موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٨ فبراير / شباط ٢٠٢٤

نعم... كنيسة البشرى السارة

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

 

في البدء

 

في عالم غريب نعيش اليوم، وفي هذا العالم المشحون بالكذب والغش والفساد والكراهية وتدمير الآخر وقتل الضعيف ليكون حطباً لرغباتي وخدماتي، كما نعيش تجارب المال والجاه والكراسي والمناصب. وقد تغيرت الحياة الاجتماعية بين البشر بل بين الأسرة الواحدة، وتقلّصت أوقات اللقاء وقلّة الأيادي الرحيمة، وأصبحت في كثير من الأماكن لغة حقوق الإنسان في مهب الريح وإنْ كان أحياناً وجودها يؤثر بنسب مختلفة بين الشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها رغم أنه هناك تطور كبير حيث ارتفعت مفاهيم البشر العلمية في مسيرة الموبايل والتكنولوجيا، فتطورت الحروب وانتقلت من بشرية تدميرية إلى مسيّراتية وصاروخية تدميرية بإمكانها أن تجعلك ضحية وإن كنت في بيتك ومع عائلتك، وهذه كلها أصبحت أمراض اندسّت في جسم المجتمع والكنيسة، وفي حياة رعاتها وأبنائها وأشخاصها، واضمحلّت إنسانيتنا كما زادت آفاتنا... وأخرى كثيرة وكثيرة.

 

 

المسيح ... رجاؤنا

 

أمام هذه المأساة هناك صوت الرب يسوع عبر كنيسته يعطينا الأمل والرجاء الحقيقي في مسيرة الحياة، وبذلك يكون المسيح رجاؤنا وخلاصنا، فإذا لم يكن رجاءنا "فنحن أشقى الناس جميعاً" (1كو19:15) إنه المسيح الحي. إنه الصوت الذي يعلّمنا في مسيرة حياتنا الأرضية كيفية الوصول إلى هذا العالم لإصلاحه. إنه صوت الكنيسة تعلن أن المسيح آتٍ ليزرع بين الناس محبةً وسلاماً ليحملوا الرسالة السامية وليكونوا رجال البشارة الجديدة لهذا العالم المعولم ليوصلوه إلى "ملء قامة المسيح" (أفسس13:4). فالبشارة هي من صُلب رسالة الكنيسة، فهي لا تعمل عملها إلا من حقيقة المسيح عبر الكنيسة الواحدة والمقدسة والرسولية. فطبيعة كنيسة اليوم يجب أن تحمل طبيعة سمات مؤسِّسِها وحقيقة مشيئته إذ أرادها الرب امتداداً لشخصه في أن تكون نوراً وحياةً وبشارةً ومحبة. فحيث الكنيسة هناك المؤسِّس، فهي قلب المسيح، والمسيح هو قاعدتها، وخارجاً عنه لا حياة ولا قداسة ولا شهادة بل أمور شخصية ومصالح كبريائية... ليس إلا!.

 

 

الله في المحبة

 

نعم، لقد أتى الله إلى الناس بقوة المحبة، وبهذه المحبة خدم الناس إذ قال "أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لو27:22) فهو الذي اختارنا وأرسلنا للحصاد، كباراً وصغاراً، وقال كلاماً واضحاً لتلاميذه ولنا جميعاً "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّذوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به" (متى19:28) ولم يقل غير هذا الكلام الواضح، ولكن ومع الأسف فاليوم كبار دنيانا ومعابدنا لا يفتشون إلا عن ما هو من كلام مصلحي لأجل الغايات والمنافع والمشيئات، ولا يبالون بأمور كهذه بل يتركونها جانباً لذلك "يحبكم العالم ولا يبغضكم" (يو7:7) ممّا جعلني أسأل: حتى متى نبقى بعيدين عن رسالتنا الحقيقية وصاحبها، فلا مبرر لوجود الكنيسة إلا دعوة مؤسِسِها لنا. والغاية التي من أجلها دعانا. وكلّما شوّهنا هذه الدعوة، شوّهنا هوية كنيستنا، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، وصارت غير أهل لحضور المسيح الحي بل لحضورنا نحن ولا آخر، ولكن لنعلم أن المسيح "أراد خلاص جميع البشر ويبلغهم إلى معرفة الحق" (1تيمو4:2) لا أمور دنيوية من أجل مصالح أنانية... ليس إلا!.

 

 

صور ضاحكة

 

نعم، الكنيسة وجودها وجود المسيح الحي فيها، فهي تدعونا لندرك مدى حقيقة رسالتنا التي تجعلنا أن ننسى أنفسنا لنعلن المسيح للآخرين وليس إعلان أنفسنا وإن كنّا اليوم ومع الأسف نرى ذلك جليّاً، حيث نجعل من شاشات حياتنا وعالمنا كتابات غريبة مأسوية، وصور ضاحكة ضحكة الدنيا الزائلة، ويدخل الناس إلى كنائسنا ويخرجوا منها وهم لم يأخذوا شيئاً أو زوّادة لمسيرة حياتهم اليومية الروحية، بل سمعوا كلمات كبريائية وخطب باهرة عن المسيرة الأنانية المصلحية، وعبرها نغشّ أنفسنا وسوانا من المؤمنين وربما الحاضرين من غير المؤمنين عندما نقوم بتصريحات فارغة وأنانية ومفرّغة من جوهر المسيح الحي، فنجعل من أنفسنا علامة الكرازة الأمينة وننسى رسالة الإنجيل ونظنّ أنّ لنا فيها حياة أبدية (يو35:5) فنحن جميعاً وغيرنا نسمع حيناً إعلانات طنّانة وتصريحات ربما سياسية لا تمتّ إلى وجودنا بالكنيسة للصلاة، ومن خلال ذلك نعتبر أنفسنا نحن الناجحين وننسى الذي دعانا للتأمل في كلمة الله، فترانا ندقّ النواقيس لكلامنا والطبول لتصريحاتنا ومن هناك المؤمن المتضامن معنا بالزغاريد دون أن يدرك لماذا يزغرد، معتبراً أن المسيح داخلاً أورشليم فيُنشد الأناشيد وتعلو الضحكات وتعمّ النشوة وتؤكّد كل ذلك أنه عيد، ولكن أقول: يا بئسنا، كم نغشّ أنفسنا دون أن ندرك حقيقة كلامنا وتصريحاتنا وزغاريدنا وضحكاتنا، فالبشرى ليست بهذه الطريقة كي نوصل المؤمنين والحاضرين إلى المسيح، لذا فلننتبه إلى شناعة الصورة التي نحملها والمظلِّلة... ليس إلا!.

 

 

نظرة جديدة

 

نعم، اليوم نحن مدعوون لقراءة ذاتية في ضوء سرّ التجسد، هذا السرّ الذي يعلّمنا قائلاً: ما أجمله سرّ التواضع، إذ يرفعنا بعدما افتقرنا ليغنينا وليس ليكثّر مصالحنا. ولنعلم أنه لبس بشريتنا ليزيّننا بألوهيته وليس ليزيد من زركشتنا وزينتنا وصورنا، بل نسأل: كيف نشهد لسرّ التواضع ونحن في عالم الشهوة هذا، عالم العولمة والتحدي؟ فلا نجعل من شعبنا الطيب فريسة لغذائنا أو وليمة لعشائنا الأناني وأصدقائنا، وعبر سباتنا العميق بمَثَلِنا السيء عبر مسيرة حياتنا ونحن نقف مثل الفرّيسي مرة أخرى حينما وقف أمام مذبح الرب فاتحاً ذراعيه، مصلّياً بل معتبراً نفسه مصلّياً، بينما الحقيقة تدعونا أن ننظر إلى الآخرين نظرة جديدة مبنيّة على حب صاحب الدعوة وكنيسته. ولنعلم أن الكل أمامنا متساوون بالحب والخدمة والكرامة، ولنحمل رسالة البشارة بجدارة دون خوف أو التواء أو مصلحة وعبر ذلك يتمجّد مؤسِّسها الذي دعانا ودعاها إذ قال لنا جميعاً "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو5:15) وهذا ما يدعونا إلى أن نجعل من مهمتنا الوصول إلى حقيقة المسيح الذي يجمع ولا يفرّق إذ أحبّنا مجاناً حيث قال "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو13:15) وقال أيضاً "انتبهوا، فالشجرة الغير المثمرة تُقطَع وتلقى في النار" (متى10:3) فلنحرر أنفسنا من صمت الفطنة الكاذبة والتي تكرّس التخلف وتعفي من الالتزام... ليس إلا!.

 

 

الختام

 

ختاماً، يسوع الرب مؤسِّس الكنيسة أمّنا وأساسها ومحرّكها وهو أكيداً غايتها لأنه الطريق والحق والحياة والغاية لكل معمَّذ، وهذه دعوة كي لا نتركه وحيداً وكأنه لم يؤسس الكنيسة ولا تُنتَسَب إليه، ونجعل أنفسنا نحن كبار الزمن كبارها بينما هو الأول والآخر. هذا هو معنى الوجود، وهو الرب والإله، وفي ذلك يقول مار بولس "أسألكم أن تسيروا سيرة تليق بالدعوة التي دُعيتم إليها. سيرة مؤها التواضع والوداعة والصبر. مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام. فأنتم جسد واحد وروح واحد كما أنكم دُعيتم دعوة رجاؤها واحد" (رو1:4-4).

 

فيا رب، لا تسمح أن تكون كنيستك مجتمعاً يضاف إلى المجتمعات الأخرى القائمة برؤسائها وأعضائها المساهمين، بل اجعلنا نعمل في حمل الرسالة السارة والشهادة لمؤسِّسها المسيح الحي بحرية الضمير. فالدعوة والرسالة والشهادة عناصر جوهرية فيها قبل دخولنا في حقيقة العولمة المزيفة، ونحصر رسالتك في منعطف هذا العالم. واجعلنا أن نطرد باعة البقر والغنم والحمام والتجارة من هيكلك المقدس وكنيستك التي أحببتَها، فمملكتُكَ ليست من هذا العالم، والمراكز الدنيوية وما أكثرها اليوم، وتنوعاتها المختلفة ولمناسبات عديدة، فهي ليست من مملكتك بل قدرتك نابعة من قبر المصلوب القائم من الموت، وهذا هو إيماني، وما عليَّ إلا أن أوصل بشرى الخلاص والقيامة، فالكنيسة غنية بأشخاصها وإيمانهم، ولا بشرى إلا البشرى السارة عبر كنيسة واحدة... نعم وآمين.