موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

الميلاد: لقاءُ الصَّمت

بقلم :
الأخ مؤيد معايعة اليسوعي - لبنان
نُصلّي في ميلادِ المسيح، أنْ نتعلَّمَ قيمةَ هذا السَّرِ الإلهيّ الإنسانيّ، سرّ اللقاء الصَّامِتْ، سرّ المحبَّة المطلق

نُصلّي في ميلادِ المسيح، أنْ نتعلَّمَ قيمةَ هذا السَّرِ الإلهيّ الإنسانيّ، سرّ اللقاء الصَّامِتْ، سرّ المحبَّة المطلق

 

إنَّ القارئَ في الإنجيل، يلمحُ المسيحَ دائمَ الحركة، في تجوالٍ وترحالٍ وانتقالٍ مستمرّ. لكنَّ ميلادَ المسيح، هو مِنَ المشاهدِ القليلةِ الجامدة، الثَّابتة وغير المتحرّكة. إنَّ هذا المشهدَ الثَّابتَ يدفعُنا إلى التَّمهُّلِ والتَّوقُّفِ معَه، هو أحَّدُ تلكَ اللحظاتِ الَّتي نرتاحُ فيها ونتوقَّفُ قليلًا عنِ اللحاقِ بالمسيح الجوَّال. لكنَّ السُّؤال، لماذا يحدثُ هذا التَّمهُّلُ والتَّوقُّف؟ ولماذا علينا أنْ نتجاوبَ معهُ وأن نتمهَّلَ ونتوقَّفَ بدورِنا؟ لماذا هذهِ الوقفةُ مِنَ اللهِ أوَّلًا والإنسانِ ثانيًا؟!

 

إنَّ هذهِ الثُّنائيَّة، الله والإنسان، لطالما حيّرتِ الفكرَ والقلبَ معًا، إنَّها ثنائيَّة تحملُ مِنَ التَّناقضُ الكثيرَ ولكنَّها تحملُ مِنَ التَّماثلُ الكثيرَ أيضًا، إنَّها المفارقةُ الأصعب، ولكنْ، وبسببِ هذا التَّناقضِ والتَّماثل تحديدًا، فلا بُدَّ عندَ اللقاء أنْ يحدثُ الصَّمت، أن يَسْكُنَ كُلُّ شيء، إنَّهُ لقاءُ الرَّغبات، فقد التقتِ الأُلوهةُ برغبتِها، والتقتِ الإنسانيَّةُ برغبتِها، وهنا الكمالُ الَّذي تتوقَّفُ عندَهُ الكلمات، ويحدثُ الصَّمت، ويكتفي الطرفانُ بالنَّظرِ والتَّأمُّلِ بهذهِ الرَّغبةِ العميقةِ الَّتي تحقَّقتْ وتجسَّدَتْ أخيرًا. إذا تتبَّعنا قراءةَ أحداثِ الميلاد، لوجدناها أحداثًا تُروى مِنْ طرفٍ ثالث (الرَّاوي)، لكنَّ طرفي اللقاءِ ومِحْوَرَيْ المشهد هما دائمًا في صمت، وهذا هو جوهرُ الميلاد، وجوهرُ لقائِصى حدودنلقابلاءاتٍ أُخرى كثيرة نا بالله. اللهُ يدفعُنا إلى الصَّمت، إلى التَّأمُّل ثمَّ اللقاء. لا غايةَ للهِ أكبرُ مِنْ غايةِ لقائهِ بالإنسان، ولا غايةَ أكبرُ للإنسانِ مِنْ لقائهِ بالله.

 

في هذا اللقاءِ الصَّامت، تبدأُ حكايةُ تحقيقِ الذَّاتِ واكتشافِها، لكنْ ما يُدْرِكُهُ الإنسانُ بالأكثرِ هو قيمةَ اللقاءِ وأهميَّةَ الآخر، والَّذي هو وسيلتُهُ الوحيدةُ في تحقيقِ ذاتِهِ واكتشافِها. وهنا لا تنتهي المسيرة، بل يقفزُ الإنسانُ إلى لقاءاتٍ أُخرى كثيرة، يبحثُ مِنْ خلالِها عن ذاتِه، ليكتشفها بشكلٍ مُتجدّدٍ ومُميّز، ليصلَ في لحظةٍ ما، وبنعمةٍ خاصَّة، إلى أنْ يُدركَ أنْ تحقيقَ الذَّاتِ يتمُّ مِنْ خلالِ اللقاءِ الأكملِ مع الآخر، أي لقاءِ عطاءِ الذَّاتِ الكامل، الصَّليب، تلكَ اللحظةُ الَّتي توَّجَتْ وتتوّجُ دائمًا خبرةَ الميلاد.

 

كُلُّ لقاءٍ بآخر، هو خبرةُ ميلاد، تدفعُنا إلى أنْ نكتشفَ ذواتَنا مِنْ جهّة واللهَ المستكينَ في الآخرِ مِنْ جهّةٍ أُخرى، وأنْ يكتشفَ هو في المقابلِ ذاتَه واللهَ القابعَ فينا. لقاءاتٌ كثيرةٌ تُحاولُ أنْ تدفعَ بنا إلى الأقصى، إلى القمَّة، إلى الأُولوهة، إلى أنْ تكتملَ فينا رغبةُ اللقاءِ بالآخر، إلى أنْ يصلَ الحبُّ إلى أقصى حدودِه، أي أنْ نُعطي ذاتَنا له.

 

نُصلّي في ميلادِ المسيح، أنْ نتعلَّمَ قيمةَ هذا السَّرِ الإلهيّ الإنسانيّ، سرّ اللقاء الصَّامِتْ، سرّ المحبَّة المطلق.