موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

"النشّوةُ الإلهيّة" بين كاتبّي سفر التكوين والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 3: 9- 15؛ مر 3: 20- 35)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 3: 9- 15؛ مر 3: 20- 35)

 

الأحد العاشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

في قرائتنا الكتابيّة فيما بين العهدين بهذا المقال سنقرأ من العهد الأوّل مقطع بسفر التكوين (3 : 9-15) حيث نبحث عن إجابة للتساؤل الإلهي والقائل: «أين أنت؟». ترتكز روايّة الزلة الأوّلى بالكامل على هويّة المؤمن أمام الله، يتم إختيار هذا النص للتعمق في كلمة الله الموجهة للحيّة مِن قِبل الله والّتي تشير إلى الصراع الدائم بين الإنسان والشرّ. بينما في النص الآخر بالعهد الثاني سيدهشنا اللّاهوت المرقسيّ الّذي يكشف عن هويّة يسوع المرتبطة بهويّة التلميذ (مر 3: 20-35). إلّا إننا أعطينا عنوانًا يربط كلّا النصييّن بهدف إلهي قدير وهو النشّوة الإلهيّة الّتي سنكشتفها تزداد تدريجيًا من العهد الأوّل للثاني. مدعوين للتفكير والإختيار بين نشّوتنا المستقلة عن الله والآخرى الّتي نصير فيها موضع لنشّوة الله!

 

 

1. الحيّة: بدء الإنقسام (تك 3: 1-8)

 

من النصوص الّتي نعرفها، كمؤمنين، عن ظهر قلب هذا النص الشهير بسفر التكوين حيث يروي، زلة الإنسان الأوّلى، من خلال حوار الله مع أوّل إنسان بعد الزلة الأوّلى. ونُصادف أنّ هذا النصّ مقصوصًا مِن قِبل الليتورجييّن (الّذين يختاروا النصوص الطقسيّة) فلا يمكن أنّ يبدأ هذا الحوار الإلهي بدون سبب، بل كان هناك خلفيّة ودافع ليُبادر الرّبّ بتوجيه تساؤله للإنسان الأوّل "أين أنت؟". يشير النص السابق إلى ردود أفعال قام بها الإنسان الأوّل، بناء عليها تبدأ مسيرة الله في البحث من جديد عن الإنسان الّذي خلقه بدافع حبّه للبشريّة.

 

في واقع الأمر، تتلخص الآيات السابقة مباشرة لهذا النص 1- 8 بالإصحاح الثالث بسفر التكوين، عن بدء إنفصال الإنسان عن الله، بوصف دور عدو الخير ودخوله للعالم، من خلال الحيّة، الّتي يصفها كاتب سفر التكوين بأنّها كانت: «أَحيَلَ جَميعِ حَيَواناتِ الحُقولِ الَّتي صنَعَها الرَّبُّ الإِله» (تك 3: 1). إتخذ عدو الله-الشيطان، الحيّة، وهي إحدى مخلوقات الرّبّ، مكانًا له ليدخل العالم البشري، فصارت تتميز بصفاته وهي المكّر والخداع الّذي يتأسس على الكذب الّذي يفصل بين الخالق والمخلوق.

 

بعد أنّ دار الحوار الشهير بين المرأة والحيّة، نتعجب كبشر أنّ الحيّة كحيوان يتكلم ولا نندهش بأنّ الكتب المقدسة غنيّة بكلمات إلهيّة، فالله لازال يتكلم! هذا الحوار جعل المرأة تنظر إلى الشجرة الّتي بوسط الجنّة، والـمُحرم الآكل منها مِن قِبل الرّبّ، بشكل شهواني. ومن خلال هذه النظرة دخل الموت إلى العالم. حيث كلمات الحيّة حملت الزيف والخداع للعالم  عن حقيقة الله. يختتم الحوار بين المرأة والحيّة بالآكل من الشجرة ومشاركة رجلها وبالتالي وقوعهما معًا في الزلة الأوّلى. هنا يبدأ الإنفصال بين الله والإنسان، يتمثل لاهوتيًا في عصّيان الأمر الإلهي الواضح في سرد الكاتب حين: «أَمَرَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ قائلاً: "مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل، وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا"» (تك 2: 16-17). منذ البدء كان الله واضحًا في وضح حدود للعلاقة بينه وبين المخلوق البشري، والحدّ القاطع هو تحريم الآكل من الشجرة وبعصيّان الإنسان بدأ دخول الموت إلى العالم البشري، الّذي يرتكز على الإنفصال والعصيّان أي عدم طاعة الصوت الإلهي. يدل فعل الإنسان بطاعته لصوت الحيّة إلى رفض الله. من هنا دخل الشرّ للبشريّة: الخطيئة والموت من خلال العصيان، ودخل القلب البشريّ الإنحراف والإنفصال عن الله الخالق بسبب طاعته لصوت يُنافس الصوت الإلهيّ.

 

 

2. "الله يتكلم" (تك 3: 9- 13)

 

يخبرنا كاتب سفر التكوين بأنّ الله لا يمكث غير مهتم بالإنسان بالرغم من معرفته بكل شئ فهو خالق العالم والإنسان ويحيط بعلِمِه كلّ الأفعال البشريّة. في هذا النص بحسب منهجيّة كاتب سفر التكوين الّذي يشير إلى ردّ فعل الله من فعل الإنسان قائلاً: «فسَمِعا وَقْعَ خُطى الرَّبِّ الإِلهِ وهو يَتَمَشَّى في الجَنَّةِ عِندَ نَسيم النّهار، فاِختَبأَ الإِنسانُ وامرَأَتُه مِن وَجهِ الرَّبِّ الإِلهِ فيما بَينَ أَشْجَارِ الجَنَّة. فنادى الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ وقالَ له: "أَينَ أَنْتَ؟"» (تك 3: 8- 9). بينما يسمع الإنسان وقع خطى الرّبّ يختبأ هو وإمرأته منه. فيأتي الصوت الإلهي في حوار خاص لأوّل مرة مع أوّل زوجيّن من خلال توجيه سؤاله: "أين أنت؟" أين أنت من مخطط حبي لك، أين أنت من حلميّ الّذي وضعته فيك لكلّ البشريّة؟ أين أنت من علاقتك بيّ؟ نندهش كمؤمنين وكثيراً ما يسألونني في القِدم كانت الحيّة تتكلم؟ وللأسف لا نندهش حينما نقرأ: "قال الله". وهنا الخطر الكبير، فالله هو الآخر العظيم الّذي يتنازل ويتعلّق بنا حبّاً فينا.

 

ومع هذا يأتي ردّ الإنسان، حينما يتحاور الشخص الإلهي معه، بالإعتراف بحقيقة فعله الحرّ الثلاثيّة قائلاً: «إِنِّي سَمِعتُ وَقْعَ خُطاكَ في الجَنَّة فخِفْتُ لأَنِّي عُرْيانٌ فاِختبأتُ» (تك 3: 10). سماع الإنسان للخطى الإلهيّة، ولّد لديّه الخوف من خالقه وجعله يختبأ! هناك فارق بين أفعال الله وأفعال الإنسان. وبقرأتنا للحوار بين الله والإنسان، نكتشف أنّ الإنسان هو الّذي يلقي يخطأه على المرأة، كعادتنا اليّوم للهروب من تحملّ المسئولية وللمرة الوحيدة نسمع صوتها تقول: «الحَيَّةُ أَغوَتْني فأَكَلتُ» (تك 3: 13). لذا يأتي القرار الإلهيّ موجهًأ كلامه للحيّة قائلاً: «لأَنَّكِ صَنَعتِ هذا فأَنتِ مَلْعونةٌ مِن بَينِ جَميعِ البَهائِم وجَميعِ وحُوشِ الحَقْل. على بَطنِكِ تَسلُكين وتُرابًا تَأكُلين طَوالَ أيامِ حَياتِكِ. وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه» (تك 3: 12-13). هذا القرار الإلهيّ والّذي يحمل مغزى لّاهوتيّ لم يُفهم بالعهد الأوّل بعد سيصير مفتاحًا جوهريًا لكلّ العهد الثاني.

 

 

3. نسل المرأة: نشّوة الله (مر 3: 20-35)

 

مًن هو هذا الّذي سيأتي ليسحق رأس الحيّة؟ يأتي مرقس بحسب لّاهوته ليُجاوب على هذا التساؤل وأيضًا على مَن هو يسوع حقًا؟ هذا السؤال محور الإنجيل الثاني بأكمله. إلّا أنّ هذا السؤال يرتبط بسؤال آخر وهو مَن نحن؟ ما هي هويتنا كمخلوقات لله وكتلاميذ ليسوع؟ في بدء هذا النص يدخل أفراد أسرة يسوع بالمشهد، وسنلتقي بهم مرة أخرى بنهاية المقطع: «جاءَ [يسوع] إِلى البَيت، فعادَ الجَمعُ إِلى الاِزدِحام، حتَّى لم يَستَطيعوا أَن يَتنَاوَلوا طَعامًا. وبَلَغَ الخَبَرُ ذَويه فَخَرَجوا لِيُمسِكوه، لِأَنَّهم كانوا يَقولون: "إِنَّه ضائِعُ الرُّشْد"» (مر 3: 20-21). هذا هو وصف الإنسان على ابن الله الّذي تحاور قبلاً مع أوّل زوجين. حينما يتحاور ابن الله معنا نحن البشر نَصّفه بالمجنون. لقد جاؤوا ليأخذوا يسوع، لقول الجمع إنّه "ضائِعُ الرُّشْد" من الواضح أنّ كلام ابن الله الآن لا يثير ولا يدهش إعجاب معاصيريه البتّة. وربما اعتبروه أيضًا عاراً بل خطراً على كلّ الأسرة. هذا هو الرأي الأوّل عن يسوع الّذي يظهره مقطع الإنجيل المرقسيّ: سيكون ضائِعُ الرُّشْد. إنّ جنون يسوع هذا يخفي شيئًا حقيقيًا، يقولون إنّه فَقَدَ عقله. بالفعل، يسوع هو حقًا "ضائِعُ الرُّشْد" حينما ينفتح علينا كاشفًا لنا عن وجه الله الآب الحقيقي الّذي نجهله. يريد أقاربه أخذه وإعادته إلى المنزل، أما ابن الله الضائِعُ الرُّشْد في نظر البشر، في جوهره هو نشوة الله للبشرية. نحن البشر يصفنا كاتب الإنجيل الرابع، بلفظ أهل بيت يسوع: «جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله» (يو 1: 11-12).

 

 

4. المعرفة العقلّانيّة والتجديف (مر 3: 22- 35)

 

الموضوع السائد بحسب النص المرقسي هو البحث عن يسوع، كما سنرى بنهاية هذا المقطع الحديث عن بحث أمّ يسوع وإخوته عنه.والهدف من هذا البحث لإعادته إلى المنزل. لكن يسوع لا يتوجب عليه الآن العودة للبيت، بل يجب أن يذهب من قرية إلى قرية ليعلن ملكوت الله. ثمّ يكشف مرقس نزاع آخر حول هوية يسوع، من خلال جدال الكتبة حول أصل قدرة يسوع على إخراج الشياطين. فالكتبة الّذين جاءوا من أورشليم، خبراء في الكتب المقدسة العبريّة، يعتقدون بقولهم: «إِنَّ فيه بَعلَ زَبول، وإِنَّه بِسَيِّدِ الشَّياطينِ يَطرُدُ الشَّياطين» (مر 3: 22). فكر الكتبة المعاصرين ليسوع بإنّه ينتمي إلى عالم مُعادٍ لله. ومن المثير للسخرية أنّ يضع مرقس هذا الرأي التجديفي، الّذي يدور حول يسوع، على أفواه علماء الكتب المقدسة، مما يكشف لنا أنّ معرفتهم العقلانيّة والسطحيّة للكتب المقدسة لا تكفي بمفردها الإيمان بيسوع.

 

ثمّ في مرحلة تاليّة كشف يسوع في خطابه بالأمثال للكتبة عن عدم إتسّاق مُعتقداتهم عنه. حجته بسيطة للغاية وتبدأ من أعماله الخاصة. إذا كان يسوع يطرد الشّر فلا يمكن أنّ يأتي سلطانه من الشرّ. حقًا المملكة الـمُنقسمة على ذاتها لا يمكن أنّ تدوم. هذا هو معنى قوله: «الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ كُلَّ شَيءٍ يُغفَرُ لِبَني البَشَرِ مِن خَطيئةٍ وتَجْديفٍ مَهما بَلَغَ تَجْديفُهم. وأَمَّا مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القُدُس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنِبٌ بِخَطيئةٍ لِلأَبَد» (مر 3: 28-29). إتهام الكتبة ليسوع، هو تجديف على الرّوح القدس الساكنة في يسوع حين إدعووا بأنه مسكن للشّر والشرير.

 

في المشهد الأخير من النص، يعود أقارب يسوع إلى المشهد ببحثهم المهتم عن يسوع ليعود إلى مكانته. هنا يكشف لنا مرقس عن هويّة يسوع الثانية وهي هويّة تلاميذه. يعتمد وجه التلمذة على السبب الّذي يجعلنا نطلب يسوع. بحسب مرقس، بقاء التلاميذ بالبيّت مع يسوع يشير للتبعيّة والتلمذة الحقّة. بينما البقاء خارج البيّت يكشف عدم الإنتماء إلى تلك الدائرة الضيقة من تلاميذ يسوع. إنها فرصة لنكتشف حقيقتنا كتلاميذ: «مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله هو أخي وأُخْتي وأُمِّي» (مر 3: 34- 35). ما يفوق روابط الدّم في جماعة يسوع، روابط واضحة وطبيعيّة وهي الرابط الوحيد الّذي يجمعنا كأسرة يسوع هو إرادة الله أبينا.

 

 

5. نشوة الله (تك 3: 9- 15؛ مر 3: 20-35)

 

توقفنا أمام كلّا النصييّن بالعهد الأوّل حيث أن نشوة الله كُشفت للإنسان منذ القِدم في حبه ومسيرة بحثه عنه بينما هو ينحرف عاصيًا للرّبّ، من خلال الزلة الأوّلى. إلا أنّ هذا البحث لازال يستمر حتى يّومنا، ويدهشنا إذ لازالت النشوة الإلهيّة تبحث عن مكان في قلب كلّ إنسان وهو مَن يرغب في أنّ يتبع إرادة الله ويطيعه. وبناء على هذا رأينا كيف جاء يسوع الّذي يكشف عن هذه النشّوة الإلهيّة، تاركًا ذاته موضعًا لنشوة الآب وداعيًا إيانا لنشاركه هذه الحياة الإلهيّة فنصير معه داخل البيت لنتمتع بالنشّوة الدائمة لله. لازال الله يبحث عني وعنك قائلاً: أين أنت؟ بل يأتي يسوع ليحررنا من كل ما يعيق حياتنا من تجديفات وعوائق ضد مسيحيتنا لئلا نصير فقط مسيحييّن بالإسم بل بالإيمان وبالفعل معًا.

 

 

الخلّاصة

 

بدأنا بالتوقف من الناحيّة اللّاهوتيّة بحسب العهد الأوّل (تك 3: 9-15)، بالتساؤل الّذي طرحه الخالق على الإنسان الأوّل "أين أنت؟". هذا السؤال الّذي يتردد بالمقطع الإنجيلي الـمُوجه إلى يسوع وتلاميذه بحسب مرقس (3: 20-35). ورأينا من خلال تدرجنا بين كاتبي سفر التكوين والإنجيل المرقسي أنّ يسوع وهو موضع النشّوة الإلهيّة يعطينا الإجابة وهي "إرادة الله". تتجسد إرادة الله، حينما نتحرر من مخاوفنا ونقرر الخروج من قوقعتنا الّتي نختبأ فيها في كل مرة نسمع الخطى الإلهيّة لنختار بارادتنا أنّ ننضم إلى يسوع لنعيش بحسب مشيئة الله ونكون موضع النشّوة الإلهيّة إينما وجدنا ومع كلّ آخر. دُمتم متحررين ومتمتعين بنشوة الله.