موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ مارس / آذار ٢٠٢٥

القيم والأخلاق في الاقتصاد

د. عدلي قندح

د. عدلي قندح

د. عدلي قندح :

 

لطالما شكلت القيم الأخلاقية جزءًا لا يتجزأ من الفكر الاقتصادي منذ نشأته، حيث كان الهدف الأساسي لأي نظام اقتصادي هو تحقيق العدالة والتوازن بين مصلحة الأفراد ورفاهية المجتمع. وبينما ركز الفلاسفة القدماء والمفكرون الاقتصاديون على المبادئ التي يجب أن تحكم الاقتصاد، شهدت العصور المختلفة تباينًا في تطبيق هذه المبادئ، مما أدى إلى ظهور مشكلات اقتصادية وأخلاقية تتطلب تصحيحًا مستمرًا.

 

تناول العديد من الاقتصاديين قضية الأخلاق في الاقتصاد عبر العصور، حيث أكد آدم سميث في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» على أهمية القيم الأخلاقية في نجاح الأسواق، موضحًا أن السوق لا يعمل بشكل مثالي دون إحساس أخلاقي يحكم تصرفات الأفراد. كما ركز جون ستيوارت ميل على ضرورة التوازن بين الحرية الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية، بينما قدم أمارتيا سن مفهوم «التنمية كحرية»، حيث رأى أن الاقتصاد لا ينبغي أن يقتصر على النمو الرقمي، بل يجب أن يركز على تحسين حياة الأفراد وضمان العدالة الاجتماعية. هذه الأفكار لا تزال تلعب دورًا رئيسيًا في النقاشات الاقتصادية اليوم، حيث تسعى الحكومات والمؤسسات إلى تحقيق اقتصاد أكثر عدالة واستدامة.

 

اليوم، ومع تصاعد التحديات الاقتصادية مثل الفساد، الاحتكار، والتفاوت الطبقي، يبرز دور المؤسسات والأفراد في إعادة ضبط المسار الاقتصادي من خلال مبادرات وتشريعات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الاستدامة. في هذا المقال، سنستعرض تطور القيم الاقتصادية عبر التاريخ، ونتناول تطبيقاتها في الدول المختلفة، مع التركيز على الأساليب التي يتم من خلالها تصحيح الانحرافات وضمان التوازن بين السوق والأخلاق.

 

منذ العصور القديمة، كان الاقتصاد مرتبطًا بالقيم الأخلاقية التي تعزز العدالة الاجتماعية. ففي الفلسفة اليونانية، أكد أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية» على ضرورة أن يخدم الاقتصاد المجتمع لا أن يكون مجرد وسيلة لجمع الثروة. ومن جهة أخرى، كان للفكر الإسلامي دور محوري في الاقتصاد، حيث ركز على العدالة في توزيع الثروة من خلال مبادئ مثل الزكاة والوقف، والتي تهدف إلى تحقيق التوازن الاجتماعي وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

 

على مر العصور، شهد العالم تطبيقات واقعية لهذه المبادئ، حيث اعتمدت الدولة الإسلامية في العصر العباسي على نظام اقتصادي مبني على التكافل الاجتماعي، مما ساهم في تحقيق استقرار اقتصادي ونمو مستدام. أما في أوروبا، فقد فرضت الكنيسة الكاثوليكية قيودًا على الفائدة (الربا) للحد من الاستغلال الاقتصادي، في محاولة لتحقيق العدالة الاقتصادية.

 

ورغم أن العالم الحديث قد شهد تغيرًا في النظم الاقتصادية، إلا أن هذه المبادئ لا تزال تطبق بأشكال مختلفة. فالمؤسسات الخيرية مثل مؤسسة «بيل وميليندا غيتس» تعمل اليوم على محاربة الفقر، بينما تقدم البنوك الإسلامية نموذجًا اقتصاديًا حديثًا مبنيًا على تقاسم الأرباح بدلاً من الفائدة الربوية.

 

مع تطور الفكر الاقتصادي في العصور الحديثة، برزت نظريات جديدة توازن بين الحرية الاقتصادية والمبادئ الأخلاقية. فقد رأى آدم سميث، في كتابه «ثروة الأمم»، أن السوق الحر قادر على تحقيق التوازن من خلال «اليد الخفية»، لكنه أكد في كتابه الآخر «نظرية المشاعر الأخلاقية» أن نجاح الاقتصاد يتطلب التزامًا أخلاقيًا من الفاعلين فيه.

 

هذا التوجه كان له تطبيقات واقعية، حيث تبنت بريطانيا في القرن التاسع عشر الليبرالية الاقتصادية، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية، لكنه تسبب أيضًا في استغلال العمال وظروف عمل قاسية. كما اعتمدت الولايات المتحدة على السوق الحر، لكنها سنت قوانين مكافحة الاحتكار مثل «قانون شيرمان»، لضمان المنافسة العادلة ومنع الاحتكار.

 

ولتصحيح الانحرافات التي نتجت عن الرأسمالية غير المقيدة، ظهرت حركات عمالية للمطالبة بحقوق العمال، وفرضت الحكومات قوانين لحماية المستهلكين ومكافحة الفساد. كما أطلقت مؤسسات مثل «الشفافية الدولية» مبادرات لمراقبة مستوى الفساد وتحفيز الحكومات على تعزيز النزاهة الاقتصادية.

 

في القرن العشرين، ظهر توجه جديد يركز على دور الدولة في تحقيق العدالة الاقتصادية، حيث دعا جون ماينارد كينز إلى تدخل الحكومات لتصحيح إخفاقات السوق وضمان استقرار الاقتصاد. وفي وقت لاحق، قدم أمارتيا سن مفهوم «التنمية كحرية»، مشددًا على أن الاقتصاد لا يجب أن يقتصر على النمو الرقمي بل يجب أن يركز على تحسين حياة الأفراد.

 

هذه الأفكار انعكست في سياسات الدول المتقدمة، حيث تطبق الولايات المتحدة برامج الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي لضمان العدالة الاجتماعية ضمن نظامها الرأسمالي. أما في دول الشمال الأوروبي، فقد اعتمدت السويد والنرويج نموذج «اقتصاد السوق الاجتماعي»، الذي يجمع بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية من خلال فرض ضرائب تصاعدية وتمويل الخدمات الأساسية للجميع.

 

لكن مع تزايد المخاطر الاقتصادية، مثل الأزمة المالية العالمية في 2008، اضطرت الحكومات إلى تبني قوانين صارمة لضبط القطاع المصرفي، مثل «قانون دود-فرانك» في الولايات المتحدة، لمنع تكرار الفوضى المالية الناجمة عن المضاربات غير الأخلاقية. وفي أوروبا، فرضت الحكومات ضرائب أعلى على الشركات الكبرى لضمان مساهمتها العادلة في الاقتصاد.

 

تسهم القوانين في ضبط السلوك الاقتصادي، مثل «قانون دود-فرانك» في أمريكا، الذي يفرض رقابة صارمة على المؤسسات المالية، أو الضرائب التصاعدية في أوروبا لضمان توزيع أكثر عدالة للثروة.

 

أصبحت الشركات مطالبة بتبني سياسات مسؤولة اجتماعيًا، مثل التزام تسلا وأبل بالاستدامة البيئية، أو تخصيص بعض الشركات أرباحها لدعم مشاريع تنموية.

 

تساهم الجامعات ومراكز الأبحاث أيضاً في تعزيز الأخلاقيات الاقتصادية من خلال دراسات متخصصة، مثل التي تجريها MIT وHarvard حول الاستدامة المالية، فيما يلعب المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) دورًا في توجيه النقاشات حول العدالة الاقتصادية.

 

ساهمت حركات مثل «احتلوا وول ستريت» في تسليط الضوء على التفاوت الاقتصادي، بينما قدم رواد أعمال مثل محمد يونس حلولًا عملية لمشكلات الفقر من خلال التمويل الصغير.

 

لا يمكن فصل الاقتصاد عن الأخلاق، فالتوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية هو ما يضمن استدامة المجتمعات. ورغم التحديات المستمرة، فإن التشريعات الصارمة، والمبادرات الاجتماعية، والمسؤولية المؤسسية تمثل أدوات رئيسية في تصحيح الانحرافات الاقتصادية وضمان مستقبل أكثر إنصافًا للجميع.

 

(الدستور الأردنيّة)