موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

عظة أحد الشّعانين 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبِّ

هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبِّ

 

﴿الرَّبُّ نُورِي وخَلاصِي، فَمِمَّن أَخَاف؟﴾ (مزمور 1:27)

 

 أَيُّهَا الأَحِبَّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. مَعْ أَحدِ الشَّعَانين، نَكونُ قَدْ بَلَغنَا نِهايةَ زَمَنِ الصَّومِ الكَبير، والّذي امتَدَّ عَلَى مَدَى خَمسَةِ أَسَابيع، عِشْنَاهَا بِرُوحِ الصَّلاةِ والتَّوبَة، ومُمَارَسَاتِ الصَّومِ والصَّدَقَة. خَمسَةُ أَسَابِيعٍ مِنَ التَّحضيرِ والاستِعدَاد، إلى أنْ وَصلنَا اليومَ أُسبوعَ الآَلامِ الْمُقَدَّس، لِنَعيشَ مَع الْمَسيحِ أَكثَرَ حَالاتِ حَيَاتِهِ كَثَافَةً ووَقْعًا. فَلِهَذهِ الأيّامِ الْمُبَارَكَةِ طَابِعٌ خَاصٌّ ورَونَقٌ مُمَيَّز، نَحيَاهَا بِزَخَمٍ رُوحِيٍّ شَدِيد، مِنْ خِلالِ صَلَوَاتٍ وقِرَاءَاتٍ وتَرَاتيل، جَميعُهَا تَهدُفُ إلى مُشارَكَةِ الْمَسيحِ في عَمَلِهِ الخَلاصِيّ، مُجتَازِينَ وَادِيَ الدُّمُوعِ والآَلام، إلى أَنْ نَبلُغَ مَجدَ الفِصحِ والقِيَامَة. وهَكَذَا نُتِمُّ مَا سَبَقَ أنْ قَالَهُ بُولسُ الرُّسولُ في الرِّسَالَةِ إلى أَهلِ رومَة: ﴿لأَنَّنا إِذا شَارَكْناهُ في آَلامِه، نُشَارِكُه في مَجْدِه أَيضًا﴾ (رو 17:8).

 

يَا أَحِبَّة، حَياةُ الإنْسانِ هِيَ كَأَحَدِ الشَّعَانِين! بَدَأنَاهُ بِدَورةِ الفَرحِ وأَناشِيدِ الانتِصَار. ثُمَّ مَا لَبِثنَا أنْ عَبَرنَا سَريعًا، إلى أَجوَاءِ الآَلامِ ومَوتِ الْمَسيح! فَأَحَدُ الشَّعَانين يَمزِجُ بَينَ مُتَنَاقِضَين: بَينَ العِزَّةِ والقُوَّة، وبَينَ العَارِ والضُّعف. هَذَان العُنصُرانِ الْمُتَنَاقِضَان، يَتَدَاخَلانِ في حَيَاتِنَا بِشَكلٍ مُتَواتِر: فَحِينًا نَحيَا الفَرَحَ، وحِينًا نَختَبِرُ الحُزن. حينًا نَشرَبُ كَأسَ الهَنَاءِ العَذبَة، ونَتَجَرَّعُ كَأسَ العَذَابِ الْمُرَّةِ حينًا آخَر. نَشعُرُ تَارَةً بِمحبَّةِ النَّاسِ والتِفَافِهم، ونَتَلَقّى طَعَنَاتِ الغَدرِ وسُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَرَّةً أُخرَى. نَعتَلي صَهوَةَ الْمَجدِ وَنَنْتَشي نَشوَةَ الانتِصَارِ أَحيَانًا، ونُحَطُّ إلى أَسفَلِ دَرَجَاتِ الذُلِّ والانكِسارِ أَحيانًا أُخَر... إذْ لا حَالٌ ثَابِتْ، والتَّغيرُ سُنَّةُ الحَيَاة!

 

وهَذَا مَا حَدَثَ مَع الْمَسيحِ الرَّب: فَيَومًا اسْتَقبَلُوهُ بِصَيحَاتِ السُّرورِ والْمُبَايَعَة، ويومًا آَخَر حَكَمُوا عَليهِ بِصَرَخَاتِ الإدانَةِ والخِيَانَة. يَومًا فَرَشُوا أَمَامَهُ الطَّريقَ بِأَرْدِيَتِهم وبالأغْصَان، ويَومًا آَخر عَبَّدُوهُ بالبُصَاقِ والشَّتَائِمِ والَّلطَمَات! هَذَا الأسبوعُ الْمَلْحَميّ، يُرينَا كَيفَ أَنَّ الّذي يَبدُو مُتَنَاقِضًا، يَغدُو عِندَ الإنسانِ مُتَوافِقًا! فَهَذَا الْمَخلُوقُ الَّذي مَيَّزَهُ اللهُ بالْمَجدِ والكَرامَة، يملِكُ القُدرَةَ والحُرّيّةَ في الانتِقَالِ مِنَ الخَيرِ إلى الشَّرِّ الْمُطلَق، والعُبورِ مِنَ الشَّرِّ إلى الخَير العَظيم. هَذا الإنسَانُ في تَنَاقُضَاتِه، هو الَّذي لِأجلِهِ جَاءَ الْمَسيحُ فَادِيًا، وهَذَا هو عُنوانُ وجَوهَرُ "أُسبوعِ الآَلام". هَذَا الإنسَانُ هُوَ الكَائِنُ الّذي لأجلِهِ صَارَ الكَائِنُ الأزَليّ، كَلِمَةُ الله، يَسوعُ الْمَسيح، إنْسَانًا: ﴿جَاءَ لِيَبحَثَ عَنِ الهَالِكِ فيُخَلِّصَهُ﴾ (لوقا 10:19).

 

في عِظَةٍ حَولَ أَحَدِ الشّعانين، يَكتُبُ رَاهِبٌ عَاشَ في القَرنِ العَاشِر، قَائِلًا: ((عِيدُ اليَومِ يُقَدَّمُ لَنَا مِنْ خِلالِ حَالَتينِ مُختَلِفَتَين! فَفِي الشَّعَانين نَرَى الرَّبَّ يَسوعَ مِنْ جِهَةٍ سَامِيًا وَمُكَرَّمًا، ومِنْ جِهَةٍ أُخرَى نَراهُ مُهَانًا ومُتَأَلّمًا. نَرَاهُ مُحَاطًا بالْمَجدِ والشَّرَف، ونَراهُ أيضًا ﴿لا صُورَةَ لَهُ ولا بَهاءَ﴾ (أشعيا 2:53). هُنَا يَهتِفُونَ لَهُ: ﴿هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبِّ، مَلِكُ إِسرائيل﴾ (يوحنّا 13:12)، وهُنَاكَ يَسخَرونَ مِنهُ ويَطلُبونَ مَوتَه. هُنَا يَركُضونَ نحوَهُ بِسُعَفِ النَّخل، وهُنَاكَ يَصفَعُونَهُ ويَضرِبونَ رَأَسَهُ بِقَصَبَة! هُنَا يُغرِقُونَهُ بالْمَدائِح، وهُنَاكَ يُشبِعُونَهُ مِنَ الشَّتائِم. هُنَا يَتَسَابَقُونَ عَلَى فَرشِ طَريقِهِ بِأَردِيَتِهم، وهُناكَ يُعَرُّونَهُ مِنْ ثَوبِه! هُنَا يمتَطِي حِمارًا مُحَاطًا بالتَّكريم، وهُناكَ يُعلَّقُ عَلَى خَشبَةِ الصّليبِ، ممزَّقًا بالسّياطِ، وَحِيدًا ومَرذُولًا! فَيَا أَيُّهَا الرَّبُّ يَسوع، إِنْ ظَهَرتَ مُمَجَّدًا أو مُهَانًا، رَاكِبًا أو مُعَلَّقًا، تَبقَى أَنتَ فَرحَ الجَميعِ وخَلاصَهُم).

 

أَيُّها الأحبّة، أُسبوعُ الآلامِ القَاسِي، لم ينتَهي بِموتِ الصَّليب، إنَّما بأَمجَادِ القِيَامَةِ وأَفرَاحِهَا. والكَلِمَةُ الأخيرة لَم تَكُنْ لِلموتِ إنّما للحَيَاة. فَإنْ كَانَ الألَمُ جُزءًا أَصيلًا مِن حَيَاتِنَا، فَلْنَقبلهُ إذًا بِصَبرٍ وإيمان. وإنْ كانَ الْمَوتُ نهايةَ حَياةٍ فَانِيَة، فَلْنَجعَل مِنهُ جِسرَ عُبورٍ لحيَاةٍ لا تَفنَى. أُسبوعُ الآلامِ يُعَلِّمُنا أَنَّ الْمَجدَ الآتي مِنَ النَّاسِ والدُّنيا، مَا هو إلّا بَاطِلٌ وغُرورٌ يَتبَدَّدُ كالضَّبابِ إذَا أَشرَقَت عَليهِ شَمسُ الظُّروفِ والْمَواقِف. ولا مَجدٌ يَبقَى سِوَى الْمَجدِ الحَقيقيِّ الآتي مِن الله، فَإليهِ أَسْعَى. لِأنَّ النَّاسَ وإنْ رَفَعوكَ اليَومَ ومَجَّدُوك، فَاعلمَ أَنَّهم غَدًا قَدْ يُسَفِّهونَكَ ويَصلِبوك! وعَليه، قَالَ الرَّبُّ عَلَى لِسانِ نَبيّهِ إرمِيَا: ﴿مُبَارَكٌ الَّذي يَتَّكِلُ عَلَى الرَّبِّ، ويَكونُ الرَّبُّ مُعتَمَدَهُ﴾ (إر 7:17).

 

مع أَحَدِ الشَّعانين وأُسبوعِ الآلام، أَقولُ لِنفسي ولِكُلِّ إنسَانٍ يُعَانِي، وقَدْ تَألَّبَت عَليهِ الحَيَاةُ وظُروفُهَا، عَلَى مِثالِ الْمَسيحِ الْمُتَألِّم، كَلِمَاتِ الْمَزمورِ الْمُعزّي: ﴿الرَّبُّ نُورِي وخَلاصِي، فَمِمَّن أَخَاف؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَياتي فمِمَّن أَفزَع؟ إِذَا اْصطَفَّ علَيَّ عَسكَرٌ فَلا يَخافُ قَلْبي، وإِنْ قَامَ علَيَّ قِتالٌ فَفِي ذَلِكَ ثِقَتي. ناصِرًا كُنتَ لي فلا تَخْذُلْني، ولا تَترُكْني يا إِلهَ خَلاصي﴾ (راجع مز 27).