موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٣١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٣

جَاهدتُ جِهادًا حَسنًا، وأَتمَمتُ شَوطي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿جَاهدتُ جِهادًا حَسنًا، وأَتمَمتُ شَوطي﴾ (2طيمو 7:4)

﴿جَاهدتُ جِهادًا حَسنًا، وأَتمَمتُ شَوطي﴾ (2طيمو 7:4)

 

عيد جميع القدّيسين

 

في الفَصلِ السَّادسِ مِنْ سِفرِ أَشعيَا النَّبيّ، تُسَبِّحُ الْمَلائِكَةُ الْمَجيدَةُ العَليَّ، هَاتِفين: ﴿قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس، رَبٌّ القوّاتِ، الأرضُ كُلُّها مَملوءةٌ مِن مَجدِه﴾ (أش 3:6). وفي نَشيدِ الحَمدِ (الَّلهُمَّ نَمدَحُك)، نُنْشِدُ مُرَنّمين: "هَا هُوَذا مَلائِكَةُ السَّمَاء، وَقُوّاتُها تُمَجِّدُكْ. الكَاروبيمْ والسَّاروفيمْ يَصْرُخونَ نَحْوَكَ، صُرَاخًا مُتَّصِلًا ثُلاثِيِّ التَّقْديسِ قَائِلينْ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوس، الرَّبُّ إِلهُ الصَّباؤوتْ".

 

فَالقَدَاسَةُ يا أَحِبَّة، صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ الحُسنَى. وبِمَا أَنَّ اللهَ هوَ الكَمَالُ الْمُطلَق، فَكُلُّ الصِّفَاتِ فيهِ مُطْلَقَة، وقَدَاسَةُ اللهِ قَدَاسَةٌ تَامَّةٌ دُونَ نَقص، ومَصدَرٌ لِقَدَاسَةِ الإنْسَان، ومِثَالٌ لِقداسَةِ الإنسَان. لِأنَّ الإنسَانَ الْمَخلوق، يَستَمِدَّ قَدَاسَتَهُ مِنَ اللهِ الخَالِق، وهو مَدعُوٌّ لِأنْ يَعيشَ قَدَاسَتَهُ عَلَى مِثالِ الله، مَصدَرِهَا ومُعْطيهَا.

 

ولِذلِك، نَسمَعُ الرّبَّ يُخاطِبُنَا في سِفرِ الأحبَارِ قَائِلًا: ﴿كُونوا قِدِّيسين، لأنّي أنا الرّبَّ إلهَكُم قِدُّوس﴾ (أح 2:19). وَبُطرسُ في رِسَالتِهِ الأولى يَحثُّنَا بِقَولِه: ﴿كَمَا أنَّ الّذي دَعاكُم هوَ قُدّوس، فَكَذلِكَ كُونوا أَنْتُم قِدّيسينَ، في سِيرَتِكُم كُلِّهَا﴾ (1بط 15:1). أَمَّا بولسُ فَيَقولُ في رسالتِهِ إلى أَهلِ فِيلبّي: ﴿لِنَكونَ في نَظَرِهِ قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في الْمَحبَّة﴾ (في 4:1).

 

القَدَاسَةُ لَيسَتْ القُدرَةَ عَلَى صُنعِ الْمُعجِزَاتِ والإتْيَانِ بِالْبَيِّنَات. ولا هِيَ حَركَاتٌ مُصْطَنَعَة وكَلِمَات، تُحاوِلُ بِهَا خِداعَ النَّاسِ بِتَقوَى مُزَيَّفَة. لأنَّك، وإنْ نَجَحت في خِداعِ النَّاس وخِداعِ نَفسِك، لَنْ تَستَطيعَ خِدَاعَ الله، الَّذي يَعرِفُ زَوَاياكَ وَخَفَاياك. لِذَلِك، أَوَّلُ دَرجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ "سُلَّمِ القَدَاسَة" هِيَ الصِّدقُ مَعِ الذَّاتِ ومَعِ الله، والكَفُّ عنِ الادِّعاءاتِ. فَالإنسَانُ الصَّادِق يَعرِفُ أَنَّهُ مَجبُولٌ بالضُّعف، وفيهِ سَيّئَاتٌ ونَقَائِص. وعَلَيه، يَقدِرُ أَنْ يُسَلِّمَ نَفسَه للهِ، حَتّى يَسمَحَ للهِ أَنْ يَعمَلَ فيه العَمَلَ الصّالِح.

 

أَمَّا الْمُتَكبِّر الوَاهِمُ بِأَنَّهُ كَامِل، الوَاهِمُ بِأنَّهُ لا يُخطِأ، الّلابِسُ ثَوبَ حَمَلٍ وهوَ في الحَقيقةِ ذِئبٌ خَاطِف، الرَّافِضُ التَّوبَةَ والاعتِذار، السَّاعي لِلغَدرِ والانْتِقَامِ في الخَفَاء، فَهذَا أَكبرُ عَدوٍّ لِلقدَاسَة. لأنَّ نَفسَهُ مُغلَقَة، لا مَجالَ للهِ أَنْ يَعملَ فِيهَا. وفي هذا الشَّأنِ قَالَ الرّبُّ مُوَبِّخًا ومُنذِرًا: ﴿الوَيلُ لَكُم فَإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ الْمُكَلَّسَة، يَبدو ظَاهِرُها جَميلًا، وأَمَّا دَاخِلُهَا فَمُمتَلِئٌ كُلَّ نَجَاسَة... تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثمًا﴾ (متّى 27:23-28).

 

وَلِذلِكَ، القَدَاسَةُ تَتَطَلُّبُ مِنَ الإنسانِ التَّواضُعَ الصَّادِق! تَواضُعًا عَلَى مِثَالِ القِدّيسَةِ مَريم، يُمكِّنُكَ مِنَ العَمَلِ بِمَشيئةِ الله. تَواضُعًا يجعلُكَ تَثِقُ باللهِ ثِقَةً تَامّة، تَتَّكِلُ عَليهِ اتِّكالًا كامِلًا، تَضَعُ حَيَاتَكَ بَينَ يَدَيه، ومِنهُ تَستمِدُّ القُوَّةَ والنِّعمَةَ والعَزَاء، مُؤمِنًا بِقَولِه تَعالَى: ﴿حَسبُكَ نِعمَتي، فإنَّ القُدرَةَ تبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف﴾ (2قور 9:12).

 

القَدَاسَةُ يَا أَحِبّة هيَ سُلَّمٌ، بِهِ تَرتَقي وتَسمُو. وإلى مَاذا تَسمُو؟ هَذا مَا يُجِيبُنَا عَليهِ القِدّيسُ بولس في رِسَالتِهِ إلى أهلِ قُولسّي، قائِلًا: ﴿اِسعُوا إلى الأمورِ الّتي في العُلى، حَيثُ الْمَسيحُ قدْ جَلَسَ عَن يمينِ الله. ارغَبوا في الأمورِ الّتي في العُلى، لا في الأمورِ الّتي في الأرض﴾ (قو 1:3-2). لأنَّ السَّاعي إلى القَداسة، هو في صُعودٍ مُستَمِر، وإنْ كانَ جَسدُهُ لا يَزالُ عَلَى الأرض، إلّا أنَّ نَفسَهُ مُعَلَّقَةٌ بالخيراتِ الأبديّة مُنذُ الآن. وهوَ يَعلَمُ يَقينًا أَنَّ الحَياةَ لَيسَت مُجرَّدَ أَكلٍ وشُربٍ ومِتَاع، كَمَا يَفعلُ الفَانُون، بَل هيَ حَياةٌ أَبديّةٌ أَعَدَّها الله، وفي سَبيلِهَا، يُجاهِدُ ويُضَحّي، لأنَّهَا رِبحٌ أَسمَى لا يَزول، وكَنزٌ لا يَفسَد.

 

وإذا كانَت القَدَاسَةُ جِهَادٌ، فالجِهادُ كِفَاحٌ ومُثابَرةٌ ونِضَال. وعَليه، القِدّيسونَ هُمْ مَنْ ثَابَروا وجَاهَدوا، حتّى غَلَبوا ونَالوا إِكليلَ الْمَجدِ الأبديّ. ثَابَروا في سَبيلِ النُّموِّ في الفَضيلَة، وجَاهَدوا في سَبيلِ الغَلَبَةِ عَلَى الرَّذيلَة.

 

مُشْكِلَتُنا كَمَسيحيّين أَنَّنَا لا نُجاهِدُ كَمَا يَنبَغي. مُشكِلَتُنا كَمُشكِلَةِ الشَّابِّ الغَني، نَعرِفُ الوصايا ونَحفَظُ التَّعاليم، ولَكِنَّنَا لا نَعمَلُ بِها إلّا قَليلًا. مُشكلَتُنا أنَّنَا نَرضَخُ لِغرائِزنا، تَحكُمُنا رُدودُ فِعلِنا البَشَريّة، ونَستَسلِمُ لِرَغَبَاتِنَا الفَانية، وهَمُّنَا مَحصورٌ بِما نجمِعُ في هَذهِ الحَيَاة، فَلا نَسعَى للاغتِناءِ عِندَ الله. ولذلكَ، القَداسَةُ عُملَةٌ نادِرَة، ودِرهَمٌ مَفقُود، فَطوبى لِمَن وَجَدَها وتنعَّمَ بِها. فَهَنيئًا لِمَن استَطَاعَ أَنُ يُردِّدَ قَولَ بولس الرَّسول، عندمَا تَدنو الخاتِمةُ السّعيدَة: ﴿جَاهدتُ جِهادًا حَسنًا، وأَتمَمتُ شَوطي، وحَافظتُ عَلى الإيمان، وقَدْ أُعِدَّ لي إكليلُ البِرِّ، الّذي بِهِ يَجزيني الرّبُّ الدَّيانُ العادِلُ﴾ (2طيمو 7:4-8).