موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
﴿يا رَبّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّي﴾. فَالتَّلاميذُ أَيُّها الأَحِبَّة شَاهَدوا الْمَسيحَ مُصَلِّيًا، فَأبصَروا فِيهِ مِثَالًا مَلْمُوسًا، فأَرَادُوا أَنْ يَتَمَثّلوا بِهِ. يَا صَدِيقي أيًّا كُنت: قبَلَ أَنْ تُعلِّمَ الصَّلاةَ بكَلِمَاتٍ وجُمَل، عَليكَ أَنْ تُعَلِّمَها بِمثَالِكَ الحَيّ! والْمِثالُ الحَيّ يَعني أنْ تَعيشَ مَا تُصَلّي، لِئَلّا تُصبِحَ صَلاتُكَ مُجرّدَ كَلِمَاتٍ بِلا رُوح، أو شِعَارَاتٍ دُونَ تَنفيذ. فَتَجِدُ نَفسَكَ تَطلُبُ الْمَغفرَةَ وأَنتَ لا تُسَامِح، أَو تَطلبُ النَّدَامَةَ وأَنتَ لا تَرحَم، أو تَطلُبَ الرِّزقَ وأَنتَ تُمسِكُ ولا تُعطي، أَو تطلُبُ البَركَةَ وأَنتَ تحسِدُ وتَلعَن... وقِسْ عَلى ذَلِكَ جَميعَ مَا نَتْلُوهُ ونُردِّدُهُ في صَلاتِنَا، ثُمَّ نُخالِفُهُ بنَمَطِ حَيَاتِنَا، ونُنَاقِضُهُ بأُسلُوبِ عَيشِنَا، وَنَتَمَرَّدُ عَليهِ برُدُودِ فِعلِنَا!
هُناكَ قَولٌ يُنسَبُ عادَةً إلى الْمَهَاتما غاندي، مُوَبِّخًا فيهِ الْمُستَعمرينَ الإنجليز، يَقول: "أُعجِبتُ بالْمَسيح، لَكِنّي لا أُعجَبُ بالْمَسيحيين، لِأنَّهُم لا يُشبِهُونَهُ". هَذا هُوَ الانْفِصَامُ بَينَ الشَّخصيّةِ الرُّوحِيّةِ الّتي نُعبِّرُ عَنها أَثنَاءَ الصَّلاةِ الْمَحكيّة، وبينَ الشَّخصيّة الوَاقِعيّة الّتي نحيَاهَا كُلَّ يَوم!
ثُمَّ أنَّ الْمَسيحَ كَانَ لِتَلامِيذهِ أَيضًا مِثَالًا في كَيفِيَّةِ وأُسلُوبِ الصَّلاة. فَهَيئتَهُ الخَارِجِيَّة جَذَبَت التَّلاميذ، وهو مَا دَفَعَهُم لِأنْ يَطلُبُوا مِنهُ أَنْ يُعلِّمَهُم فَنَّ الصَّلاة. فَالصَّلاةُ الحقيقيّة لَيسَت فَقَط شِفَاهٍ تَتَحَرَّك وأَلْسُن تَنطُق، إنّما هي جَسَدٌ وفِكرٌ ونَفسٌ، جَميعُهَا تَشترِكُ بانْسِجامٍ واتِّحادٍ في فِعلِ الصّلاة! لِذلك تَجِدُ أُناسًا كِيَانُهُم كُلُّه يُصَلّي، يَنقَطِعونَ عَنِ العَالَم لِيتَّصِلُوا باللهِ وَحدَه. وتَجِدُ أيضًا في الْمُقَابِل أُنَاسًا حَاضِرونَ وفي الوَقتِ عَينِهِ غَائِبونَ! فالفكرُ سَارِح، والذِّهِنُ شَارِد، والقَلبُ مَفْصُولٌ بِلا حَرارة، والأعيُن تَتَفَحّص هَذا وذَاك وتُراقِب الّداخِلَ والخَارِج! هَذهِ لَيسَت صلاة، إِنّمَا مَظهَرٌ اجتِمَاعِيٌّ أو مُنْتَدَى لِلّقاءِ أو اشتراكٌ في مُنَاسَبَات. مَن يأتي إلى الصّلاةِ الجَمَاعِيَّة، أَو مَن يُصلّي بمفردِه، عَلَيهِ أَن يكونَ كُلُّهُ مُستَعِدًّا للصّلاة، عَليهِ أَنْ يكونَ صادِقًا في نَيّتِه: أَي يَأتي أوّلًا وآخِرًا بهدفِ الصّلاةِ والاستماعِ إلى الكلمةِ والاشتراكِ في الْمَائدةِ الْمُقدّسة!
في نَفسِ الوَقت هُناكَ خَطرٌ مِنْ نَوعٍ آَخر، أُسميّه الصّلاةَ الْمُتَكَبّرَة! وهي صلاةٌ مَغْشُوشَة. تَذكُرون كُلُّكم مَثلَ الفِريسيّ والعَشّار، حينَ صَعِدَ كلاهُما للصّلاة. فَكانت صلاةُ الفريسيِّ مرفوضَةً، وصلاةُ العَشّارِ هي الّتي قُبِلَت! لِماذا؟ لأنَّ الفِريسيّ صَلّى بِكبرياء، صَلَّى باحتقارٍ لِغَيره، صلَّى بإدانةٍ وحُكمٍ عَلَى غَيرِه! الصّلاةُ الّتي يُريدُهَا الرَّب هي صلاةُ الْمُتَواضِعين البُسَطَاء النّادِمين طالبي الرّحمةِ والْمَغفِرَة!
ثُمَّ أنَّ الصَّلاةَ الْمَغشُوشَة، أو صلاةَ الْمُخَادِعِين، تَشملُ أَيضًا جانِبًا "تمثيليًّا". يَعني وكأنَّكَ في مُسلسلٍ أو عَلى خَشبةِ مَسرح، تُؤدِّي دورًا مُعيّنًا، ثمَّ تَعودُ إلى سُلوكِكَ الْمُعتَاد، وحَقيقتِكَ الّتي تُخْفِيهَا عَن النَّاسِ وَراءَ قِنَاعِ التَّديُّنِ الْمَغشُوش، أو تحتَ رِدَاءِ التَّصنُّع! فالبَعضُ، خُصُوصًا مَنْ نَعتَقِد أنَّهُم أَمثِلَةٌ في الحياةِ الرَّوحيّة، هُمْ في الحَقيقَةِ مُمثِّلينَ ولَيسوُا أَمثِلَة، يُجيدُونَ التَّصنُّعَ والتَّقنُّعَ وفَنْ الكَلام! فَتَظنُّ لَمَّا تَرَاهُم أَنّك تُخالِطُ شَبيهَ الأمِّ تريزا أو الأبِ بيو أو مَار شربِل، أَو أَنّهم يَرشَحُونَ إيمانًا وفَضيلَةً وتَقوَى، ولكنْ في بَوُاطِنِهم هُنَاكَ تَزويرٌ ونِفَاق، يَنْجَلي عِندَما تَحكُّهُ أَظَافِرُ الظُّروفِ والأَحدَاثِ والْمَواقِف! ومَا أَقُولُهُ لَيسَ بِغَريبٍ أو مُستَهجَن أو حُكمٍ جَائِر: أَلَمْ يُوبِّخ الْمَسيحُ الفَريسيّينَ والكَتَبَةَ عَلَى رِيائِهِم وبُطلانِ تَدَيُّنِهِم، والّذي بهِ كَانُوا يخدَعُونَ النَّاس؟! فَحاول ألّا تَخدَعَ وألّا تَنْخَدِع، فاللهُ عالِمٌ بحقيقتِنَا الْمُجرّدةِ كَما هي: دونَ إِضَافَاتٍ وبلا مِكياج، تَمامًا مِثلَما خَرجنَا مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِنَا.
في عَملِه الأَدَبي (الكوميديا الإلهية)، للأديبِ الإيطاليّ دَانْتي ألّيغييري، يَقومُ بِتَصويرِ جَهنَّم عَلَى أَنّها مُقَسَّمَةٌ لِتِسعِ طَبَقَات، وفي كُلِّ طِبَقةٍ مجموعَةٌ مِنَ الأَشخَاصِ حَسب نوعِ الخَطايا الّتي ارتَكبوهَا مُدَّةَ حَياتِهم الأرضيّة، وكُلَّمَا نَزلنَا في الطّبقةِ ازدادَ العِقابُ والعَذَاب. في الطَّبَقَةِ الثَّامِنَةِ ما قبلَ الأخيرة يقبَعُ الْمُنَافِقونَ والْمُضِلّون والْمُخَادِعون! وكَمَا يَصفُهُم دانتي: مَن تَظَاهَروا وادَّعُوا الفَضيلَةَ والأخلاق، ولَكنَّهُم كانوا فَاسِدينَ مِنَ الدَّاخِل. وعِقَابُهم كَانَ بحَسَبِ تَصَوُّرِ دَانتي أَنّهم سَيرتَدونَ عَباءاتٍ مِن ذَهَبٍ مَحشُوَّة بالرَّصَاص، فَتَكونُ للنّاظرينَ جَميلةً مِنَ الخَارج، وَلكنَّها ثَقيلَةٌ ومُرهِقَةٌ بِشكل لا يُطاقُ مِنَ الدّاخِل لِمَنْ يَرتَديها، فَتَقواهُم وفَضيلتُهُم كَانَت زَائِفَة!
وعَليه، قَبلَ أنْ أُفكّر أو تُفكّر بِأنْ تجعلَ نفسَكَ مِثالًا وقُدوَةً ومُعلِّمًا، تَأكَّدْ مِنْ مَعرِفَتِكَ لِنَفسِكَ كَما هي، بِكُلِّ مَا فيها مِن جَيِّدَاتٍ أو سَيّئَات، لِئَلّا تقعَ في خَطيئةِ النِّفاقِ أو إِدَانَةِ الآخرين، لأنّه إنْ كُنتَ تَحمِلُ للنّاسِ حِجَارَةً لِترميهم بِها، فغيرُكَ يحمِلُ لكَ حجارةً أيضًا ليرمِيكَ بها، فلا تحكُم! ثمّ تَأكّد مِنْ أَنَّكَ تحيا أو تَسعى قَدرَ الإمكان لِأنْ تَعيشَ ما تُصلّي، لأنّ النَّاسَ وإنْ استَمَعتْ إِليك، تَظلُّ أيضًا تَنظُرُ وتُراقِب: هل تحيا ما تُعَلِّمُنَا إيّاه، أم فَقط تَكتفي بدورِ الْمُنظّرِ والْمُلَقِّن؟!
وأخيرًا إنْ أَتيتَ أو نَويتَ الصّلاة، فَكُنْ صَادِقًا في مَسعَاك: تَعَالَ بِقَلبِكَ وفكرِكَ وبكُلِّ أحمالِكَ وأَتعابِكَ وأفراحِك، وبِكُلِّ مَا يَشغلُ بالَك ويُقلِقُ راحتَكَ، أو يُحزِنُك ويُبكِيكَ، وَضَعْ كُلَّ شَيءٍ أَمَام الله. عَسَى أنْ تحمِلَ لَنا إراداتُهُ تَعالَى كَلَّ ما هو خيرٌ ونَفعٌ وصلاح، حتّى وإن بَدت مَشيئتُهُ في حينِها غَيرَ مفهومةٍ ولا مَنطقيّة، ولا حتّى عَادِلَة!