موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣

وآخِرُ عَدَوٍّ يُبيدُهُ هوَ الْموت

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿وآخِرُ عَدَوٍّ يُبيدُهُ هوَ الْموت﴾ (1قور 26:15)

﴿وآخِرُ عَدَوٍّ يُبيدُهُ هوَ الْموت﴾ (1قور 26:15)

 

ذكرى جميع الْمَوتى المؤمنين

 

﴿وآخِرُ عَدَوٍّ يُبيدُهُ هوَ الْموت﴾ (1قور 26:15). نَسْتَهِلُّ عِظَتَنَا في قُدّاسِ تَذكَارِ جَميعِ الْمَوتَى الْمُؤمنين، بهذِهِ الآيَةِ الْمَأخُوذَةِ مِنْ رِسالةِ القِدّيسِ بُولسَ الرَّسول، الأولَى إلى أَهلِ قُورنتوس. فَمَنْ هُوَ القَادِرُ عَلَى إِبادَةِ الْمَوت، سِوَى الَّذي وَطِئَ الْمَوتَ بالْمَوت، وقَامَ مَجيدًا مِنْ بَينِ الأموَات، يسوعَ الْمَسيح؟ ومَنْ هوَ الَّذي أَحرَزَ الغَلَبَةَ عَلَى الْمَوت، سِوَى الّذي هوَ: ﴿الطّريقُ والحَقُّ والحَيَاة﴾ (يوحنا 6:14)، مَنْ أَتَى: ﴿لِتَكونَ الحياةُ للنّاسِ، وتَفيضَ فيهم﴾ (يوحنّا 10:10).

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحِبَّاء، لَمْ نَأتِ اليومَ إلى الكَنائِسِ لِنُحيِيَ ذِكرَى أَمْوَاتٍ وَارَهمُ الثَّرَى وتَلاشُوا أو انْدَثَروا. ولم نَأتِ حتّى نَذْكُرَهُم عِندَ رَبِّ أَمْوَاتٍ، بَلْ لَدَى إلهِ أَحيَاء (راجع متّى 32:22). فَصَلاتُنَا لأجلِ الأموَات، تُحي وتُعبِّرُ عَنْ رَجَائِنَا في قِيَامَةِ الْمَوتَى. وعَلَى هَذهِ القِيَامَة، يَرتَكِزُ إيمانُنَا وعَليهِ يَقوم، لِأنْ: ﴿إِن كَانَ الْمَسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا باطِلٌ، وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل. والَّذينَ مَاتوا في الْمسيحِ قد هَلَكوا. كَلاَّ! إِنَّ الْمَسيحَ قَدْ قَامَ مِن بَينِ الأَموَات. وكَمَا يَموتُ جَميعُ النَّاسِ في آَدم، فَكذلِكَ سَيُحيَونَ جَميعًا في الْمَسيح﴾ (1قور 17:15-18، 20، 22).

 

فالْمَسيحُ هوَ البِدَايَةُ والنِّهَاية، هوَ الألِفُ واليَاء. هوَ البِدَايَةُ لأنَّهُ الكَلِمةُ الّذي بِهِ: ﴿كَانَ كُلُّ شَيء، وبِدونِهِ مَا كَانَ شَيءٌ مِمّا كَان﴾ (يوحنّا 3:1). وهوَ النَّهايةُ لأنَّهُ دَيّانُ الكُلِّ وَخَلاصُ الجَميع. وعَلَيه، فإنَّ كُلَّ الأموَاتِ الّذينَ يَنَالونَ الخَلاص، يَخلُصونَ بالْمَسيحِ فَقَط. فَهوَ الطَّريقُ الْمُؤَدّي لِلخَلاص، وهوَ بَابُ الخَلاص، لا يَمضي فِيهِ ولا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ، إلّا بالْمَسيحِ وَحدَهُ فَقَط.

 

تَذكَارُ جَميعِ الْمَوتَى الْمُؤمنين، لا يَجِبُ أنْ يَكونَ مُنَاسَبةً لِتَجديدِ مَشاعرِ الحُزنِ والنَّحيب، بَلْ مُنَاسَبةً لِكَي نَفرَح فَرَحًا مُقدَّسًا في الرّب، فَرَحَ الَّذين يَثِقونَ بِقَولِ السَّيد: ﴿إنّي ذاهِبٌ لِأُعِدَّ لَكُم مُقامًا، وإذا ذَهبتُ وأَعددَتُ لَكُم مُقامًا، أَرجِعُ فَآَخُذُكُم إليَّ، لِتَكونوا أنتُم أيضًا، حَيثُ أنا أَكون﴾ (يوحنّا 2:14-3). فَرَحَ الْمُشتَاقِ الّذي يُدرِكُ أنَّ الحياةَ، وإنْ طَالَتْ، مَا هِيَ إلّا دَارُ غُربةٍ، ورِحلَةٌ سَوفَ يأتي يَومٌ وتَنتَهي، لِيُلاقِيَ وَجهَ مَحبوبِهِ الإلهيّ، الّذي يَتوقُ إلى لُقيَاه.

 

وإنْ كَانَ إيمانُنَا يُخبِرُنَا بِأنَّ أَحِبَّتَنا الَّذينَ غَادَرونَا بالجَسَد، هُمْ عِندَ الرّبِّ في الْمَخَادِعِ الأبَديَّة، مِثلَمَا نَرجو، فَإنَّ ذَاتَ الإيمانِ يُخبِرُنا بِأَنَّنَا سَنَلتَقي وإيّاهُم في جِوارِ الرّبّ، فهمُ السَّابِقونَ ونحنُ الّلاحِقون. يُعَلِّقُ القِدّيسُ قِبريانوس قَائِلًا: ((يجبُ أَلّا نَبكِي إخوَتَنا الّذينَ دَعَاهُمُ الرّبُّ مِنْ هَذَا العَالم، لِأنَّنا نَعلَمُ أَنَّنَا لم نخسرهُم، بَلْ ذَهَبوا قَبلَنَا. عَلَينَا أَنْ نُغَبِّطَهم بَدَلًا مِنْ أَن نَبكيهم. ولَيسَ لَنَا أن نَرتديَ مَلابِسَ دَاكِنَة، وَهُمْ في العُلَى يَرتَدونَ الحُلَلَ البَيضَاء. دَعونا لا نُعطي لِأحَدٍ أنْ يَلومونا، عَندَمَا نَندُبُ أُولئِكَ الَّذين نَدَّعي أَنّهم أَحياءٌ عِندَ الله، وكَأنّهم اِنْدَثَروا مِنْ دُونِ أَثَر! إِنَّنَا بِذلكَ نخونُ رَجاءَنَا وإيمانَنَا، وَكَأنَّنَا نَقولُ بِأنَّ مَا نُبشِّرُ بِه، يَبدو وَهمًا وكَذِبًا))

 

نَقرَأُ في سِفرِ رُؤيَا القِدّيسِ يُوحَنَّا: ﴿طُوبِى لِلأمواتِ الّذينَ يَموتونَ في الرّب﴾ (رؤ 13:14). ولَكِن، قَبلَ أنْ يموتَ الإنسَانُ في الرَّبّ، عَليهِ أَوّلًا أنْ يحيَا في الرَّب، بِأَنْ يَتَّقيهِ ويُحبَّهُ حُبًّا صَادِقًا، عَامِلًا بِمَشيئَتِه ووَصَايَاه. وهَذَا مَا عَبَّرَ عَنهُ بُولسُ في رسالتِهِ إلى أَهلِ رومة، قائِلًا: ﴿فَإذَا حَيِينا فَلِلرّبِّ نَحيَا، وإنْ مُتنَا فلِلرّبِّ نَموت﴾ (رو 8:14). فَمِنَ الرّبِّ ابتَدَأت حَياتُنَا، وفيه وَإليهِ تَنتَهي، لِتَبدَأ حَيَاةٌ أَبديّةٌ لا تَزول، لأنَّنا: ﴿نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ، وما هو إِلاَّ خَيمَة، فَلَنَا في السَّمَواتِ مَسكِنٌ مِن صُنعِ الله، بَيتٌ أَبَدِيٌّ لم تَصنَعْه الأَيْدي﴾ (2قورنتوس 1:5).

 

وأَخيرًا، أَختُمُ وإيّاكم بهذهِ الأبياتِ منَ الشِّعرِ الرُّوحيّ للبابا شنودة الثّالث، في قصيدةٌ بعنوان: تائِهٌ في غُربةٍ، يَقول:

 

يَا صديقي لَستُ أَدري مَا أَنا       أَوَ تَدري أَنتَ مَا أَنتَ هُنَا؟

نَحنُ ضَيفانِ نَقضِي فَترةً           ثمَّ نَمضي حِينَ يَأتي يَومُنَا

عَاشَ آَباؤنَا قَبلاً حِقبَةً             ثُمَّ وَلَّى بعدَها آباؤنا

 

لَستُ أدري كَيفَ نمضي أَو مَتَى      كُلُّ مَا أَدريه أنَّا سَوفَ نمضي

في طَريقِ الْمَوتِ نجري كُلُّنا          في سِباقٍ بَعضُنا في إِثرِ بعضِ

كَبُخارٍ مُضمَحِلٍّ عُمرُنا               مِثلَ برقٍ سَوف يمضي مِثَلَ وَمضِ

 

يا صَديقي كُنْ كَمَا شِئتَ إذًا        وَاجري في الآفاقِ مِن طُولٍ لِعَرضِ

اِرضِ آَمَالَكَ في الألقابِ أَو        اِرضها في الْمالِ أَو في الْمَجدِ اِرضِ

وَاغْمِض العَينَ وَحَلِّق حَالِمًا        ضَيّعِ الأيامَ في الأحلامِ واقْضِ

آخِرُ الأمرِ سَتَهوي مُجهَدًا         رَاقِدًا في بَعضِ أَشبَارٍ بِأَرضِ