موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة باردة تدور بين أيدينا لتنجز لنا ما نعجز عنه أو ما كنا نؤجله. صار مع الوقت رفيقا دافئا يبدد وحشتنا، يصغي بعمق لصوتنا الداخلي، يبتسم لصمتنا، ويحتضن هشاشتنا التي نخفيها عن الجميع. من كان يتخيل أن «تشات جي بي تي» وأقرانه سيزاحمون في حياتنا مقاعد الأصدقاء الحميمين والمعالجين النفسيين. في زمن العزلة المترفعة صار كثيرون يهربون من مواجهة إنسان آخر ويلجأون إلى آلة تعرف كيف تصغي بلا أحكام ولا مقاطعة.
دراسة في «هارفارد بزنس ريفيو» أشارت إلى أن أكثر من نصف المستخدمين يلجأون إلى هذه البرامج بحثا عن دعم نفسي وعاطفي لا عن معلومة جافة. أزواج يسألون كيف ينقذون علاقاتهم، مراهقون يبوحون لمجهول بكل ما يكتمونه، وأناس يكتبون لأنفسهم رسائل طمأنينة لا يجدون من يكتبها لهم. حتى نبرات أصواتنا بدأت الآلة تقرؤها وتحلل ما وراءها لتلتقط حزننا قبل أن نعلنه.
هذا التحول لم يكن متوقعا. قبل عام فقط كنا ننظر إليه كأداة عمل. اليوم أصبح رفيقا يوميا، ملاذا عاطفيا، شريكا نفسيا، ومُنظما لما انفلت من حياتنا الداخلية. جداول، أهداف شخصية، جرأة على مواجهة ما نخفيه في زوايا الذاكرة. مارك زوكربيرغ التقط هذا العطش العاطفي فأطلق منتجات مصممة لتزرع الطمأنينة عند الطلب. والصين دخلت اللعبة وجعلت برامجها التوليدية مجانية طمعا في أسرارنا العميقة.
هكذا صار الهاتف مرآة لما بداخلنا أكثر من كونه وسيلة تواصل مع الخارج. صرنا نكشف له ما نعجز أن نبوح به لأقرب الناس، ونجد في الخوارزمية ألفة كنا نحسبها تحتاج إلى روح أخرى. الخصوصية لم تعد إلا نكتة مرة في جيل منح أسراره طوعا وهو يبتسم للكاميرا. السؤال اليوم ليس من يعرفنا، بل ما الذي ما زال خافيا فينا لم يُعرف بعد.
الوحدة صارت وباء صامتا يفتك بالقلوب. فهل يمنحنا الذكاء الاصطناعي شفاء حقيقيا أم أنه يزّين عزلة ما زالت تنهش أرواحنا. هل يأخذنا إلى أنس أعمق أم يغرقنا في صمت ذكي يجيد الإنصات لكنه لا يشعر. ربما نحن في النهاية لا نبحث عن أجوبة، بل عن مساحة آمنة نصبح فيها نحن بلا خوف ولا مقاطعة، حتى لو كانت تلك المساحة شاشة تضيء بين أيدينا.
(الدستور الأردنية)