موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الأول من المجي-ب
﴿لِئَلّا يَأتي بَغتَةً، فَيَجِدَكُم نَائِمين﴾ (مرقس 36:13). يَختارُ الْمَسيحُ في حَديثهِ عَنْ مَجيءِ يومِ الرّب، أُسلُوبَ الْمُفَاجَأَةِ الْمُرتَبِطِ بالتَّحذيرِ والانْذَار. وفي إنجيلِ القِدّيسِ لُوقَا، يَقول: ﴿احْذَروا أَنْ يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ كَأَنَّه الفَخّ، لِأَنَّهُ يُطبِقُ عَلَى جَميعِ مَنْ يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ كُلِّها﴾ (لو 34:21-35). لِذلِكَ أَيضًا، نَبَّهَنَا إلى ضَرورةِ الاستِعدادِ كُلَّ حَين، قَائِلًا: ﴿كُونوا أَنتُمْ أَيضًا مُسْتَعِدّين، فَفِي السّاعَةِ الّتي لا تَتَوَقَّعُونَهَا، يأتي ابنُ الإنسان﴾ (متّى 44:24).
وهَذهِ هيَ يا أَحِبَّة، الرِّسَالةُ الافتِتَاحِيَّةُ لِزمنِ الْمَجيءِ الْمُبَارَك: تَذْكِيرُنَا بِأهميّةِ السَّهرِ والاستِعدادِ الحَسَن لِمُلاقاةِ الرّبِّ عِندَ مَجِيئِه. وَلِمَاذا الاستِعدادُ مُهمٌّ؟ لِأنَّهُ وَسيلَةُ خَلاصِ الْمُؤمنِ وطَوقُ نَجاتِه، كَمَا سَبقَ للرّبِّ أَنْ نَبَّهَنَا فَقَال: ﴿اِسهَروا مُواظِبينَ عَلَى الصَّلاة، لِكَي تُوجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هَذهِ الأُمورِ الّتي سَتَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدَى ابنِ الإِنْسان﴾ (لوقا 36:21).
لِكُلٍّ مِنَّا سَاعَةٌ يُلاقي فِيهَا رَبَّهُ. قَدْ تَأتي هذهِ السَّاعَةُ اليَوم، وقَدْ تَأتي غَدًا، وقَدْ تَأتي بَعدَ أَعوامٍ طِوَال، دُونَ أنْ تُميّزَ بَينَ كَبيرٍ أو صَغير. هَذهِ حَقيقَةٌ مُطْلَقَة، لا يُمكِنُ لِأحَدٍ الهروبَ مِنهَا، مَهمَا حَاوَلْنَا تَأجِيلَهَا. ولَكِنَّ الحَقيقةَ الَّتي يُمكِنُكَ تَطْويعُهَا بِإرادَتِكَ الحُرَّة، هيَ حَقيقةُ مَصيرِكَ مَا يَكون! فَإمَّا أنْ تُطَوِّعَ حَياتَكَ لِمَصيرٍ أَبَديٍّ مَع الله، وإمَّا أنْ تُطوِّعَهَا لِمصيرٍ بائِسٍ، بَعيدًا عَنِ الله! فَلَكَ الحَقُّ في تَقريرِ الْمَصير.
ولَكنَّ الإنْسَانَ بِطَبيعَتِه "كَائِنٌ غَافِل". لا يُدرِكُ حَقيقةَ الأمور، إلّا بَعدَ تَذَوُّقِ حَسرَتِهَا ومَرارَتِهَا، بَعدَ أَنْ يَكونَ قدْ فَاتَ الأوَان، حَيثُ لا يُفيدُ بُكاءٌ ولا نَدَم. ولِذَلِكَ أَيضًا، شَبَّهَ الرَّبُّ مَجيئَهُ "بالسَّارِق"، فَقَال: ﴿وأَنتُم تَعلَمونَ أَنَّه لْو عَرَفَ رَبُّ البَيتِ في أَيَّةِ سَاعَةٍ يأتي السَّارِق، لَم يَدَعْ بَيتَهُ يُنقَبْ. فَكُونوا أَنتُم أَيضاَ مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تتَوقَّعونَها، يَأتي ابنُ الإنسَان﴾ (لوقا 39:12-40). إذْ لا تُدرِكُ يَا إنْسَان كَم كَانَ تَحْصينُكَ هَشًّا واستِعدادُكَ نَاقِصًا، إلّا بَعدَ أَنْ تُنهَبَ وتَذُوقَ طَعمَ الخَسارَةِ، وبَعضُ الخَسائِرِ لا يُعَوَّض!
﴿لِئَلّا يَأتي بَغتَةً، فَيَجِدَكُم نَائِمين﴾ النَّومُ الَّذي هُوَ حَاجَةٌ طَبيعيّةٌ وأَسَاسِيَّة، مِنْ خِلالِها يَنَالُ الإنسانُ الرّاحةَ الّلازِمَة، مُجَدِّدًا هِمَّتَهُ وَنَشَاطَهُ لِلعَملِ والإنتَاج، قَدْ يُصبِحُ رَمزًا للكَسَلِ والتَّقَاعُس، وإهمالِ الإنسانِ ولامُبَالاتِهِ نَحوَ مَصيرِهِ الأبَديّ، أو حَتَّى تُجَاهَ أُمورٍ حَيَاتِيَّةٍ هَامَّةٍ، يَتَحَتَّمُ عَليهِ أَنْ يُنجِزَها، ولَكِنَّهُ لا يَفعَل!
هَذَا النَّومُ الَّذي يَتَحَدَّثُ عَنهُ الْمَسيح، يُشيرُ إلى عَدمِ الاستعدَادِ لِمَا هُوَ آَتٍ. هَذا النّوم يَعني الانشِغَالَ الَّذي يَصِلُ حُدودَ "الهَوَس"، بالحَقائِقِ الأرضِيَّة والْمَلَذّاتِ الدُّنيويَّة، يُقابِلُهُ الاسْتِهتارُ بالحَقائِقِ الرُّوحِيّة، والتَّهَاونُ في أَمرِ خَلاصِكَ الأبَديّ. نَنْشَغِلُ بالْمَادّة، بجمعِ الْمَال، بِتَكديسِ الثَّرَوة، بالْمَركِز، بالجَاه، بالسُّلْطَة... ونَتَوانَى لِمُجرَّدِ التَّفكيرِ في نَيلِ رَحمةِ اللهِ وغُفرانِه، ونَتَقَاعَسُ عَنْ صُنعِ مَا يَؤولُ لِخلاصِنَا.
هَكَذا هوَ الإنسان: كَائِنٌ طَغَتْ عَليهِ شَهوَةُ الْمَادَّة، وأَعمَاهُ الطَّمَع، وقَادَتُه الغَريزَة الّتي أَلبَسَهَا حُلَّة العَقلِ والْمَنطِق، وأَثقَلَهُ حُبُّ الحَياةِ الفَانِيَة، حتَّى هَلَكَ بِغَبائِهِ وجَهلِه. إنَّ أَكبرَ كِذبَةٍ أَوجَدَهَا الإنسَان، مَقولةُ: (الإنسانُ كَائِنٌ عَاقِل)، حَتّى صَارَتْ حَقيقةً زائِفَةً صَدَّقَها وجَاهَرَ بِهَا! أَينَ هِيَ العَقلانِيَّةُ في هَذَا العَالمِ الشَّرِس الكَذَّاب، الَّذي بلا رَحمَة وبِلا عَدالَة، الّذي يُزوِّرُ الحَقائِق ويُعظِّمُ البَاطِل، القَائِمِ عَلَى تحقيقِ الحياةِ الكَريمَة لِشعوبٍ وحِرمَانِ شُعوبٍ أُخرَى مِنهَا، الّذي يُدينُ قَتلَ قَومٍ ويُحلِّلُ قَتَل آَخر...؟!
نحنُ نَعيشُ يا أحِبَّة في "عَالمٍ نَائِم". عَالمٍ يَتَراخَى لِتحقيقِ الخَير، ويَنْشَط لِبَسطِ الشَّر. عَالمٍ فِيهِ فِئَةٌ تَموتُ مِن كَثرَةِ الفَجَعِ والشَّبع، وفئةٌ تموتُ مِنَ الفَاقَةِ والحِرمَان! عَالمٍ أَوجَدَهُ الله لِنَعيشَ فِيهِ بِعَدلٍ وأُلفَةٍ وسَلام، والبَشَرُ يُدَمِّرونَهُ بِالشّرِّ والظُّلمِ والحِقدِ والطُّغيان...
في هَذا العَالمِ النَّائِم، يا مَسيحي لا تِنَام. بل كُنْ يَقِظًا ساهِرًا، وكُنْ صَوتًا لِلحَقِّ والعَدل، وشَاهِدًا لِلحُبِّ والسَّلام، الَّذي أَنتَ وأنا نَنتَظِرُ ونَستَعِدُّ لِيَومِ مِيلادِهِ الْمَجيد، يَسوعَ الْمَسيحِ الرَّب، لَهُ الْمَجد. آمين