موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

التربية والشباب

بقلم :
الأب عماد الطوال - الأردن
الأب عماد الطوال - ماركا الشمالية

الأب عماد الطوال - ماركا الشمالية

 

في زمنٍ تتشابك فيه التحدّيات التكنولوجية والاجتماعية والروحية تتجدّد دعوة الكنيسة إلى الإصغاء إلى صوت الشباب أولئك الذين يشكّلون قلب العالم ومستقبله، وفي لقائه مع الشباب بمناسبة اليوبيل قدّم البابا لاون الرابع عشر رؤية تربوية عميقة تُعيد للتربية معناها الإنسانيّ والروحيّ وتُبرز دور الشباب كقوّة تغيير وبُناة سلامٍ في عالمٍ مضطرب.

 

التربية طريق إلى التغيير: انطلق البابا لاون من قناعةٍ أساسية أن التربية ليست مجرّد نقلٍ للمعرفة بل هي رسالة حياة تُسهم في بناء الإنسان الكامل فهي بحسب تعبيره "واحدة من أجمل الوسائل وأقواها لتغيير العالم"، من هنا دعا الشباب إلى المشاركة في "ميثاق التربية العالمي" الذي أطلقه البابا فرنسيس كمبادرة تجمع التربويين والمثقفين والمؤمنين من أجل إشراك الأجيال الجديدة في بناء أخوّة عالمية.

 

إنّ التربية في نظر البابا لاون ليست فعلًا أحاديّ الاتجاه بل هي علاقة حوارٍ ومشاركة حيث "تتضاعف المعرفة عندما يتمّ مشاركتها" كما قال القدّيس جون هنري نيومان بهذه الروح تتحوّل المدرسة والجامعة والبيت إلى كواكب تربوية تضيء سماء المستقبل وتوجّه الأجيال نحو العُلى.

 

تربية القلب قبل الفكر: من أبرز ما شدّد عليه البابا لاون هو تربية الحياة الداخليّة أي تربية القلب والضمير والروح، ففي عالمٍ مملوء بالمعلومات يحذّر من فراغ المعنى ومن ضياع الهدف حيث قال "لا يكفي أن نمتلك علومًا كثيرة، إن كنّا نجهل من نحن وما معنى حياتنا"، ودعا الشباب إلى التوقّف والإصغاء والصمت والصلاة لأنّ الإنسان لا يجد السلام إلا عندما يكتشف الله في داخله كما اكتشف القدّيس أغسطينس أن قلبه "لن يستريح ما لم يستقرّ في الله"، هذه التربية الداخلية لا تتجنّب القلق بل تُحوّله إلى بوصلة تُرشدنا نحو ما هو أعظم، نحو الله، نحو الحلم بحياةٍ وافرة، ونحو العُلى.

 

التربية الرقمية: تناول البابا لاون تحدّي العصر الرقميّ بعمقٍ إنسانيّ لافت فحذّر من أن "الخوارزميات لا يجب أن تكتب تاريخنا" داعيًا الشباب إلى أن يكونوا هم مؤلّفي قصّتهم لا أسرى التكنولوجيا، وشدّد على ضرورة أن نُضفي الطابع الإنسانيّ على الرقميّ وأن نحوله من فضاءٍ للإدمان والعزلة إلى مساحةٍ للأخوّة والإبداع.

 

وفي هذا الإطار استحضر مثال القدّيس كارلو أكوتيس الذي استخدم الإنترنت للبشارة بالإنجيل فحوّل الشبكة إلى منبرٍ للخير والمعرفة والإيمان، إنّ التربية الرقمية التي يقترحها البابا لاون هي تربية على التمييز والاستخدام الواعي للتكنولوجيا بحيث تبقى الأداة في خدمة الإنسان لا العكس.

 

التربية على السلام: في عالمٍ يمزّقه العنف والحروب أطلق البابا لاون نداءً قويًا إلى تربيةٍ تنبذ السلاح وتُسهم في نزعه، لأن السلام الحقيقي لا يتحقّق ما لم يُنزع السلاح من القلوب وما لم تُبنَ العلاقات على الاحترام والمساواة والكرامة وأكد أن التربية على السلام تبدأ من الأماكن الصغيرة، في العائلة وفي المدرسة وفي الصداقة، بهذا المعنى تصبح التربية مشروعًا للتحوّل الإنساني يربّي على المحبّة بدل الحقد وعلى اللقاء بدل الانقسام.

 

في ختام كلمته وجّه البابا لاون نظر الشباب نحو "يسوع المسيح، شمس العدل" ودعاهم إلى أن ينظروا إلى العُلى لا إلى "النجوم التي تتساقط" أي إلى الرغبات الزائلة.

 

التربية كما يراها البابا لاون هي رحلة نحو النور نحو تحقيق الذات في الله ونحو خدمة الإنسانية، ومن خلال الإيمان والتربية والالتزام يمكن لجيل الشباب أن يُصبح فعلًا "الجيل المميّز" الذي يضيء كالكواكب إلى أبد الدهور. فالتربية هي تربية القلب والعقل معًا، هي دعوة إلى تجاوز السطحيات إلى النظر نحو العُلى، وإلى أن يكون الشباب منارات رجاء وسلام في عالمٍ يحتاج بشدّة إلى النور.