موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

إنسانية الزيارة اللاونية وروحانيتها!

جورج كلّاس، وزير لبناني سابق

جورج كلّاس، وزير لبناني سابق

جورج كلّاس :

 

البعد الإنساني في زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان طغى على البعدين الروحي والحضاري، وتجاهلَ البُعد السياسي، مرتكزًا على  فنيَّةِ ابراز القيم التي تبشر بها المسيحية، والتي أساسها السلام الإرادي والمحبة، وليس سلام الأقوياء وسلام السلاح والمسلحين الذي يحمل بمضمونه ظروف الهدن الموقتة المرهونة بتبدل الظروف وسقوط هدنة المصلحة، لتتجدد النزاعات وتنشب الحرب من جديد.

 

إن المقاربة الأنسب لتقويم زيارة قداسته إلى لبنان، بما يعنيه من أنه الوطن الرسالة، هو تناول معنى لبنان ووظيفته من خلال ثلاثية عناصر، روحية وحضارية وحوارية، توافقًا مع شعار (طوبى لفاعلي السلام) الذي أعلنه عنوانًا للزيارة، تاكيدًا إصراريًا من قداسته في أول زيارة حبرية له رسمية خارج الڤاتيكان، إن مواجهة ما تتعرض له هذه الرسالة اللبنانية من مخاطر حادة، وما يتهددها من تحديات قاسية كونها النموذج النقيض للكيانات الإنقسامية والعنصرية، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الانتقال من الإحتفاء بشعارية الرسالة إلى عملية تحصين هذه الرسالة والدفع نحو تقعيد أسسها، ترسيخًا للمفهوم الذي إنطلق منه هذا الشعار الحضاري وتعميمًا للقيم الإنسانية التي يحملها لبنان، بنهائيات ورسالته في مجتمع كثير التحولات تحوط به الأخطار المهددة لوجوده من غير إتجاه.

 

المبادرة البابوية هي  تأكيد وقرار أن لبنان غير متروك لقدره، وأن تحصين دوره الحضاري والروحي والحواري التلاقوي بين أبناء الأديان، هو تحصين لخيار الكيانية اللبنانية النموذجية والمثالية والطوباوية التي تتشارك بحمايتها الطوائف اللبنانية، التي تشكل طائفة الطوائف بكل مذاهبها ومعتقداتها، والتي تلتقي لتكوُّن نموذجًا إستثنائيًا في تاريخ المجتمعات والجماعات الروحية ومسار التطورات العصرية.

 

فالقيمة الحضارية للزيارة أنها ليست لزيارة المسيحيين فقط، بل للبنان بكل مكوناته وأهله، في حين أن الخصوصية  الروحية التي ترافقها تقوم على معادلة واقعية هي أن الصيغة ترتكز الى أسس تتعاقد فيها الكيانات الروحية وتتشابك قيمها وتتكامل مسؤولياتها لتشكل النمط النموذجي الذي يُبنى عليه لصناعة حضارة السلام الروحي المرتكز على الخصوصية اللبنانية والرافع شعار الكيانية الوجودية للبنان مشفوعة بتجديد الرجاء وتقعيد أسس السلام، وتعزيز منطوق الكنيسة الخادمة ورفع شعار الحوار والكلمة والحثّ على إعتماد سياسة الخير العام وانتهاج مسؤولية التواضع في إدارة الشأن العام وتشجيع مبادرات جريئة تتصف بفائض السلام.

 

القيمة الإنسانية للزيارة التي وصفت بالإستثنائية، هي في زمنيتها وعنوان مهمتها ومفاعيلها التغييرية في نفوس الناس، اضافة الى انها حفلت بتوجيه كلام مباشر للشباب، حيث خاطبهم قداسته وأصغى إليهم وحاورهم وشجعهم على مواجهة تحديات الحياة بفرح وثقة، لأن الغد لهم وأنهم المؤتمنون على لبنان الغد وأن يكونوا شهودًا للحق وناطقين بالحق ومدافعين عن الحقيقة ومتقوين بقيمة الحرية، التي من دونها لا كرامة إنسانية ولا حق بالحياة الشريفة.

 

والزيارة بطابعها الرسمي والمجتمعي والروحي، سادها التوازن الدقيق في إدارة الإهتمام والرعاية. فعلى المستوى الرسمي أثبت الدور الڤاتيكاني حضوره كدولة من خلال ما تفرضه الأصول البروتوكولية والرسمية للزيارة، من لقاءات وتبادل كلمات مع الرؤساء والمسؤولين.

 

وعلى المستوى التكويني للمجتمع اللبناني، أكدت الزيارة عمليًا على دور التلاقي الحواري والتفاعلي والتفاهمي مع رؤساء الطوائف، كمرجعيات ذات كيانية حضورية وموقعية حضارية، فكانت اللقاءات مع رؤساء الطوائف ركنًا أساسيًا في برنامج عمل الزيارة المتقن الإعداد والتحضير، إضافة إلى اللقاء مع الشباب ومخاطبتهم بلغة الرعاية والمسؤولية وتشجيعهم للثقة بوجوهم وتاريخهم ومستقبلهم.

 

احتفالية الزيارة التي أعطت دفعًا للبنان السياسي والمجتمعي، لا بدّ أن تترك مفاعيل ايجابية على مستقبل الوضع ونشر ثقافة السلام وتجسيد مفهوم السلام في النفوس والواقع ومستقبل الإنسانية، التي تتهددها مخاطر إبليسيّة تسعى إلى التسلُّح والتسليح وتشجيع الشرذمة والانقسام وصناعة الحرب، نقيضًا لصناعة السلام  المبني على تعاليم  روحية وقيم مجتمعية.

 

هو السلام المُبشَّر به بالصلاة والرجاء والمُوَقَّع عليه بالدمع والترحُّم على شهداء إرتفعوا ضحايا على جلجثات الوطن المثقل بجراح عمَّقها طغيان السياسة على الخير العام.

 

الزيارة اللاّونية إلى لبنان، تُقرأ بالصورة وتُحلَّلُ بالمضمون وتُستشعرُ بالدلالة، وتعاش بتفاعل الناس معها وما تتركه في النفوس من عزاءات ورجاءات وإستشفاعات، والتي أكثرها حَرقةً، دموع أهل ضحايا مرفأ بيروت التي إستدمعت كل من شارك وشهد وأوسى وصلّى وترحَّم.

 

الزيارة اللاونية بإستثنائيتها وزمنيتها، هي أكثر من حجٍّ إلى وطن الرسالة، هي تعهد وعهد أن يبقى لبنان في قلب الڤاتيكان وضمير الإنسانية وعين الله!