موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد التّاسع والعشرين من زمن السّنة - أ
لَقَد حَاوَلَ رُؤسَاءُ اليَهودِ وأَعيانُهم، عَلَى اختِلافِ تَوجُّهاتِهم الدِّينيّةِ والفِكريَّة، أَنْ "يَصطَادوا يَسوع"، مِرَارًا وتَكْرَارًا، وبأيِّ ثَمَن، لِلقَضَاءِ عَلَيه. مَعْ أَنَّهُ لَم يَصنَعْ لِبَني قَومِهِ سِوَى الخَير، ولم يَنْطِقْ إلّا بالحَق، وإنْ عَابَهُم فَقَدْ عَابَهُم لِعُيوبِهم وأخطَائِهم. فَهَا نحنُ نَراهُم يُحاوِلونَ سَحبَهُ إلى مُواجَهَةٍ مُباشِرةٍ مَع السُّلطَةِ الرُّومَانيّة، الّتي كَانوا أَصلًا يمقتونَهَا. ومَعْ ذَلك، اِرْتَأوا التَّحالُفَ مَعَها، لإسقَاطِ يَسوع والتَّخلُّصِ مِنه.
نَراهُم يَتَشاورونَ، بِمَكْرٍ وغَدْر، حَتّى يَصطَادوا يَسوعَ بِكلِمَة! وكَأنَّ يَسوعَ صَارَ "طَريدَةً" لِأولئِكَ الْمُتَوَحِّشين، الَّذينَ يُريدونَ الانقِضَاضَ عَليه، وتَمزيقَهُ بِشَتَّى السُّبُل. يَسوعُ الّذي أَطعَمَ جِيَاعَهُم، وشَفَى مَرضَاهُم، وأَبرَأَ بُرْصَهُم، وطَردَ شَياطينَهُم، وأَقامَ مَوتَاهُم، وعَلَّمَهم وأَرشَدَهم، وأَشفَقَ عَليهم وشَدَّدهم. ومَع ذلكِ، هَذَا كُلُّه لَم يَشفَعْ لَهُ أَمَامَ شَرِّ هَؤلاء، الّذينَ لَم يَروا فيهِ سِوَى تهديدٍ، لا بُدَّ مِنَ الإطاحَةِ بِه!
وهَذَا الأمرُ لَيسَ بجديدٍ عَلَيهم، فإرميَا نَبيُّ الله، وَقَفَ أمامَهُ تَعالَى، شَاكِيًا مُتَألِّمًا، يَقول: ﴿ أَيُجازى الخَيرُ بِالشَّرّ؟ فإِنَّهم حَفَروا حُفرَةً لِنَفْسي. أُذْكُرْ أَنِّي وَقَفتُ أَمامَكَ، لِأَتَكَلَّمَ مِن أَجلِهم بِالخَير، وأَصرِفَ عَنهم غَضَبَكَ﴾ (إر 20:18). وهَا همُ اليوم، يُعيدونَ الأمرَ نَفسَه، ويَكيدونَ لِيسوعَ مَكيدَة، ويحفرونُ لَهُ حُفرَةً عَميقَة، يُريدونَ إسقَاطَهُ فيهَا.
يا أَحِبَّة، إنَّ مُبادَلةَ الخَيرِ بالشَّر، هوَ عَمَلٌ شَيطانيٌّ بَحت! تَعمَلُ خَيرًا وتَلْقَى شَرًّا، إمَّا بِوجهِكَ مُبَاشَرَة، وإمّا اغْتِيابًا وطَعنًا مِنَ الخَلف! تَرتيلَةُ العِتَابِ الإلهيّ، الّتي نُنشِدُهَا يَومَ الجُمعةِ العَظيمَة، والْمَأخوذَة مِنْ سِفرِ ميخا النّبيّ، تُعبِّرُ عَنْ ذَلِك، وفيها يَشكو اللهُ شعبَهُ الجاحِدَ، قَائِلًا: ﴿يَا شَعبي، مَاذَا صَنَعتُ بِكَ، وبِمَ أَسأمتُكَ؟ أَجِبني﴾ (مي 3:6). أَنْ تَصنَعَ صالِحًا، ثُمَّ تُرمَى باتّهامَاتٍ كَاذِبَة وافْتراءَاتٍ مُغْرِضَة، هوَ أَيضًا عَمَلٌ شَيطانيّ، لأنَّ الشَّيطانَ "أبو الكَذِب"، والكَذَّابونَ هُمْ أَبْنَاؤُه. أَلمْ يَتَّهِمُوا يَسوعَ، زُورًا وبُهتانًا، بأنَّهُ بَعلُ زَبول، سَيّدُ الشَّياطين، يَطردُ الشّياطين؟! (راجع مرقس 22:3).
لِذَلكَ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكونَ عَلَى مِثالِ الْمَسيحِ مُعلِّمِه، عَليهِ أن يَتَوقَّعَ كُلَّ شيء، ويكونَ مُستَعِدًّا لِكُلِّ شَيء، وجَاهِزًا لِلذّمِّ قَبلَ الْمَدح، وللانتِقادِ قَبلَ الشُّكر، إذْ: ﴿مَا مِنْ تِلميذٍ أَسمَى مِنْ مُعلِّمِه﴾ (لوقا 40:6). مَنْ أرادَ أن يَصنعَ الخَير، عَليهِ أَنْ يُدرِكَ بأنَّ فِئَةً سَوفَ تُحارِبُهُ وتُسيءُ إليه، تَغتَابُهُ وتَفتري عَلَيه. لِماذا؟ لِأنَّ النَّاسَ مَعادِن، والْمَعادِنُ عَلَى أَنوَاع: فَمنهَا النَّفيسُ ومِنهَا الرَّديء، ومِنهَا الْمُشِعُّ الْمُنير ومِنهَا الصَّدِئُ الْمُظلِم، ومِنها الحَسنُ ومِنها الرَّديء.
عِندَمَا تَصنعُ الخَير، اِعلمْ أَنَّ البَعضَ سَيشعُرونَ أَمَامَكَ بالنَّقص، والشُّعورُ بالنّقصِ يُولِّدُ الكَراهيةَ والحِقدَ والغيرَة، وغيرَهَا مِن الْمَشَاعِرِ الكَريهة. وعندَهَا يُحارِبونَكَ ويَتَكلَّمونَ عَليك، ويَذمُّونَكَ بِكلامِهم الآسِن. تمامًا كَمَا حَصلَ مَع إرميا، لَمَّا قَالَ أَعداؤُه: ﴿هَلُمُّوا نَتَآمَرُ عَلَى إرْمِيا. هَلُمُّوا نَضرِبُه بِاللِّسانِ﴾ (إر 18:18).
ومع ذلك، رِسالةُ الْمُعلِّمِ لَنَا واضِحَة: ﴿أَحِبُّوا أَعداءَكُم، وأَحسِنوا إِلى مُبغِضيكُم، وبارِكوا لاعِنيكُم، وصلُّوا مِن أَجْلِ الْمُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم﴾ (لوقا 27:6-28). رِسالةُ الكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لَنَا: ﴿فَلْنَعملِ الخيرَ ولا نَمِلّ﴾ (غلاطية 9:6). ولا نَسمَح لِطبيعةِ البَعضِ الفاسِدَة، أنْ تُفسِدَ الطَّبيعَةَ الصَّالحةَ الّتي فينَا، لأنَّ الصَّلاح، هوَ اختيارٌ وقَرَار، فَاثْبُتْ عَلَى قَرارِكَ ولا تُغيّر اختِيارَكَ، مَهمَا أَصابَكَ ونَابَك. فَحُبُّ الخَيرِ دَليلٌ عَلَى حُبِّكَ لله، وحُبُّ الله لا يُبدَّل مَهمَا حَدَث.
رِسالةُ الكتابِ الْمُقدَّسِ لَنا، هي: ﴿خَيرٌ لَكُم أنْ تَتَألَّموا وأنتُم تَصنَعونَ الخَير، مِنْ أنْ تَتَألّموا وأنتُم تَعمَلونَ الشَّرّ﴾ (1بطرس 17:3). فإنْ كَانَ الْمَسيحُ يَدعونَا اليَوم أنْ: ﴿أَدُّوا لِقَيصَر مَا لِقَيصَر، وللهِ مَا لله﴾ (متّى 21:22). فإلى اللهِ نُؤدّي العِبَادَةَ والسُّجود. وللقريبِ أَيًّا كَان، نُؤدِّي الْمَحَبَّةَ والإحسَان. فَمَنْ أَرادَ أن يَرفَعَ يديِهِ، ويُنَادي الله: "أَبانا"، عَليهِ أَنْ يَصنعَ الخيرَ لإخوتِه، حَتّى وإنْ كُنتَ أنتَ يُوسف، وإنْ كانوا هُم قَدْ خَانوكَ يَومًا وبَاعوك...! ﴿فَاغْفِرْ لهم يَا أَبَتِ، لِأنّهم لا يَعلَمونَ مَا يَفعَلون﴾ (لوقا 34:2).