موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الحادي والثّلاثون من زمن السّنة - أ
﴿إنَّ الكَتَبَةَ والفِرّيسيّين عَلَى كُرسِيِّ مُوسَى جَالِسون﴾ (متّى 1:23). يَرمُزُ الكُرسِيُّ إلى السُّلطَة، والجَالِسُ عَليه هُوَ الْمُمسِكُ بِزمامِ السُّلطَةِ ومَقالِيدِ الحُكم. والسُّلطَةُ أَنْوَاع. فَهُنَاكَ السُّلطَةُ الدُّنيَويَّةُ والسِّيَاسِيَّة، وهُنَاكَ السُّلطَةُ الرُّوحِيَّةُ والدِّينيَّة. ويُفتَرَضُ بِكِلا السُّلطَتَين السَّعيُ لِتَحقيقِ الخَيرِ والصّالحِ العَام، زَمَنيًّا وُروحِيًّا، لجميعِ رَعايَاها. وَلَكِنّنَا نَعلمُ أيضًا، أَنَّ السُّلطَةَ بِأَنواعِهَا، قَدْ تحمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الفَسَاد، عِندَمَا يَتَحوَّلُ الهَدفُ مِنْ تحقيقِ النَّفعِ العَام، لخدمَةِ الْمَصلَحَةِ الشَّخصيَّة. وعِندَها يُمسي الرّاَعي في وَادٍ وَالرَّعيّةُ في واد.
وقَدْ نَوَّه الْمَسيحُ إلى هَذا الفَسَاد في إنجيلِ اليَوم، بِقولِه: ﴿وَلَكِنْ أَفعَالَهم (الكَتبة والفرّيسيّين) لا تَفْعَلوا، لِأنَّهُم يَقُولونَ ولا يَفعَلون، يَحزِمونَ أَحمالًا ثَقيلَة، ويُلْقُونَها عَلَى أَكتافِ النَّاس، ولكِنَّهم يَأبون تَحريكَهَا بِطَرفِ الإصبِع. وجَميعُ أَعمَالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النّاسُ إِليهم﴾ (متّى 3:23-5). فَالسُّلطَةُ قَدْ تكونُ وَسيلَةً لِصُنعِ الخَير، إذا مُورِسَت بِعَدلٍ ومُسَاوَاةٍ ومَخافَةٍ لله. وأيضًا قَدْ تَغدو وَسيلَةَ بَطشٍ وظُلْمٍ واسْتِعبَادٍ للنّاس.
الْمسيحُ كَلِمةُ اللهِ كُليُّ القُدرَة، رَبُّ الْمَجدِ وصَاحِبُ الْمُلكِ الأبديّ، جَعَلَ لَنَا مِنْ نَفسِه، بِتَعَالِيمِهِ وأَعمَالِه، قُدْوَةً ومِثَالًا في مَاهيّةِ السُّلطةِ الحَقيقيّة، أَلا وهيَ: سُلطَةٌ في الخِدمَةِ والتّواضُع. وليسَ في التّجَبُّرِ والاستِبداد. ذلِكَ أنَّ: ﴿مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكونَ كَبيرًا فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا. ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَكونَ الأوَّلَ فيكم، فَلْيَكن لأجمَعِكم عَبدًا. لِأنَّ ابنَ الإنسانِ لَم يَأتِ لِيُخدَم، بلْ لِيَخدُم ويَفدي بِنفسِهِ جَماعَةَ النّاس﴾ (مرقس 43:10-45).
وفي لَيلَةِ العَشَاءِ الأخير، بَعَدَ أَنْ أَعطانَا أَسمى مِثالٍ في القِيادَة، غَاسِلًا أَقدَامَ رُسُلِه، قَال: ﴿إذا كُنتُ أَنا الرّبَّ والْمُعَلِّم قَدْ غَسَلتُ أَقدَامَكُم، فَيجِبُ عَليكُم أَنتُم أيضًا، أَنْ يَغسِلَ بَعضُكم أَقدَامَ بَعض. فَقَدْ جَعَلتُ لَكُم مِنْ نَفسي قُدوَةً، لِتَصنَعوا أنتُم أيضًا مَا صَنعتُ إليكُم﴾ (يوحنّا 14:13-15). لِذَلِكَ أَيُّهَا الْمَسيحيّ، إنْ أَردتَ أَنْ تَرأَس، رِئَاسَةً دُنيويّةً أو رُوحيَّة، فَكُنْ عَلَى مِثالِ مُعلِّمِك، قَائِدًا في الخِدمَةِ والتَّواضُع، سَيِّدًا في العَمَلِ والقُدْوَة. ولَيسَ في التَّكبُّرِ والعَنجَهيّةِ والأقوالِ الجَوفاءِ الفارِغَة.
في عَالَمِنا العَربيّ، لِلسُّلطَةِ الدّينيّةِ دَورٌ كَبير، نَظَرًا لِلدَّورِ الجَوهَريِّ الّذي يَلعَبُهُ الدِّينُ في حَياةِ الشُّعوب. والخَوفُ دَومًا يَكمُنُ في اسْتغلالِ العُنصرِ الدّينيّ لِإذكاءِ الصَّراعاتِ بَينَ الأقوَام. وهُوَ مَا لَمَسنَاهُ بِقُوّةٍ في السَّنواتِ العِشرين الأخيرة، ومَا نَلمَسُهُ اليومَ أيضًا في الصِّراعِ القَائِم في غَزّة، ومُحاولةِ تَحويلِ الأمرِ إلى صِراعٍ دِينيٍّ مُدمِّر. وعندَهَا، تَدفَعُ الأقلِّيَاتُ الثَّمنَ الأكبَر، وتُضْحِي حَملَ الأُضحِيَة.
إنَّ الدّينَ الَّذي يُفتَرَضُ بِهِ أَنْ يَزرعَ السَّلامَ والْمَودَّةَ والرّحمَةَ بَينَ النَّاس، يُضحي سَببًا للاقتِتَال. وفي الوّقتِ الّذي نَنتَظِرُ فيهِ مِنَ القِيَادَاتِ الدِّينيّةِ أَنْ تَجِدَ طُرُقًا لِلتَّلاقي والوِفاقِ بَينَ الأُمَم، نجِدُ بَعضَهم أَوّلَ مَنْ يُحرِّضُ ويُؤَجِّجُ مَشَاعِرَ الحِقدِ والكَراهِيَة والعُنف! يَا أَحِبَّة، هَلْ هَذَا الواقِعُ الدَّمويّ، هوَ مَا يُريدُهُ اللهُ مِنَ البَشر؟ أنْ يَتَقَاتَلوا حَتّى يُفنيَ بَعضُهُم بَعضًا؟!
لَيسَ لي أنْ أُجيبَ عَنْ غَيري، ولكن بِكُلِّ تَأكيد، لَيسَ هَذَا مَا أَرادَهُ الْمَسيح. هوَ لَم يَجلِسْ عَلَى كُرسيٍّ كَكُرسِيِّ الكَتبَةِ والفِرّيسيّين، إِنّما جَلسَ عَلَى عَرشِ الصَّليب، وعَلَّمَنَا بِمثالِهِ أنْ: ﴿لَيسَ لِأحَدٍ حُبٌّ أَعظَمُ مِنْ أَنْ يَبذِلَ نَفسَهُ في سَبيلِ أَحِبَّائِه﴾ (يوحنّا 13:15). وَعَلَّمَنا أيضًا، في مَثلِ السَّامِريِّ الرَّحيم، أَنَّ الرّحمَةَ هِيَ أَسَاسُ التَّعامُلِ والقُربِ بَينَ النَّاس، حَتَّى وإنْ كَانَوا أَعدَاءً (راجع لوقا 25:10-37).
في هَذا العَالِم الْمُتَداعي، حَيثُ كَثيرٌ مِنَ القِيادَاتِ قَدْ بَاعَتْ نَفسَهَا لِلشَّيطان، والّذي فيه يرمُزُ الكُرسِيُّ إلى سُلطَةِ التَّعليم، نَقول بِأنْ لَيسَ كُلَّ مَنْ أُوكِلَت إليهِ مَهمَّةُ التّعليم، هوَ أَهلٌ للتَّعليم. فهُناكَ كَثيرٌ مِن الجالِسينَ عَلَى الكَراسي، دِينيَّةٍ وسياسيّة، يُنَظِّرونَ ويُطلِقونَ تَصريحات وبَيَانَات، تَبُثُّ البَلبَلَةَ والتَّشويشَ والفَوضَى. وفي هَذهِ الزَّوبَعَة، لا بُدَّ لَنَا كَمَسيحيِّين، أَنْ نَعودَ إلى الْمَصدر، لِنَنهَلَ فَقَط مِنْ رَأسِ النَّبع، يَسوعَ الْمَسيح، مُتَمَسِّكينَ بمَا أَوصَانَا في إنجيليِهِ الشَّريف، ورَسَائِلِ رُسلِهِ الكِرَام، وتَعاليمِ كَنيسَتِه الْمُقَدَّسَة.
وعَليه، قَدْ نَسمَعُ تَصريحاتٍ "مُشَوّهَةً" خَرَجَت عَنْ إطارِ الإنجيل، مِنْ أَشخَاصٍ لهُم وَزنُهُم عَلَى الْمُستَوى الْمَسيحيّ. وَمَعْ ذلِك، نحنُ فَقَط لِلْمسيح، دُستورُنا الإنجيل، وكَلامُنَا هو الحَقُّ الّذي لا يَبغِي سِوى السَّلامِ القَائِمِ عَلَى الحُريّةِ والعَدالَةِ والْمُساوَاة، واحترامِ كَرَامَاتِ النَّاسِ أَجْمَعين.
دَعُونَا يا أحبّة، في هَذهِ الأيّامِ الصَّعبة، الّتي تمرُّ بِها مَنْطِقتُنَا، نُطلِقُ صَرخَاتِ استغاثَةٍ إلى الجالِسِ عَلَى العَرش، إلى رَبِّ السَّلامِ والْمَحبَّة، يسوعَ الْمَسيح، أن يَلطُفَ بالجميع، وخُصوصًا الوَاقِعينَ تحتَ الضَّررِ الْمُبَاشِر. نَبتَهِلُ إلى الرّوحِ القُدس، روحِ اللهِ الحَق، أن يُرشِدَ السّاسةَ ويُلهِمَ أصحابَ السُّلطَةِ، لإرساء قَواعِدِ الحقِّ، والكَفِّ عَن البَاطِل، وتحقيقِ العَدالَةِ والْمُسَاواة، لأهلِ الأرضِ وشُعوبِ الْمَنطِقَة. نُصلّي إلى الله أَبينَا أَنْ يُذَكِّرَنا بِأنَّنَا إِخوةٌ في إنسَانِيَّةٍ واحِدَة، فَنَسعَى لِترسيخِ قِيمِ الْمَودَّة، والبَحثِ دَومًا عَنْ خَيرِ الشّعوبِ وسلامِها.