موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

غرّدْ أيُّها ٱلعندليبُ وٱصدحْ!

بقلم :
يوسف ناصر - الجليل
غرّدْ أيُّها ٱلعندليبُ وٱصدحْ!

غرّدْ أيُّها ٱلعندليبُ وٱصدحْ!

 

قم باكرًا بيننا كما عهدتك، وٱجعل ٱلصّباح ٱلبهيج مقيمًا عندنا دائمًا في هذا ٱلعالم.! وٱنهض في ليل هذا ٱلزّمن ٱلدّاجي وٱصدحْ  ليكون ليلًا أبيضَ لا ينعب فيه غراب، ولا ينأم في خرابه بوم.. وٱجعل صدور ٱلحزانى منابرك، وبيوت ﭐلفقراء روضتك، وقلوب ٱلثّكالى دوحتك، وعلى غصونها ٱلذّابلة أنشدْ وغرّدْ وردّدْ ! وٱحملْ صوتك على أجنحة ٱلأنسام ٱلرّاحلة مبشّرًا بٱلفرح وٱلرّجاء وٱلخلاص من جحيم هذه ٱلأرض ٱلّتي تطبخ ٱلبشرية جمعاء في قِدْر من نار ولهب، وتوشك أن تمضي بها نحو ٱلفناء وتحترق!     

 

كنتَ من قبلُ سجينًا في قفص عندي، فوبّختُ نفسي ندمًا لجنايتي على حرّيتك، وجلدتها بسياط من إبر حتّى أدميتها إذ جعلَتْني سجّانًا لك يومًا، حابسًا لألحانك، مقَيّدًا في زنزانة سمعي دون غيري، وأسيرًا لا تبرح قفص أهداب عيني وحدي، فلا تأنس بك ٱلخمائل وٱلجداول، ولا يزدان ٱلسّنديان وٱلغار وٱلزّيتون بجمال حُلّتك ٱلحريريّة، وأجراس صوتك ٱلموّاج، فأطلقتك، ولا تنسى لنبلك أن تأتي كلّ صباح إلى نافذتي تغنّي وفاءً لصاحبك، وعرفانًا بمعروف مَن ظلمك لا مَن أحسن إليك حين عزّ ٱلوفاء بٱلعهود، وغاب منذ زمن سحيق حفظُ ٱلمعروف لمن أحسن! فكيف مَن حفظَ المعروف مثلك لمَن أساء!

 

يا قيثارة ٱلجليل! ما أكبرَ صغرك، وما أصغرَ كبر ٱلعالم فيك! إنّك بصغرك أيّها ٱلمطرب ٱلموهوب، قد بغّضتَ إلى نفسي ٱلصّقور ٱلجوارح، وٱلنّسور ٱلكواسر.. أنت نجم ٱلمجوس ٱلطائر في ٱلفضاء نهارًا، وعلامة من علامات ٱلسّماء في ٱلأرض، وإعلان من إعلانات ٱلله تتحدّى جبروت ٱلموت، وظلمة ٱلأحزان، وفَتكة ٱلوحوش ٱلضّواري، وتبشّر بٱلسّلام، وتمنع ٱليأس ٱلمميت عن نفوس ٱلمكروبين، وتدفعهم إلى ٱلتّأمال ٱلدّائم بأنّ ٱلمحبّة هي ٱلمنتصرة على ٱلبغضاء، وأنّ ٱلنّور يمحو ٱلظّلام دائمًا في الأرض.

 

إيّاك أن تسكت، فتبرح منابرك في ٱلرّياض، وعلى ٱلقمم، وفي ٱلأثير! غرّدْ وأنشدْ لتعزّي وتبشّر بٱلسّلام ٱلمفقود في ٱلعالم، لأنّه عصر ٱلدّموع وٱلنّواح، ومواكب ٱلجنازات، وسيول ٱلدّماء، وزمن ٱلموت ٱلرّخيص ٱلّذي يقتل ٱلعنادل، ويحبس ٱلفرح عن بشريّة كئيبة! فلا تعجبْ إنِ ٱشتدّ ٱلحرّ وجاءك ٱلقيظ يومًا، ووقفت على غصون ٱلشّجر لتغنّي أن تجدها رؤوسَ حيّات رُقْط تُنضْنِض بألسنتها لتلدغك، وثمارها قنابل تتدلّى لتصرعك، وأوراقها جمرات تتلظّى نارًا لتحرقك!  فعاجلْ وٱخرجْ من فورك حين ذاك، وقف على ظهر سحابة بيضاء، ورتلّ هناك وغرّد ولا تخف! وإن جعتَ وعطشتَ يومًا فتعالَ وقف على راحة كفّي لأطعمك حبّات قمح من قلبي، وقطرات ماء من عيني لأنّك بشير سلام ومحبة ورحمة في هذا ٱلعالم.

 

إنّ شلّال ٱلألحان ٱلصّاخب ٱلّذي يتدفّق من موسيقا حنجرتك أبلغ من كلّ كلمة جرّها قلم، ونطق بها لسان! وإنّ من حنجرتك تطير أصوات كلّ ٱلمغنّين الذين غنّوا لفرح ٱلناس منذ نشأة ٱلبشرية !  قُلْ لي: ومَن غير الموسيقا بزخّاتها إذا ٱنهمرت على ٱلأرواح ٱلحزينة، له ٱلقوّة في هذا ٱلعالم  أن يُخرج ٱلدّمعة من المآقي في تذكار الأحبة ، ويؤجّج ٱلحنين إلى من غابوا ، ويطهّر ﭐلقلوب من كلّ حزن وألم، وينقّي ﭐلنّفوس من كلّ حقد وضغينة، وينعش ٱلنفس من غمّائها بٱلفرح،  ويدفع ٱلإنسان إلى ﭐلنّدم عن إساءة ٱرتكبها،  ويحضّه على مسامحة من أساؤوا إليه وأذنبوا ! ومَن غير الموسيقا يُرقّق ٱلطّبائع ٱلخشنة، ويَهيج ٱلحسّ ٱلمرهف، ويرتفع بسامعها حتّى يصل حدّ ٱلتّألّه بطاهرته  وصفاء روحه من كلّ رجس ودنس!.

 

"تعالَ وٱنظرْ" أيّها ٱلقدّيس ٱلصّغير! إنّ ربّ ٱلنّاس في هذا ٱلعالم مالٌ رخيص في جيوبهم.. ومعبودهم في أيديهم ورق رِقٍّ يستعبدهم.. يعظّمون هذا ٱلإله ٱلصّنم ﭐلّذي يُبدع أفانين ﭐلغنى ﭐلحرام، وﭐلطّمع وﭐلظّلم، وٱلِٱسْتبداد في ٱلأرض! اُنظرْ كيف خرجتِ ٱلوحوش ٱلضّواري ٱلمختبئة في صدور أكثر ٱلنّاس تهجم كالحة ٱلأنياب تطلب فريستها، فلا تسمع سوى أنين ٱلمعذّبين، ونواح ٱلثّكالى في ٱلأرض..! وأكثر ٱلنّاس يُصلّون دجّالين.. ويطلبون ٱلمعابد سرّاقين.. ويدعون إلى ٱلرّحمة سفّاحين.. ويتملّقون ٱلطّغاة مُرائين! يخرجون بأنفس ٱلحلل وأبهى ٱلملابس إلى لقاء أحدهم طمعًا برضاه، ودفعًا لشرّه! فٱلويل لأولئك ٱلذين يخشون ٱلملك ٱلأرضيّ ٱلزّائل، ويتحامون غضبه، ولا يخشون ربّ ﭐلأرباب وملك ٱلملوك ٱلسّرمديّ في ٱلسّماء، ولا يتزيّنون بحلل ٱلفضائل وثياب ٱلأخلاق عند مقابلته يوم ٱلدّينونة وساعة ٱلغضب.. "فمن له أذنان للسّمع فليسمع".