موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢ فبراير / شباط ٢٠٢٤

"بيتيّ أم بيتك؟" بين كاتبي سفر أيّوب والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أي 7: 1- 7؛ مر 1: 29- 39)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أي 7: 1- 7؛ مر 1: 29- 39)

 

مُقدّمة

 

أسبوع مبارك، سنتوقف في هذا المقال الأسبوعي في السلسلة الكتابيّة، فيما بين العهديّن، لنقاش موضوع حيوي، قد لا نعرف معناه إلّا إذا تعرضنا لتجربة قويّة وهي ألّا يكون لدينا بيت! الصعوبة تكمن في أنّ يحيا الإنسان ضيف، جائل، دون بيت له! أين الخطر في هذا؟ أنّ تعيش بلّا مأوى وبدون بيت أيّ إنك تكون بلا حميميّة وبلا موضع خاص بك. هذا الموضوع من الجهة الكتابيّة له عمق لّاهوتي خاصة في الكتب الحكميّة كما سنرى في صراع أيوب بداخل بيته (7: 1-7)، في البيت يتمكن من الصراع الحقيقي. تُقدم لنا هذه الآيات بالعهد الأوّل وصف حالة الإنسان على الأرض، وحالة المعاناة الّتي تسيطر على حياته، بكلمات دراميّة. في العهد الثاني سنتوقف أمام يسوع الّذي تركه بيته السماويّ متنازلاً ليدخل البيوت الأرضيّة وهو ما يهدف إليه مرقس اللّاهوتي (مر 1: 29–39) حيث نرى في هذا المقطع ما نطلق عليه في التفسير الكتابي "يوّم يسوع الأوّل بكفرناحوم". وهذا النص يتم داخل وخارج بيت ما. نهدف في هذا المقال إلى التعرّف على جوهريّة البيت بحسب العهديّن، وأين هو البيت المدعويّن للمكوث فيه، وأيّ بيت سيصمد حتى النهايّة بيتي أم بيتك؟

 

1. الصراع بالبيت (أي 7: 1-7)

 

في المقطع الأوّل من سفر أيوب، وهو من الأسفار الحكميّة في العهد الأوّل، يكشف عن الصراع الّذي يحياه، رجل الله، أيّوب، داخل بيته. نسمع في هذه الآيات بصيغة المونولج (صوت واحد)، من قبل كاتب سفر أيّوب وهو الشخص الّذي يعاني في وحدته ويعبر عن هذه المعاناة بمفرده قائلاً: «أَلَيسَت حَياةُ الإنْسانِ في الأَرضِ تَجَنُّدًا  وكأَيَّامِ أَجيرٍ أيَّامُه؟ [...] إِذا أضَّجَعتُ قُلتُ: مَتى أقوم؟ [...] تَذَكَّرْ أَنَّ حَياتي هَباء» (أي 7: 1-7). بينما يعيش في حميميّة جدران بيته، يأتي الكاتب بكلمات تعبر عن صرخة وهو الّذي يتألم في بيته. هذا هو جوهر هذا المقطع بداخل البيت يتمكن الإنسان من التعبير عما يتألم منه دون خجل ودون أنّ ينزوي عن أعين الناس فهو في قوقعته وملجأه الخاص. هذه الآيات الحكميّة، تكشف عن أهميّة كشف الإنسان عن قناعه الشخصي ومعايشته الواقع الحقيقي بمنزله دون أنّ يتجمل. يحصي أيام حياته  ليالي وأيام، متى يضجع ومتى يقوم، ... في كل الأحوال فهو ببيته، لذلك يمكنه التعبير عن معاناته لأنّه ببيته يتمكن من معايشة الصراع الحقيقي سواء مع المرض، الألم، الكوارث الّتي حلّت به، ... فهو في بيته. في كلمات أيوب، نجد إنسانيتنا المتألمة الّتي أُرسل إليها يسوع، كما سنرى بالعهد الثاني، والّتي لم يهرب منها لأنّها خاطئة، أو نجسة، أو مُتألمة بل يدخل في قلب آلامها ومعاناتها ليعلن الجديد وهو ذاته الجديد الّذي يغير حال البشريّة بأجمعها. يصير دخوله بالبيت الخاص هو الحاجة الـمُلحّة لإعلان الإنجيل، وهو نفسه يصير ضروري ونحن محتاجين إليها اليّوم ومدعويّن بألّا نسمح لأنفسنا بالتراجع أو بالخروج من البيت أو بالدخول إلى البيت إلّا لأسباب خاصة سيكشف عنها يسوع.

 

2. الخروج من البيت السماويّ (مر 1: 29-39)

 

كما ناقشنا في المقال السابق بأنّ مرقس لم يُنوّه إلى طفولة يسوع، فهو يقدّم يسوع الناضج في الحياة العلنيّة والّذي يكرز بالملكوت داخل المجمع (راج مر 1: 21-28). وهنا نرى خروج يسوع من مجده السماويّ، من حضن الآب بحسب اللّاهوت اليوحنّاوي (1: 18) ودخوله إلى العالم البشري بتجسده. ثم مع مرقس تأملنا بشفاء الممسُوس في المجمع، حيث إفتتح يسوع رسالته التحريريّة والّتي لم تتوقف حتى يّومنا هذا. بعد دخول يسوع مع تلاميذه الأوائل إلى المجمع وتحرير المصاب بالرّوح النجس (راج مر 1: 21- 28)، نجد في هذا المقال، ولأوّل مرة في السرد المرقسيّ، دخول يسوع بيتًا بشريًا (راج مر 1: 16-20) وفي هذا إشارة إلى أنّ ابن الله الّذي خلق الإنسان يسعى ليتواجد معه في كل الأماكن، سواء المقدّسة وحتّى النجسة منها، فهو لا يخشى واقعنا. إلّا أنّ في شموليّة الإنجيل بحسب مرقس فهناك معنى وتفسير خاص لكلمة "البيت". البيت هو أوّلاً وقبل كل شيء مكان الدراسة، حيث يتعلم الإنسان الخطوات الأوّلى للتواصل مع الله والمحيطين في مجتمعه، يتعلم فنّ المعايشة من أعضاء أسرته. نعم،  للبيت خصوصيّة ذات أهميّة والسبب هو أنّ ما يُعاش بالبيت لهو حميميّ (راج مر 7: 17؛ 9: 33؛ 9: 28؛ 10: 10). يحافظ البيت على أفراده من ضجيج الناس والزحام ومكان الراحة.

 

خروج يسوع من المجمع ليدخل بيت سمعان بطرس بسبب أنّ «حَماةُ سِمعانَ في الفِراشِ مَحمومة، فأَخَبَروه بأمرِها. فدنا مِنها فأَخَذَ بِيَدِها وأَنَهَضَها، ففارَقَتْها الحُمَّى، وأَخَذَت تَخدمُهُم» (مر 1: 30-31). يدخل يسوع إلى بيت بطرس الإنسان، ويقترب من إمرأة عجوز، طريحة الفراش ليحررها من مرضها. هذه المرأة تستعيد عافيتها وتنهض بلمسة منه. في البيت تستعيد نشاطها من جديد وتخدم أهلّ بيتها ويسوع معهم. يقلب يسوع الموازين، خارجًا من بيته السماوي وبدخوله بيت سمعان يطرد المرض ويعلن الشفاء بحضوره. وعلى هذا المنوال تستمر سلسلة الشفاءات، سواء الجسديّة أم النفسية، وأيضًا الروحيّة بسبب سلطته الإلهيّة (مر 1: 32-34)، فالبشريّة، بنسائها ورجالها صاروا بيته. ويستمرّ يسوع الجائل في داخلاً بيوتنا الأرضيّة فتصير بيتًا له، مُحررًا إيانّا. فهو يصير بذاته بيتًا ليّ ولك ومكان حميميّتنا بالآب.

 

البيت هو المكان الّذي يعلّم فيه يسوع تلاميذه، وتتضح صورته كمعلّم ماهر، تحمل أفعاله، بخروجه من البيت السماويّ، مفاتيح لتفسير كلماته وتقدمة حياته وهو يسير نحو أورشليم.

 

من جانب آخر، نجد أنّ البيت هو أيضًا مكان الشفاء والقرب من حالات الألم والموت الّتي يعيشها الرجال والنساء. بينما يمكث المفلوج ويصير ذو هوية مختفيّة عن الجمع ببيته (راج مر 2: 4)، يشعر أصدقائه بإحتياجهم إلى يسوع، فيثقبوا سطحًا لبيت حيث كان يسوع ويضعوا صديقهم المفلوج أمامه. يذهب يسوع أيضًا إلى بيوت الآخرين ليواجه معاناتهم، ويعيد لهم الحياة (راج مر 5، 38)، كما هو الحال في النص المأخوذ من العهد الثاني ولقاء يسوع مع حماة بطرس (راج مر 1، 29–31). لا يزال البيت هو المكان الّذي يتقاسم فيه يسوع الوليمة مع العشارين والخطاة (راج مر 2: 15؛ ​​14، 3)، وهو مكان تضامن يسوع الكامل مع الرجل والمرأة الّذي يتميز بالبعد عن الله، بالخطيئة، بالتهميش الإجتماعيّ والدينيّ. البيت هو المكان الّذي يعيش فيه الرجال والنساء علاقاتهم الأكثر حميمية وحقيقية، يصبح بالنسبة ليسوع مساحة للقاء البعيدين. بالنسبة ليسوع، البيت هو مكان الصداقة والاحتفال، مكان جمال العلاقات، فرح المائدة، فيه تفوح رائحة الطيب الّذي تسكبه على أقدام يسوع إمرأة خاطئة راج مر 14: 3). البيت هو الكنز الّتي يُعهّد به رّبّ البيت، الّذي سافر، إلى خدمه ليعتنوا به (راج مر 13: 34). فهذا البيت، يحمل إشارة إلى ما سلّمه يسوع لتلاميذه لكي يحرسوه بسهر (راج مر 13: 35) حتى يّوم عودته، وبحسب توصيّة يسوع عندما يضطرون للإنتقال من قرية إلى أخرى للتبشير بملكوت الله، سيكون عليهم أنّ يدخلوا البيوت (راج مر 6: 10). وفي ذلك البيت الّذي يدخلونه عليهم أنّ يقبلوا بشكر وبساطة ما سيقدم لهم، مواصلين نمط معلّمهم الّذي كان ينتقل من قرية إلى قرية، ويدخل بيوت معاصريه من نساء ورجال للشفاء، والالتقاء، وللتبشير بالملكوت، ولمشاركته أفراح وأحزان سكان ذلك البيت. دخل يسوع بيوت أولئك الّذين شفاهم من أمراضهم، ومن عمى القلب بالغفران، ومن عبوديّة الشرير، وكان يأمرهم بالعودة إلى بيوتهم، ليكون بيتهم مكانًا لإعلان أعمال الله العظيمة، فهي رؤيّة إستباقيّة للكنيسة البيتيّة (راج مر 5: 19؛ 8: 26).

 

3. مغادرة البيت (مر 1: 35- 39)

 

يسوع يخرج من كفرناحوم ويسير في الجليل: «وقامَ قَبلَ الفَجْرِ مُبَكِّراً، فخَرجَ وذهَبَ إِلى مَكانٍ قَفْر، وأَخذَ يُصَلِّي هُناك [...]  فقالَ لَهم: "لِنَذهَبْ إِلى مَكانٍ آخَر، إِلى القُرى المُجاوِرَة، لِأُبشِّرَ فيها أَيضاً، فَإِنِّي لِهذا خَرَجْت". وسارَ في الجَليلِ كُلِّه، يُبَشِّرُ في مَجامِعِهم ويَطرُدُ الشَّياطين» (1: 35- 39). في هذه الآيات لا يكتفي يسوع بالشفاءات والتعاليم البيتيّة بل يدرك إنّه مدعو لمغادرة البيت الحميم؛ خارجًا وسائراً في شوارع مدننا ليشفينا ويحررنا نحن البيعيدين (راج مر 1، 32 – 34). إلحاح الإنجيلي على ترك يسوع الراحة البيتيّة مشيراً بالخروج منه في الصباح الباكر (راج مر 1: 35؛ 16: 2)، في اليّوم الأول بعد السبت (راج مر 1: 32؛ 16: 2)، حيث لا يزال الظلام لا يزال قائمًا (راج مر 1: 35؛ 16: 2). هذا يجعلنا نتوقف على الهدف اللّاهوتي لمرقس حيث يخرج يسوع بإراته من البيت ثم من أبواب أورشليم، ويتجه إلى مكان نجس وهو الجلجثة (راج مر 15: 22)، ليُقدّم ذاته على الصليب وهذه هي العلامة الأسمى والنهائيّة للحياة الّتي تُعاش والّتي يمكن أنّ نغادرها ببذلها بإرادتنا. بالرغم من أنّ البيت، وهو مكان العلاقات العميقة، إلّأ أن يسوع يخرج إلى مكان آخر وهو مكان العزلة والصلاة. العزلة هي الّتي ستُهيئه للمشاركة بحياته وتقديمها لأجل كل من يحيا في البيوت البشريّة.

 

 يتجه يسوع من البيت إلى مكان مهجور ومنعزل (راج مر 1: 35) بالصحراء، وهي المصدر الّذي يبقيه في رسالته، حيث تؤهله الصحراء بالإنفتاح على آفاق أوسع، وتحفظ البيت لئلا يُصبح مكانا للعزلة، مساحة للأنانية الّتي تُستبعد، بدلا من أنّ يكون مكان للإستقبال يصير مكان للتواصل والحميميّة. لذا حينما  يطلب يسوع من تلاميذه، الّذين تعلّموا على يديه وداخل جدران البيت متى يهمّوا بالخروج في الوقت المناسب قائلاً: «ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة» (مر 10: 29- 20).

 

الخلّاصة

 

سرنا في هذا المقال بهدف التعّرف على جوهريّة البيت باحثين عن البيت الّذي يدعونا إليه الرّبّ لنمكث فيه. فكما رأينا في سفر أيوب الحكميّ (7: 1-7) كيف يعاني داخل جدران بيته فهناك يعيش حقيقة حياته من شكوى ومرارة ولا يحتاج لوضع قناع يخفي وراءه آلامه. أما في العهد الثاني، تتبعنا السياق المرقسيّ (1: 29-39)، حيث تتبعنا أقدام يسوع الجائل والّذي يدخل البيوت ليشفي ويحرر من الخطايا والأمراض ويطرد الشياطين. نجن مدعوون لأن ندعو يسوع ليدخل بيوتنا، وإذا أرادنا صمود بيوتنا فما علينا إلّا أنّ يقبل بدخول يسوع إلى بيتي، فيصير بيته، ونجد فيه بيتًا دائمًا. دُمتم في بيوتكم متمتعيّن بحميميّة الرّبّ.