقَدْ تَعَلَّمَ فِي رُومَا، هُوَ وَإِخْوَتُهُ هِيرُودُسُ أَنْتِيبَاسُ وَهِيرُودُسُ فِيلِبُّسُ. وَبَعْدَ مَوْتِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ سَنَةَ 4 ق.م.، أَخَذَ أَرْخِلاَّوُسُ القِسْمَ الأَكْبَرَ مِنْ مَمْلَكَتِهِ، بِمَا فِي ذَلِكَ اليَهُودِيَّةُ وَالسَّامِرَةُ وَأَدُومَ، وَذَلِكَ مِنَ السَّنَةِ 4 ق.م. إِلَى السَّنَةِ 6 ب.م. وَقَدْ أَخْمَدَ ثَوْرَةً لِلْيَهُودِ اشْتَعَلَتْ فِي أُورُشَلِيمَ فِي وَقْتِ عِيدِ الفِصْحِ عَقِبَ ارْتِقَائِهِ العَرْشَ، وَقَتَلَ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ مِنْ ذَوِي النُّفُوذِ. وَكَانَ حَاكِمًا طَاغِيَةً رَدِيءَ السُّمْعَةِ. وَلَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَذْهَبَ يُوسُفُ وَأُسْرَتُهُ إِلَى المِنْطَقَةِ الَّتِي تَوَلَّى حُكْمَهَا ذَلِكَ الحَاكِمُ الشِّرِّيرُ. وَبَعْدَ حُكْمِهِ بِتِسْعِ سَنَوَاتٍ، خَلَعَ القَيْصَرُ أَرْخِلاَّوُسَ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ وَفْدٍ مِنْ سُكَّانِ اليَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ، بِسَبَبِ سُوءِ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 6 مِيلَادِيَّةٍ. فَنُفِيَ إِلَى فَرَنْسَا، وَصَارَتِ اليَهُودِيَّةُ مُقَاطَعَةً رُومَانِيَّةً، يَحْكُمُهَا وَالٍ يُعَيِّنُهُ الإِمْبِرَاطُورُ، مِنْ أَمْثَالِ بِيلاطُسَ البُنْطِيِّ وَغَيْرِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "خَلَفَ أَبَاهُ هِيرُودُسَ عَلَى اليَهُودِيَّةِ" فَتُشِيرُ إِلَى هِيرُودُسَ الكَبِيرِ الَّذِي وَثِقَتْ بِهِ رُومَا، وَلَكِنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُومَا لَنْ تَمْنَحَ خُلَفَاءَهُ مِنَ السُّلْطَةِ مَا مَنَحَتْهُ لَهُ، لِذَلِكَ قَسَّمَ مَمْلَكَتَهُ بَيْنَ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَأَعْطَى اليَهُودِيَّةَ وَالسَّامِرَةَ وَأَدُومَ لِأَرْخِلاَّوُسَ، وَالجَلِيلَ وَبِيرِيَّةَ لِهِيرُودُسَ أَنْتِيبَاسَ، وَتِرَاخُونِيتِسَ لِهِيرُودُسَ فِيلِبُّسَ الثَّانِي.
أَمَّا عِبَارَةُ "فَأُوحِيَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ χρηματισθεὶς (مَعْنَاهَا: مُسْتَمَدٌّ نَفْسُهُ مِنَ اللهِ) فَتُشِيرُ إِلَى إِبْلَاغِ الحَقِّ الإِلَهِيِّ لِلْبَشَرِ. وَهَذَا عَمَلُ رُوحِ اللهِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَدَقَّ: عَمَلُ الرُّوحِ القُدُسِ. فَالرُّوحُ القُدُسُ يَعْمَلُ فِي أَفْكَارِ أَشْخَاصٍ مُخْتَارِينَ وَفِي قُلُوبِهِمْ، وَيَجْعَلُهُمْ أَدَاةً لِلْوَحْيِ الإِلَهِيِّ.
أَمَّا عِبَارَةُ "الجَلِيلِ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Γαλιλαία، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ العِبْرِيَّةِ הַגָּלִיל ( َمَعْنَاهَا: مُقَاطَعَةٌ، بُقْعَةٌ)، فَتُشِيرُ إِلَى المِنْطَقَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنْ فِلَسْطِينَ فِي زَمَنِ المَسِيحِ. وَبَعْدَ مَزْجِ السُّكَّانِ الأَصْلِيِّينَ بِالعَنَاصِرِ الوَثَنِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا تَغْلَثْ فِلَاسَرُ (2 مُلُوكِ 15: 29)، صَارَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ يَتَحَدَّثُ عَنْ جَلِيلِ الأُمَمِ (أَشَعْيَا 9: 1؛ مَتَّى 4: 15). وَفِي أَيَّامِ المَكَّابِيِّينَ، كَانَ اليَهُودُ قِلَّةً فِي الجَلِيلِ (1 مَكَّابِيِّينَ 5: 4–23)، وَكَانَتِ الأَرْضُ فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ فِي يَدِ مُدُنٍ فِينِيقِيَّةٍ. وَبَعْدَ أَنْ احْتَلَّ بُومْبِيُوسُ فِلَسْطِينَ، صَارَ الجَلِيلُ مُقَاطَعَةً فِي مَمْلَكَةِ يُوحَنَّا هِرْكَانُسَ الثَّانِي وَعَاصِمَتُهَا: صَفُّورِيَّةُ، ثُمَّ فِي مَمْلَكَةِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ. وَعِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يُعْطَ الجَلِيلُ لِأَرْخِلاَّوُسَ، بَلْ أُعْطِيَ لِأَخِيهِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاسَ، وَهُوَ ابْنٌ لِهِيرُودُسَ الكَبِيرِ. وَلَمْ يُدْعَ هِيرُودُسُ أَنْتِيبَاسَ مَلِكًا، بَلْ "رَئِيسَ رُبْعٍ" أَوْ حَاكِمَ رُبْعٍ (4 ق.م.–37 ب.م.). وَبَعْدَ ذَلِكَ، ضُمَّ الجَلِيلُ إِلَى مَمْلَكَةِ هِيرُودُسَ أَغْرِيبَاسَ الأَوَّلِ (39–44 ب.م.)، ثُمَّ حَكَمَهُ وَالٍ رُومَانِيٌّ يُقِيمُ فِي قَيْصَرِيَّةَ. وَأَهَمُّ مُدُنِ الجَلِيلِ المَذْكُورَةِ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ هِيَ: بَيْتُ صَيْدَا، قَانَا، كَفَرْنَاحُومُ، النَّاصِرَةُ، طِبَرِيَّةُ.
23 وجاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: إِنَّه يُدعى ناصِريّاً.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "النَّاصِرَةِ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ναζαρέτ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الاسْمِ العِبْرِيِّ נְצָרֶת (وَمَعْنَاهُ: القَضِيبُ أَوِ الحَارِسَةُ)، إِلَى مَدِينَةٍ فِي الجَلِيلِ (مَرْقُسَ 1: 9)، تَقَعُ فِي وَسَطِ الجَلِيلِ الأَدْنَى عَلَى التِّلَالِ شِمَالَ سَهْلِ يَزْرَعِيلَ، عِنْدَ تَقَاطُعِ طُرُقِ القَوَافِلِ التِّجَارِيَّةِ الهَامَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ سُكَّانُ النَّاصِرَةِ عَلَى اتِّصَالٍ دَائِمٍ بِأُنَاسٍ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ العَالَمِ، فَكَانَتْ أَخْبَارُ العَالَمِ تَصِلُهُمْ سَرِيعًا. وَكَانَتْ تُعَسْكِرُ فِي النَّاصِرَةِ الحَامِيَةُ الرُّومَانِيَّةُ المَنُوطُ بِهَا أَمْنُ مِنْطَقَةِ الجَلِيلِ، مِمَّا جَعَلَ النَّاصِرَةَ مُحْتَقَرَةً مِنْ كَثِيرِينَ مِنَ اليَهُودِ. وَلَعَلَّ هَذَا مَا حَدَا بِنَثَنَائِيلَ أَنْ يُبْدِيَ تَعْلِيقَهُ المَعْرُوفَ: "أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟" (يُوحَنَّا 1: 46). وَلَمْ يَرِدْ لِلنَّاصِرَةِ أَيُّ ذِكْرٍ فِي العَهْدِ القَدِيمِ، وَلَا فِي كُتُبِ المُؤَرِّخِ اليَهُودِيِّ يُوسِيفُوسَ فِلَافِيُوسَ. وَأَوَّلُ مَرَّةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا النَّاصِرَةُ كَانَتْ فِي الإِنْجِيلِ، ثُمَّ تَرَدَّدَ اسْمُهَا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ (29) مَرَّةً. وَكَانَتِ النَّاصِرَةُ مَوْطِنَ العَذْرَاءِ مَرْيَمَ (لُوقَا 1: 26)، وَفِيهَا ظَهَرَ المَلَاكُ لِمَرْيَمَ لِيُبَشِّرَهَا بِأَنَّهَا سَتَكُونُ أُمَّ المَسِيحِ (لُوقَا 1: 26). وَإِلَى النَّاصِرَةِ عَادَتْ مَرْيَمُ مَعَ خَطِيبِهَا يُوسُفَ مِنْ مِصْرَ (مَتَّى 2: 23)، وَفِيهَا نَشَأَ المَسِيحُ وَتَرَعْرَعَ (لُوقَا 4: 16).
أَمَّا عِبَارَةُ "فَسَكَنَ فِيهَا" فَتُشِيرُ إِلَى إِقَامَةِ المَسِيحِ فِي النَّاصِرَةِ، حَيْثُ قَضَى القِسْمَ الأَكْبَرَ مِنَ السَّنَوَاتِ الثَّلَاثِينَ الأُولَى مِنْ حَيَاتِهِ (لُوقَا 3: 23)، وَفِيهَا كَانَ يَنْمُو بِالحِكْمَةِ وَالقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ (لُوقَا 2: 52). وَلِذَلِكَ لُقِّبَ يَسُوعُ النَّاصِرِيَّ نِسْبَةً إِلَيْهَا: "هَذَا النَّبِيُّ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الجَلِيلِ" (مَتَّى 21: 11). وَلَكِنَّهُ، مَا إِنْ بَدَأَ رِسَالَتَهُ، حَتَّى رَفَضَهُ أَهْلُهَا مَرَّتَيْنِ (مَتَّى 4: 13؛ 13: 54–58).
أَمَّا عِبَارَةُ "لِيَتِمَّ مَا قِيلَ عَلَى لِسَانِ الأَنْبِيَاءِ" فَتُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةٍ غَيْرِ مُحَدَّدَةٍ أَوْ غَيْرِ مُدَوَّنَةٍ نَصًّا فِي العَهْدِ القَدِيمِ. لِذَلِكَ يَتَكَلَّمُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ عَنِ الأَنْبِيَاءِ بِصِيغَةِ الجَمْعِ، الَّذِينَ اسْتَخْدَمُوا كَلِمَةَ נֵצֶר بِمَعْنَى فَرْعٍ، كَمَا وَرَدَ عِنْدَ عِدَّةِ أَنْبِيَاءَ، مِنْهُمْ أَشَعْيَا (11: 1) وَزَكَرِيَّا6: 12)). وَعَلَى أَيِّ حَالٍ، قَدَّمَ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ صُورَةً لِلرَّبِّ يَسُوعَ بِاعْتِبَارِهِ المَسِيحَ الحَقِيقِيَّ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ اللهُ مِنْ خِلَالِ أَنْبِيَائِهِ. وَأَوْضَحَ أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ بَدَأَ بِدَايَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ، بَلْ بِدَايَةٍ مُتَوَاضِعَةٍ، كَمَا تَنَبَّأَ عَنْهُ العَهْدُ القَدِيمُ: "لِذَلِكَ يَتْرُكُهُمْ إِلَى حِينِ تَلِدُ الوَالِدَةُ، فَتَرْجِعُ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" (مِيخَا 5: 2).
أَمَّا عِبَارَةُ "نَاصِرِيًّا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ναζωραῖος، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ العِبْرِيَّةِ נָצְרִי (َمَعْنَاهَا: المَنْذُورُ أَوِ المُكَرَّسُ لِلهِ)، فَتُشِيرُ، بِحَسَبِ مَتَّى الإِنْجِيلِيِّ، إِلَى قُدُّوسِ اللهِ المِثَالِيِّ، أَيْ إِلَى النَّذِيرِ (القُضَاةِ 13: 5؛ مَرْقُسَ 1: 24)، أَوْ رُبَّمَا إِلَى جَذْرِ أَوْ فَرْعِ يَسَّى (أَشَعْيَا 11: 1). كَمَا تُشِيرُ أَيْضًا إِلَى لَفْظِ الجَلِيلِيِّ (مَتَّى 26: 69)، أَوْ إِلَى "الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ"(مَتَّى 21: 11). وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ المُسْتَعْمَلُ "نَاصِرِيًّا" عَلَى أَحَدٍ مِنْ سُكَّانِ النَّاصِرَةِ فَقَطْ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَعْضَاءِ شِيعَةِ النَّاصِرِيِّينَ، لِأَنَّهُ يَصْعُبُ التَّعَرُّفُ بِدِقَّةٍ عَلَى النَّصِّ المُحَدَّدِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ.
ثانِيًا: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجيلِيّ (مَتّى 2: 13–15، 19–23)
بَعْدَ دِراسَةٍ مُوجَزَةٍ لِوَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجيلِيِّ وَتَحْليلِهِ (مَتّى 2: 13–15، 19–23)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكْرَةٍ لاهوتِيَّةٍ مِحْوَرِيَّة، وَهِيَ طاعَةُ يُوسُفَ الإِيمَانِيَّةُ لِلَّهِ، وَخِدْمَتُهُ الصّامِتَةُ فِي سِرِّ التَّجَسُّد، مِنْ خِلالِ أَمانَتِهِ لِيَسوعَ وَمَرْيَم. فَقَدْ ظَهَرَ يُوسُفُ رَجُلَ الطّاعَةِ العَمَلِيَّة، المُسْتَعِدَّ دَائِمًا لِتَتْمِيمِ مَشِيئَةِ اللهِ كَما تَتَجَلّى فِي شَريعَتِهِ، لا كَواجِبٍ خارِجِيٍّ فَرْضِيّ، بَلْ كَـ طَريقِ خَلاصٍ، يُعاشُ فِي الثِّقَةِ وَالتَّسْليمِ وَالأَمانَة.
1. طاعَةُ يُوسُفَ الإِيمَانِيَّةُ لِلَّهِ
كَشَفَ اللهُ عَنْ تَدْبِيرِهِ الخَلاصِيِّ لِيُوسُفَ مِنْ خِلالِ الأَحْلامِ، الَّتي كانَتْ تُعْتَبَرُ فِي الكِتابِ المُقَدَّسِ، كَما لَدَى الشُّعوبِ القَديمَةِ، إِحْدَى الوَسائِلِ الَّتي يُظْهِرُ اللهُ بِها مَشِيئَتَهُ (راجِع: تَكوين 20؛ 28؛ دانيال 2 و4). وَعَلَى غِرارِ ما فَعَلَهُ اللهُ مَعَ مَرْيَمَ حينَ أَظْهَرَ لَها تَدْبيرَهُ الخَلاصِيَّ بِالبِشارَةِ، كَشَفَ أَيْضًا لِيُوسُفَ دَوْرَهُ فِي هذَا التَّدْبيرِ، لا بِكَلامٍ عَلانِيّ، بَلْ بِوَحْيٍ صامِتٍ يَتَطَلَّبُ طاعَةً عَمَلِيَّة. يَقُولُ القِدِّيسُ أوغسطينوس: "لَمْ يَتَكَلَّمْ يُوسُفُ، لأَنَّ الطَّاعَةَ الكامِلَةَ لا تَحْتاجُ إِلى كَلام، بَلْ إِلى قَلْبٍ يُصْغِي"(عِظات على الأَناجيل). وَقَدْ تَجَلَّتْ طاعَةُ يُوسُفَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْلامٍ شَكَّلَتْ مَسارَ حَياتِهِ وَرِسالَةَ أُبُوَّتِهِ، فَأَطاعَ طاعَةَ إِيمان دُونَ تَرَدُّدٍ أَو مُساوَمَة.
الحُلْمُ الأَوَّل: قَبولُ مَرْيَمَ وَحِمايَةُ سِرِّ التَّجَسُّد: شَعَرَ يُوسُفُ بِحُزْنٍ عَميقٍ وَحَيْرَةٍ قاسِيَةٍ إِزاءَ حَمْلِ مَرْيَمَ العَذْراء، وَهُوَ أَمْرٌ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ فَهْمُهُ إِنْسانِيًّا. وَمَعَ ذلِكَ، "لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَها، بَلْ عَزَمَ أَنْ يُطَلِّقَها سِرًّا"(مَتّى 1: 19)، كاشِفًا عَنْ قَلْبٍ بارٍّ يُفَضِّلُ الرَّحْمَةَ عَلَى الإِدانَة. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يوحنّا الذهبيّ الفم قائلًا: "كانَ يُوسُفُ بارًّا، لا لأَنَّهُ شَكَّ، بَلْ لأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْرَحَ مَرْيَمَ، فَسَبَقَتِ الرَّحْمَةُ الحُكْم" (عِظات على متّى). فِي الحُلْمِ، حَلَّ المَلاكُ مُعْضِلَةَ يُوسُفَ قائلًا: "لا تَخَفْ أَنْ تَأْتِيَ بِامْرَأَتِكَ مَرْيَمَ إِلى بَيْتِكَ، فَإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هُوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (مَتّى 1: 20). وَكانَ جَوابُ يُوسُفَ فَوْرِيًّا: "لَمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْم، فَعَلَ كَما أَمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ"(مَتّى 1: 24).
الحُلْمُ الثّانِي: الهُروبُ إِلى مِصْرَ وَحِمايَةُ الحَياة: فِي الحُلْمِ الثّانِي، يَدْعُو اللهُ يُوسُفَ إِلى تَرْكِ الأَمان:"قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلى مِصْر"(مَتّى 2: 13). لَمْ يَسْأَلْ يُوسُفُ عَنِ الصُّعوباتِ أَوِ المَخاطِر، بَلْ «قامَ فَأَخَذَ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ لَيْلًا» (مَتّى 2: 14). وَيَكْتُبُ أوريجانوس: "مَنْ يُطيعُ اللهَ لا يَسْأَلُ أَيْنَ يَذْهَب، بَلْ يَثِقُ بِأَنَّ اللهَ يَسيرُ أَمامَه" (تَفسير متّى). يُشيرُ الخُروجُ إِلى مِصْرَ إِلى خُروجٍ داخِلِيّ، حَيْثُ تُفَضِّلُ العائِلَةُ الحَياةَ عَلَى التَّقاليدِ الجامِدَة. هُنا يَغْدو يُوسُفُ مِثالَ الأَبِ الَّذي يَحْمِي الحَياةَ مَهْما كانَ الثَّمَن.
الحُلْمُ الثّالِث: العَوْدَةُ إِلى أَرْضِ إِسْرائِيل: بَعْدَ زَوالِ الخَطَر، أُوحِيَ إِلى يُوسُفَ: "قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلى أَرْضِ إِسْرائِيل" (مَتّى 2: 20). فَأَطاعَ مِنْ جَديد:" قامَ فَأَخَذَ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَدَخَلَ أَرْضَ إِسْرائِيل" (مَتّى 2: 21). وَيَقُولُ القِدِّيسُ أمبروسيوس: "يُوسُفُ لا يَسْبِقُ مَشِيئَةَ اللهِ وَلا يَتَأَخَّرُ عَنْها، بَلْ يَسيرُ وَفْقَ وَقْتِ الله"(َفسير إِنجيل لوقا).
الحُلْمُ الرّابِع: السُّكْنَى فِي النّاصِرَة: عِنْدَ خَوْفِهِ مِنْ أَرْخِلاوُس، "أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الحُلْم»، فَلَجَأَ إِلى الجَليلِ وَسَكَنَ فِي النّاصِرَة (مَتّى 2: 22–23). هُنا تَبْلُغُ الطَّاعَةُ ذُرْوَتَها فِي الخَفاء. أَطاعَ يُوسُفُ طاعَةَ الإِيمان، كَما يُعَلِّمُ الرَّسولُ بُولُس: "لِطاعَةِ الإِيمان» (رومة 1: 5). لَمْ يَكُنْ لَهُ لِسانٌ يُجادِل، بَلْ قَلْبٌ يُصْغِي وَإِرادَةٌ تُنَفِّذ. يَقُولُ أُوغُسْطينوس: "الإِيمانُ الحَقِيقِيُّ يُقاسُ بِالطَّاعَة، لا بِكَثْرَةِ الكَلام". هَكَذا يَبْقى يُوسُفُ الأَبَ الحارِسَ لِسِرِّ الخَلاص، خادِمًا أَمِينًا لِتَدْبيرِ الله، بِصَمْتٍ، وَشَجاعَة، وَطاعَة.
أَطاعَ يُوسُفُ طاعَةَ الإِيمان، كَما يُعَلِّمُ بولس الرسول: "لِطاعَةِ الإِيمان» (رومة 1: 5). لَمْ يَكُنْ لَهُ لِسانٌ يَحْتَجُّ أَوْ يَتَذَمَّر، بَلْ أُذُنانِ تُصْغِيان، وَإِرادَةٌ تُنَفِّذ. فَالإِيمانُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ مُجَرَّدَ قَناعَةٍ ذِهْنِيَّة، بَلْ اِلْتِزامٌ عَمَلِيّ، وَجَوابٌ حُرٌّ عَلى نِداءٍ إِلَهِيٍّ يَتَطَلَّبُ قَرارًا وَحَرَكَة.
كانَ بِإِمكانِ يُوسُفَ أَنْ يَخْتارَ الرّاحَة، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ السَّفَرَ وَالمَخاطِر، لَكِنَّ قَلْبَهُ كانَ مُمتَلِئًا بِمَحَبَّةِ الله. فَهُوَ رَجُلٌ يَقِظ، عَلى أُهْبَةِ الاِسْتِعْداد، رَهْنُ الإِشارَة، مَتَى طُلِبَ إِلَيْهِ إِتْمامُ مَشِيئَةِ الله. وَيَبْقى يُوسُفُ هُوَ الَّذي يَتَحَمَّلُ مَسؤوليَّةَ القَرارِ الصَّعْبِ عِنْدَما تَكونُ حَياةُ الطِّفْلِ مُهَدَّدَة، وَهُوَ أَيْضًا الَّذي يَسْهَرُ عَلى مَرْيَمَ، أُمِّ يَسوعَ، لِيَحْفَظَها آمِنَةً وَسَليمَة. هكَذا يَظْهَرُ يُوسُفُ الأَبَ الحارِسَ لِلْخَلاص، وَخادِمَ التَّدْبيرِ الإِلَهِيّ، بِصَمْتٍ، وَطاعَةٍ، وَأَمانَة.
2. طاعَةُ يُوسُفَ العَمَلِيَّةُ فِي خِدْمَةِ يَسُوعَ وَأُمِّهِ مَرْيَم
عَرَفَ يُوسُفُ كَيْفَ يُحَيِّدُ اهْتِمامَهُ عَنْ نَفْسِهِ، لِيَجْعَلَ يَسُوعَ وَمَرْيَمَ فِي مِحْوَرِ حَياتِهِ. لَمْ تَكُنْ طاعَتُهُ نَظَرِيَّةً أَو عاطِفِيَّة، بَلْ طاعَةً عَمَلِيَّةً تَتَجَسَّدُ فِي الخِدْمَةِ وَبَذْلِ الذّات. فَسَعادَتُهُ لَمْ تَكُنْ فِي الاِمْتِلاكِ، بَلْ فِي العَطاء. وَيُعَلِّقُ البابا بندكتس السادس عشر قائلًا: "في يُوسُفَ النَّجّار، نَكْتَشِفُ أَنَّ السُّلْطَةَ الَّتي تُوضَعُ فِي خِدْمَةِ المَحَبَّةِ أَقْوَى بِكَثيرٍ مِنَ السُّلْطَةِ الَّتي تُحاوِلُ السَّيْطَرَة" (قُدّاس النّاصِرَة، 14 أَيّار 2009). وفي الواقع، تَحْمِلُ العِبارَةُ المُتَكَرِّرَةُ فِي إِنجيلِ مَتّى: "الطِّفْلَ وَأُمَّهُ" دَرْسًا لاهوتِيًّا عَميقًا فِي فَهْمِ خِدْمَةِ يُوسُفَ لِعائِلَتِهِ، إِذْ يَظْهَرُ أَنَّ مِحْوَرَ العائِلَةِ هُوَ الطِّفْلُ، وَأَنَّ الأُبُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ تُقاسُ بِحِمايَةِ الحَياةِ لا بِفَرْضِ السُّلْطَة.
أ) "فَقامَ يُوسُفُ فَأَخَذَ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَلَجَأَ إِلى مِصْر" (مَتّى 2: 14)
يَأْتي الطِّفْلُ أَوَّلًا، ثُمَّ الأُمّ. لَيْسَ ذلِكَ اِنْتِقاصًا مِنْ مَكانَةِ مَرْيَم، بَلْ تَأْكيدًا لِأَنَّ عَظَمَتَها تَنْبَعُ مِنْ عَلاقَتِها بِابْنِها، فَهِيَ أُمُّهُ، وَهُوَ رَبُّ المَجْد. وَمِنْ هُنا تُفْهَمُ أُمومَتُها كَخِدْمَةٍ لِسِرِّ الخَلاص.
وَيُشيرُ إِنجيلُ مَتّى بِوُضوحٍ إِلى أَنَّ يَسُوعَ هُوَ "مُوسى الجَديد"، مِنْ خِلالِ المُقارَنَةِ بَيْنَ هُروبِهِ إِلى مِصْر وَهُروبِ مُوسى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْن. فَكَمَا هَرَبَ مُوسى مِنَ المَلِكِ الَّذي أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ وَلِيدٍ (خروج 1: 15–22)، هَرَبَ يَسُوعُ مِنْ هيرودُس الَّذي سَعَى إِلى إِهلاكِ الطِّفل.
وَتَظْهَرُ هذِهِ المُوازاةُ جَلِيَّةً بَيْنَ: "لِأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عَنِ الطِّفلِ لِيُهْلِكَه" (مَتّى 2: 13)، و"طَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ مُوسى" (خروج 2: 15). كَما تَتَلاقَى الأَلْفاظُ: "يَبْحَثُ لِيَقْتُلَه" – "لَجَأَ"، فَتُظْهِرُ أَنَّ تَدْبيرَ اللهِ يَعْبُرُ التَّاريخَ نَفْسَهُ، وَيُعيدُ صِياغَتَهُ فِي شَخْصِ ابْنِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كيرلس الإسكندري قائلًا: "إِنَّ خُروجَ المَسِيحِ إِلى مِصْرَ لَيْسَ هُروبًا مِنَ الضَّعْف، بَلْ تَدْشِينًا لِخُروجٍ جَديد، فِيهِ يَسيرُ اللهُ مَعَ شَعْبِهِ مِنْ جَديد" (تفسير إنجيل متّى).
قَبِلَتِ العائِلَةُ المُقَدَّسَةُ الخُروجَ مِنْ أَمانِها وَمَجْتَمَعِها، كَيْ تَحْفَظَ الحَياةَ. فَالعائِلَةُ الحَقِيقِيَّةُ، بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الإِنجِيلِيَّة، لَيْسَتْ تِلْكَ الَّتي تَتَشَبَّثُ بِالتَّقاليدِ عِندَما تُهَدِّدُ الحَياة، بَلِ الَّتي تَجْرُؤُ أَنْ تَتَغَيَّرَ كَيْ تَحْمِي أَضْعَفَ أَعْضائِها. وَيَكْتُبُ القِدِّيسُ أوريجانوس: "إِنَّ الطِّفلَ يُخَلِّصُ والِدَيْهِ، لأَنَّ الوالِدَيْنِ يَتَعَلَّمانِ مِنْهُ طَريقَ الطَّاعَةِ وَالخِدْمَة". هكَذا يُصْبِحُ يُوسُفُ مِثالَ الأَبِ الَّذي يُقَدِّمُ الحَياةَ عَلى الرّاحَة، وَالخِدْمَةَ عَلى السُّلْطَة، وَالمَسؤوليَّةَ عَلى الاِمْتِلاك.
إِنَّ طاعَةَ يُوسُفَ العَمَلِيَّةَ تُظْهِرُ أَنَّ الأُبُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ سَيْطَرَةً بَلْ حِمايَة، وَلَيْسَتْ تَسَلُّطًا بَلْ خِدْمَة. فَهُوَ الَّذي يَتَّخِذُ القَرارَ الصَّعْبَ عِندَ الضَّرورَة، وَيَسْهَرُ عَلى أَمْنِ الطِّفلِ وَالأُمِّ، وَيَضَعُ حَياتَهُ كُلَّها فِي خِدْمَةِ تَدْبيرِ الله. وَبِذلِكَ، يَبْقى يُوسُفُ نَمُوذَجَ الأَبِ الخادِم، وَحارِسِ الحَياة، وَشاهِدِ الطَّاعَةِ الَّتي تُنْقِذ.
ب) "فَقامَ فَأَخَذَ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَدَخَلَ أَرْضَ إِسْرَائِيل (مَتّى 2: 21)
يَقودُ اللهُ إِسْرَائِيلَ فِي طَريقِ العَوْدَةِ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (هوشع 11: 1)، وكَما أَرْجَعَ شَعْبَهُ فِي العَهْدِ القَديم، هكذا أَرْجَعَ ابْنَهُ يَسوع. فَالحادِثَتانِ تُظْهِرانِ عَمَلَ اللهِ الواحِدَ فِي تَدْبيرِ الخَلاص. إنَّ الاسْتِدْعاءَ الإِلَهِيَّ لِيُوسُفَ يَأْتي بِالأَلْفاظِ نَفْسِها الَّتي اسْتُعْمِلَتْ مَعَ مُوسى. فَيَقولُ المَلاكُ: "قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلى أَرْضِ إِسْرَائِيل، فَقَدْ ماتَ مَنْ كانَ يُريدُ إِهلاكَ الطِّفْل" (مَتّى 2: 20)، وَنَقْرَأُ فِي سِفْرِ الخُروج: "وقالَ الرَّبُّ لِموسى بِمِدْيَن: اِذْهَبْ فَارْجِعْ إِلى مِصْر، فَإِنَّهُ قَدْ ماتَ جَميعُ النّاسِ الَّذينَ يَطْلُبونَ نَفْسَكَ. فَأَخَذَ مُوسى امْرَأَتَهُ وَبَنِيهِ… وَرَجَعَ إِلى أَرْضِ مِصْر" (خروج 4: 19–20).
هذا الأُسْلوبُ الأَدَبِيّ مَأْلوفٌ فِي الكِتابِ المُقَدَّس، إِذْ تُفَسَّرُ الأَحْداثُ الجَديدَةُ فِي ضَوْءِ الأَحْداثِ القَديمَة، فَيُقَرِّبُ الإِيمانُ بَيْنَ التّاريخَيْنِ لِيَكْشِفَ الوَحْدَةَ العَميقَةَ فِي تَدْبيرِ الله. وهكذا يَظْهَرُ يَسوعُ بِوُضوحٍ كَـ مُوسى الجَديد:
ذَهَبَ إِلى مِصْرَ وَعادَ، أَفْلَتَ مِنَ القَتْل، وَهُوَ الَّذي يَقودُ شَعْبَهُ لَيْسَ نَحْوَ أَرْضٍ جُغْرافِيَّة، بَلْ نَحْوَ الخُروجِ النِّهائِيّ إِلى مَلَكوتِ السَّماوات. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ غريغوريوس النيصصي: "إِنَّ مُوسى أَخْرَجَ الشَّعْبَ مِنَ العُبودِيَّة، أَمَّا المَسِيحُ فَيَقودُهُمْ مِنَ الزَّمانِ إِلى الأَبَدِيَّة".
يُرينا إنجيل يوحنا أَنَّ المَسِيحَ لا يُعيدُ أَحْداثَ الخُروجِ، بَلْ يُحَقِّقُ رُموزَهُ:
المَنُّ ⟵ الخُبْزُ النّازِلُ مِنَ السَّماءِ (يوحنا 6: 35)،
الصَّخْرَةُ ⟵ الجَنْبُ المَطْعونُ الَّذي تَفَجَّرَتْ مِنْهُ مِياهُ الحَياة (يوحنا 7: 37–38)،
الحَيَّةُ النُّحاسِيَّة ⟵ الصَّليب (يوحنا 3: 14)،
النّورُ فِي البَرِّيَّة ⟵ نُورُ العالَم (يوحنا 8: 12)،
الحَمَلُ الفِصْحِيّ ⟵ المَسِيحُ نَفْسُهُ (يوحنا 1: 29).
بِدَمِ هذا الحَمَلِ تَحَرَّرَ المُؤمِنونَ مِنْ عُبودِيَّةِ الخَطيئَةِ وَالشَّيْطان (يوحما 8: 34–36)، وَأَصْبَحوا فِي مَسيرَةٍ نَحْوَ مَلَكوتِ الله.
يُؤَكِّدُ بولس الرسول أَنَّ: "قَدْ ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وَهُوَ المَسِيح" (1 قورنتس 5: 7)، وَيَرَى أَنَّ مَعْجِزاتِ الخُروجِ—عُبورَ البَحْرِ الأَحْمَر، وَالمَنّ، وَالصَّخْرَة—هِيَ رُموزٌ لِلْحَقائقِ الرُّوحِيَّةِ الَّتي أَتَى بِها المَسِيح (1 قورنتس 10: 1–6). أَمَّا بطرس الرسول، فَيُعْلِنُ أَنَّ دَمَ الحَمَلِ الَّذي بِلا عَيْبٍ افْتَدى المُؤمِنينَ وَدَعاهُمْ: "مِنَ الظُّلْمَةِ إِلى نُورِهِ العَجيب" (1 بطرس 1: 14–19)، لِيَسيروا كَحُجّاجٍ نَحْوَ وَطَنِهِمُ السَّماوِيّ (1 بطرس 1: 17).
وتردد الخُروجُ فِي سِفْرِ الرُّؤيا. فنجد نَشيدَ مُوسى وَالحَمَل فِي سِفْرِ الرُّؤيا (رؤيا 15: 3–4)، وَيُتَرجَمُ ليتورجيًّا فِي سَبْتِ النُّور، حَيْثُ يُعْلَنُ أَنَّ شَعْبَ اللهِ افْتُدِيَ "مِنَ الأَرْض"، أَيْ مِنَ العالَمِ الشِّرّيرِ الخاضِعِ لِلشَّيْطان، لِيَصيرَ مَمْلَكَةَ كَهَنَة (خروج 19: 6؛ رؤيا 5: 9–14). وتُشيرُ ذِكْرى البَحْرِ الأَحْمَرِ أَيْضًا إِلى دَيْنُونَةِ أَعْداءِ شَعْبِ الله، الَّذينَ تُبيدُهُمْ كَلِمَةُ الله، كَما أُبيدَ أَبْكارُ مِصْر (رؤيا 19: 11–21).
رَأَتِ الكَنيسَةُ فِي مَسيرَةِ الخُروجِ صُورَةً لِمَسيرَتِها نَحْوَ الأَبَدِيَّة. فَالحَياةُ كُلُّها خُروجٌ مُسْتَمِرّ، وَمَسيرَةُ رَجاءٍ نَحْوَ المَلَكوت. وَعَلَى كُلِّ مُؤمِن، مِنْ جيلٍ إِلى جيل، أَنْ يَعْتَبِرَ نَفْسَهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ "مِصْر:" مِنَ العُبودِيَّةِ إِلى الحُرِّيَّة، وَمِنَ الظُّلْمَةِ إِلى النُّور، وَمِنَ الأَرْضِ إِلى وَطَنِهِ السَّماوِيّ. فَالكَنيسَةُ عائِلَة، جَماعَةُ إِخْوَةٍ وَأَخَواتٍ فِي مَسيرَة، تَتْبَعُ المَسِيحَ، لِتُحَقِّقَ مَلَكوتَهُ فِي هذِهِ الأَرْض، وَتَبْلُغَهُ بِمِلْئِهِ فِي العالَمِ الآتي.
الخُلاصَة
نَحنُ اليَومَ مَدعوّونَ إِلى النَّظَرِ إِلى العائِلَةِ المُقَدَّسَة، الَّتي أَعْطاها الرَّبُّ الإِلهُ لِلجِنسِ البَشَريّ، كَنَموذَجٍ حَقِيقِيٍّ لِلْحَياة، حَيْثُ يَسودُ الحُبّ، وَالاِنْسِجام، وَالتَّأمُّل، وَالصَّمْتُ المُثمِر. إِنَّها عائِلَةٌ لا تُقاسُ بِكَثْرَةِ الكَلام، بَلْ بِعُمْقِ الطَّاعَةِ، وَبِالأَمانَةِ لِمَشِيئَةِ اللهِ فِي تَفاصِيلِ الحَياةِ اليَومِيَّة.
نَحنُ مَدعوّونَ أَنْ نَعيشَ فَضائِلَ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ فِي عَلاقَتِهِما مَعَ السَّيِّدِ يسوع المسيح، أَيْ فِي وَضْعِ اللهِ فِي مِحْوَرِ الحَياة، وَفِي جَعْلِ الخِدْمَةِ سَبيلًا لِتَحقيقِ الدَّعْوَة. إِنَّ موسى فِي العَهْدِ القَديمِ يُمَثِّلُ رَمْزًا لِمَسيرَةٍ طَويلَةٍ مِنَ الخُروجِ الدَّائِم، مَسيرَةٍ تَبقى فِي حَالَةِ اِنْتِظارٍ وَتَوَقٍّ، إِلى أَنْ يَأتيَ المُخَلِّصُ. أَمَّا يَسوعُ، فَهُوَ حَصيلَةُ هذِهِ المَسيرَةِ التَّاريخيَّةِ الطَّويلَةِ، وَانْفِتاحُها المُطْلَقُ عَلَى الله. إِنَّهُ "عِمَّانوئيل، اللهُ مَعَنا"، لَهُ اسْمٌ أَرْضِيٌّ، "يَسوع"، تَلَقّاهُ مِنْ يُوسُفَ بْنِ داوُد، لِيَدْخُلَ بِمِلْءِ الحَقِيقَةِ فِي التَّاريخِ البَشَريّ.
وَلَمْ تَكُنْ لِيُوسُفَ مِهْمَةٌ أُخْرى إِلّا تَأْصيلُ يَسوعَ المُخَلِّصِ فِي السِّلالَةِ البَشَريَّة، وَمُرافَقَتُهُ فِي نُموِّهِ الإِنْسانيّ، لِيُتِمَّ رِسالَتَهُ الخَلاصِيَّةَ مِنْ أَجْلِ كُلِّ إِنْسانٍ يَقْبَلُهُ. فَالقَداسَةُ، فِي مَفْهومِ الإِنجيل، لَيْسَتْ حَالَةً جامِدَة، بَلْ مَسيرَةٌ مَعَ المَسِيح. وَيُوسُفُ، بِطاعَتِهِ اليَقِظَة، حافَظَ عَلى حَياةِ يَسوعَ وَمَرْيَم، لِكَيْ يُتِمَّا دَوْرَهُما فِي تَدْبيرِ الخَلاص.
إِنَّ يَسوعَ الإِنْسانَ قَبِلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلى عاتِقِهِ كُلَّ حَقيقَةِ تَاريخِنا البَشَريّ، لأَنَّهُ "اللهُ مَعَنا"، وَلأَنَّهُ الجَوابُ الكامِلُ عَلى صَوْتِ اللهِ المُدوِّي فِي قَلْبِ الإِنْسان. وَمِنْ هُنا تَتَبَلْوَرُ رِسالَتُهُ مِنْ خِلالِ الأَسْماءِ الَّتي أُعْطِيَتْ لَهُ:
يَسوع: المُخَلِّص،
الاِبْنُ المَدْعُوُّ مِنْ مِصْر: إِعلانُ الخُروجِ الجَديد،
النّاصِريّ: الَّذي يَسْكُنُ فِي قَلْبِ جَماعَةٍ مَلْموسَة.
هكَذا يَتَجَلّى سِرُّهُ: هُوَ فِي آنٍ مَعًا ابْنُ الإِنْسانِ وَابْنُ الله.
أَمَّا مَرْيَمُ العَذْراء، فَرِسالَتُها أَنْ تُطيعَ بِجَسَدِها لِلرُّوحِ القُدُس، فَتُوَلِّدَ يَسوعَ، وَتَهَبَهُ لِلْعالَم. طاعَتُها لَيْسَتْ خُضوعًا، بَلْ شَراكَةٌ حُرَّةٌ فِي عَمَلِ الله، وَأُمومَتُها تَبْقى خِدْمَةً دائِمَةً لِسِرِّ الخَلاص. وهكذا، تُعَلِّمُنا العائِلَةُ المُقَدَّسَةُ أَنَّ الحَياةَ المَسيحيَّةَ هِيَ مَسيرَةُ طاعَةٍ، وَخِدْمَةٍ، وَرَجاء، فِي اتِّباعِ المَسِيح، حَتّى يَتَحَقَّقَ مَلَكوتُ اللهِ فِي حَياتِنا وَفِي العالَمِ الآتي.
وهناك رَبْطُ العائِلَةِ المُقَدَّسَةِ بِواقِعِ العائِلاتِ اليَوم. إِنَّ النَّظَرَ إِلى العائِلَةِ المُقَدَّسَةِ لَيْسَ حَنِينًا إِلى ماضٍ مِثاليّ، بَلْ دَعْوَةٌ حَيَّةٌ لِقِراءَةِ واقِعِ العائِلاتِ اليَومَ فِي ضَوْءِ الإِنجيل. فَالتَّحَدِّياتُ الَّتي تُواجِهُ الأُسَرَ المُعاصِرَةَ—مِن ضُغوطٍ اِقْتِصادِيَّة، وَهَشاشَةِ العَلاقات، وَتَسارُعِ الإيقاعِ الحَياتيّ، وَتَدَخُّلِ وَسائِلِ التِّقْنِيَةِ فِي العَيشِ العائِلِيّ—تَجْعَلُ مِن نَموذَجِ النّاصِرَةِ مِرآةً وَطَريقًا.
أوّلًا: فِي زَمَنِ القَلَقِ وَفِقْدانِ الأَمان، تُعَلِّمُنا مَسيرَةُ يُوسُفَ أَنَّ الأَبَوَّةَ وَالأُمومَةَ لَيْسَتا سُلْطَةً بَلْ حِمايَة. فَكَمَا اِتَّخَذَ يُوسُفُ قَراراتٍ صَعْبَةً لِحِفْظِ الحَياة، تُدْعَى العائِلاتُ اليَومَ إِلى تَقديمِ سَلامَةِ أَفرادِها—الجَسَدِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ—عَلى كُلِّ مَكْسَبٍ آخَر. الطّاعَةُ هُنا تَصيرُ شَجاعَةً تُواجِهُ المَخاوِفَ، لا هُروبًا مِنها.
ثانيًا: فِي عالَمٍ يُمَجِّدُ القُوَّةَ وَالسَّيْطَرَة، يُقَدِّمُ يُوسُفُ نَموذَجَ السُّلْطَةِ الخادِمَة. فَالأَبُ وَالأُمُّ اليَومَ مَدعوّانِ إِلى قِيادَةٍ تُنْصِتُ، لا تَفْرِض؛ تُرافِقُ، لا تُهيمِن؛ تُرَبِّي عَلَى الحُرِّيَّةِ المَسؤُولَة، لا عَلَى الخَوْف. هكَذا تُبْنى بُيوتٌ آمِنَة، يَنمو فيها الأَبناءُ فِي الثِّقَةِ وَالانْتِماءِ.
ثالثًا: فِي وَسَطِ ضَجيجِ العَصْرِ وَتَشَتُّتِ القُلوب، تُذَكِّرُنا النّاصِرَةُ بِقِيمَةِ الصَّمْتِ المُثمِرِ وَالتَّأمُّلِ. فَالعائِلَةُ المُعاصِرَةُ بِحاجَةٍ إِلى مَساحاتٍ لِلإِصْغاءِ—لِكَلِمَةِ اللهِ، وَلِبَعْضِها بَعْضًا—حَتّى لا يَضيعَ الحُبُّ فِي زِحامِ الشّاشاتِ وَالإيقاعِ المُسْرِع. الصَّلاةُ العائِلِيَّةُ البَسيطَةُ، وَلَو لِدَقائِق، تُعيدُ وَجْهَةَ القَلْب.
رابعًا: فِي وَقْتِ الهِشاشَةِ وَتَغَيُّرِ الأَدوار، تُظهِرُ مَرْيَمُ أَنَّ الطّاعَةَ شَراكَةٌ حُرَّةٌ، لا اِسْتِسْلامًا. فَالعَلاقةُ الزَّوْجِيَّةُ اليَومَ تُدْعَى إِلى شَراكَةٍ مُتَبادَلَةٍ فِي القَرارِ وَالخِدْمَة، يَحْمِلُ فيها كُلٌّ مِن الزَّوْجَيْنِ هَمَّ الآخَرِ. هكَذا تَصيرُ الأُمومَةُ وَالأُبُوَّةُ مَسيرَةَ عَطاءٍ مُشْتَرَك.
خامسًا: فِي سِياقِ الهِجْرَةِ وَالاِقْتِلاعِ وَالضِّيقِ الاِقْتِصادِيّ، تَتَجَدَّدُ صُورَةُ الهُروبِ إِلى مِصْرَ اليَومَ فِي حَياةِ كَثيرٍ مِنَ العائِلات. تُعَلِّمُنا العائِلَةُ المُقَدَّسَةُ أَنَّ القِيمَ تَسافِرُ مَعَنا، وَأَنَّ الحَياةَ تَبْقى مُمْكِنَةً حَيْثُما وُجِدَ الحُبُّ وَالثِّقَةُ بِالله. فَالهُوِيَّةُ لَيْسَتْ مَكانًا فَقَط، بَلْ عَلاقة.
سادسًا: فِي تَرْبِيَةِ الأَبناءِ عَلَى الرَّجاء، يَسوعُ نَما فِي بَيْتٍ بَسيطٍ، وَتَعَلَّمَ فِي جَماعَةٍ مَلْموسَة. هكَذا تُدْعَى العائِلاتُ اليَومَ إِلى تَرْبِيَةِ الأَبناءِ عَلَى الإِيمانِ العَمَلِيّ، وَعَلَى خِيارِ الخَيْرِ، وَعَلَى حُبِّ القَريب. فَالبَيْتُ أَوَّلُ مَدْرَسَةٍ لِلإِنجيل.
إِنَّ العائِلَةَ المُقَدَّسَةَ لا تُقَدِّمُ حَلًّا جاهِزًا لِكُلِّ مُشْكِلَة، بَلْ تَفْتَحُ طَريقًا: طَريقَ الطّاعَةِ المُحِبَّة، وَالخِدْمَةِ المُتَبادَلَة، وَالرَّجاءِ الَّذي لا يَخِيب. فَحَيْثُ يُوضَعُ اللهُ فِي المِحْوَر، يَصيرُ البَيْتُ—مَهْما كانَت ظُروفُه—مَكانًا لِلْحَياةِ وَالنُّمُوِّ وَالخَلاص.
الدُّعاء
أَيُّها الرَّبُّ الإِلَهُ، الَّذي مِنْهُ كُلُّ أُبُوَّةٍ فِي السَّماءِ وَالأَرْض،
يا مَصْدَرَ المَحَبَّةِ وَالحَياة،
هَبْ أَنْ تُصْبِحَ كُلُّ أُسْرَةٍ بَشَرِيَّةٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْض
مَقْدِسَ حُبٍّ وَحَياة، لِجَميعِ الأَجْيالِ المُتَعاقِبَة.
ذلِكَ بِابْنِكَ يَسوعَ المَسيح،
المَوْلودِ مِنِ امْرَأَة، وَبِالرُّوحِ القُدُس،
مَنْبَعِ المَحَبَّةِ الإِلَهِيَّة.
نَسأَلُكَ، بِشَفاعَةِ أُسْرَةِ النّاصِرَةِ الطّاهِرَة،
أَنْ تُتِمَّ الكَنيسَةُ رِسالَتَها المُقَدَّسَة لِخَيْرِ الأُسْرَةِ وَعَلَى يَدِ الأُسْرَة،
وَأَنْ يَكونَ عَمَلُها مُثْمِرًا فِي وَسَطِ جَميعِ شُعوبِ الأَرْض. آمِين.