موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٤

الميلاد ... علامة الرجاء

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
وُلِدَ المسيح ... هاليلويا

وُلِدَ المسيح ... هاليلويا

 

في البدء

 

يحتفلُ العالمُ هذه الأيام بميلادِ طفلٍ مضطجعٍ في مذود، إنَّه المخلّص، كما دعاه الملاك ساعةَ بشَّرَ الرعاةَ، فجاءوا مسرعين ووجدوا كما قال لهم الملاك، طفلاً مضجَعاً في المذود.

 

فإذًا ميلادُ المسيح هو إشراقُ نور الربِّ علينا وعلى المسكونة، إذ لما ظهرت الملائكة على الرعاةِ الساهرين قالت:"لا تخافوا، فإنه قد وُلِدَ لكم اليوم مخلّص" (لو11:2) وهذا الخوف هو البشرى الأمينة لولادة المخلّص. فأخذوا يقولون "لنذهبَ إلى بيتَ لحمَ وننظرَ هذا الطِفْلَ" (لو15:2). ما أجمل البشرى حينما تحلُّ من السماء وعِبْرَ البسطاء الرعاة، ليسمع الشعبُ أنَّ مجدَ الربِّ قد أشرق وأضاءَ حولَهم (لو9:2) وأكملَ وعدَهُ معنا، وحقَّقَه للبشريةِ جمعاء وذلك على الجلجلة.

 

 

نحو المغارة

 

المشكلة أنَّهُ يساورنا أحياناً الخوفُ ممّا يحدث هنا وهناك في بلدِنا وفي العالم، ولنسأل الرعاةَ كيف جُعلوا أنْ لا يخافوا. أظنُّ أنّه صوتُ السماء الذي سار معهم في الدربِ نحو المغارة وهو يقول لهم "أنظروا هذا الأمر الواقع"، فَحَمَلوا بساطَتَهم بشجاعة، وساروا ورأوا ولم يبالوا بشيء. فالبشرى لطَّفَتْ خوفَهم وحوَّلَتْهُ إلى علامةِ الرجاء والفرح رويداً رويداً، وإنْ كان ذلك صعبٌ كبشر ولكن كمؤمنين فالله يولَدُ في قلوبِنا قبل أنْ يولدَ في المغارة. فلنقصدَ بيتَ لحمَ مثل الرعاة لننظرَ هذا الأمرَ (لو15:2) حيث الله كان ويكون وسيبقى صادقاً مع الإنسان، ومِن أجلِ خلاصِنا وُجِدَ بيننا، وحَمَلَ أوجاعَنا وأحداثَنا ليعلّمنا أنَّ الرجاءَ آتٍ مهما كان الزمان والمكان.

 

ولمّا رأَوا الرعاةُ طفلَ المغارة، وتأكّدوا من العلامةِ التي أُعطيتْ لهم مِنَ الملاك، عادوا يسبّحون الله ويهلّلون، وبذلك أصبحوا شركاءَ الملائكة في تسبيحِ الله. ومريم كانت تحفظُ هذه الكلمات وتتأمّلُها في قلبِها، وهذا ما عَمِلَتْهُ مريم، فقد عاشت في العمق هذه الأحداث وكانت تحفظُ هذا الكلام وتتأمّل به (لو19:2).

 

نعم، إنَّ أحداثَ العالَمِ اليوم لا تنتهي ولا مجالَ للكلامِ عنها، مِن حربِ روسيا وأوكرانيا إلى إبادةِ شعبِ غزّة إلى كارثةِ وفاجعةِ الحمدانية التي أودتْ بأشخاصٍ وضحايا أبرياء لم يعرفوا غير الحياة، فكلُّ ذلك يشكّلُ إطاراً لتجلّي الربّ بيننا. ولكن المهم أنْ نَعْلَمَ كيف نتخطّى الإطارَ الخارجي لنصلَ إلى الحدثِ الأهمّ، حدثٌ يهمُّنا جميعاً، وهو أنْ كيف نرى تجلّي الله في حياةِ عالَمِنا، وعالَمُنا أحداثُهُ مأسوية، وهذا ما يدعونا إلى أنْ نقتنصَ الرجاءَ والفرحَ ونزرعهما من حولِنا وخاصةً بعدما دخل ابنُ الله تاريخ البشر وأقام علاقةً معنا، وأنْ نكونَ دائماً أوفياء لهذه العلاقة.

 

علاقة حقيقية

 

هذا ما يقودنا إلى أنَّ الله أرادَ أنْ يقيمَ أو يدخلَ في علاقةٍ حقيقيةٍ مع الإنسان، فالتقى مع الإنسان في شخصِ طفل المغارة، المسيح، ابنُ مريم وابنُ الله، إنه المجد الذي تجلّى ولا زال يتجلّى في العالم في أُناسٍ مؤمنين به. إذ بولادتِهِ تحقق انتظارُ الأُمم، وأصبح في علاقةٍ حميمية مع الآخر دون الكشف الكامل والصادق عن الذات. وهذا التجلّي علَّمنا على حقيقتِهِ، فعرفناه أَبَاً مُحبّاً ورحوماً، وكلمةً أُرسلت إلى مريم. وبميلادِهِ أصبحنا أبناءَ الله حيث قال إشعياء النبي "الشعبُ السالكُ في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. والمقيمون في بقعةِ الظلام أشرق عليهم نورٌ" (إشعياء2:9). ولكن في معظم الأحيان لا تعني لنا شيئاً هذه العلاقة، وهنا يكمن السؤال الخطر: هل نعمل ما يُرضي الله أم ما يُرضي العالم وأنفسَنا؟ إنه سؤالٌ مُحَيَّر، ولكن لنعلم أن المسيح يعملُ فينا ومعنا حتى انتهاء الزمان، وهل من ضمانةٍ أكبر من هذه؟.

 

إنه المسيح، وُلِدَ بيننا ليحمِلَ عاهاتِنا، وفي ذلك كشف اللهُ عن ذاتِهِ، وأعطى الحياةَ للناس الذين فقدوها بسببِ بُعدِهِم عنه بالخطيئة، ولكي يُعيدُهم إلى بنوَّةِ الله بواسطةِ الإيمان باسمِهِ. ففي ولادتِهِ يولَدُ الإنسان أو بالأحرى يُخلَقُ الإنسانُ مِن جديد، إنسانُ النعمةِ والحق. فإذاً ميلادُ المسيح هو أنَّ حضنَ الآب أصبح أيضاً لنا وللعالَم. فالعالم لم يعدْ غريباً أو منفصلاً عن الله بل أصبح قريباً منه جداً، وزالتِ العداوةُ القديمة لأنَّ الله صالَحَنا بجسدِهِ البشري. إنه خيارٌ جديدٌ لجميعِ الناس وعلى مدى التاريخ. وشابَهْنا في ذلك الرعاةَ المنسيين الذين رأوا الطفلَ، فطوبى لهم. فهم ليسوا بحاجةٍ إلى خيارٍ آخر سوى إعلان هذا الخبر المفرح، إنه وُلِدَ لكم اليوم مخلّص. لذا اعتَبَرُوا أنفسَهم أهلَ بيت الطفل بصمتِهِم وقرابتِهِم عبر بشارة الملاك.

 

 

أبواب قلوبنا

 

فابنُ الله صار إنساناً مثلَنا (لو14:1) عاشَ خبرةَ الإنسان في جميعِ أبعادِها ما عدا الخطيئة. أتى ليكونَ رفيقاً لكلِّ إنسان، وحاضراً معه في تفاصيلِ حياتِهِ اليومية، فيُضفي عليها النورَ والحياة بعدما ينتظرُ قبولَنا له، وهو يحترم حريَّتَنا، ويدعونا لأنْ ننالَ فيه حريةَ أبناء الله. لذا علينا أنْ نُشرِّعَ له أبوابَ قلوبِنا ليدخل ويكون معنا، ولا يجوز أو نفضِّلَ العيشَ بدونِهِ أمثال هيرودس أو بيلاطس أو حنّان وقيافا أو آخرين، إذْ لمراتٍ عدّة نتنكّرُ الحدثَ مِن أجلِ غايةٍ زمنية والنبي يقول:"عَرَفَ الثورُ مالِكَه، والحمارُ مَعْلَفَ صاحبِهِ، وشعبي لم يفهم" (إشعياء3:1) وهذا يتكرَّرُ على مدى الزمن.

 

إنها رسالةُ السماء لنا جميعاً، كَمَّل عملَها الرعاة وحملوها على أفواهِهِم وأكتافِهِم. وأنتَ أيها المؤمن، لا تخف ولا تخشى أنْ تسلِّمَ ذاتَكَ لطفلِ المغارة، فوحدُهُ يعرف توقَكَ، ويستطيع أنْ يحقِّقَه لكي يغيّرَ وجهَ الكون، وتُصبحُ الإنسانيةُ من جديد موضوعَ محبةِ الله وعنايتِهِ. وعِبْرَ هذا الطفل سيختبرُ الناسُ والبشرُ كم أنَّ اللهَ قريبٌ منهم لا بل ساكنٌ فيهم كما يقول إشعياء "إنَّ اللهَ سكن بيننا، وأقامَ فينا كما أقام قَرْنَ خلاصٍ" (لو69:1). فهو يعرف كلَّ واحدٍ منا أكثر ممّا يعرفُ الإنسانُ نفسَه. فهو الكائن "إنه الطفلُ الذي أُعطيَ لنا" كما قال إشعياء النبي "وصارتِ الرئاسةُ على كَتِفِهِ، وافتَقَدَنا المشرقُ مِنَ العَلاء" (لو78:1) فهو يقول لنا أنْ لا ينقصنا الإيمانُ ولا القناعةُ بأنَّ طفلَ المغارة هو الله الذي أحبّنا. لذلك ما نظنُّه أحياناً قصاصاً أو عِقاباً من الله بسبب ما يُحدثه من ألمٍ وتغييرٍ في حياتِنا، ألا يخفي تدخلاً إلهياً لخيرِنا ولتوبتِنا الحقيقية؟ فنصمت ونصلّي وبذلك نُدرك إرادةَ الله، كما صمتتْ وصلّتْ القديسة مريم وكذلك يوسف البتول الصامت الكبير (كما أسمّيه) ... أليست تلك رسالةُ السماء؟

 

هدية الملائكة

 

والدعوةُ اليوم بل هذه الأيام، أنْ نتأمّلَ كيف أنَّ الله تنازل ليخلِّصنا، واختار أنْ يكونَ معنا في المذود، ما هذا الحبّ، وما هذا الحنان؟ فالمسيحُ هو هديَّتُنا في ميلادِهِ. إنه الهدية التي زَفَّتها الملائكةُ للرعاة، بعدما طال انتظارُ البشريةِ لهذه البشرى والتي تحققتْ أخيراً. فالموعود صار واقعاً، والحلمُ حقيقةً، وابنُ الله صار جسداً. ويقول بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية "ولمّا بَلَغَ مِلءُ الزمان، أرسلَ اللهُ ابنَهُ مولوداً من إمرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتديَ الذين تحت الناموس، لننالَ التبنّي... فلسنا بعدُ عبيداً بل نحن أبناءً" (غلا4:4) فذلك الفادي دُعِيَ عجيباً، مشيراً، إلهاً جبّاراً. لذا نحن المسيحيين علينا أن نبقى ساهرين على مصيرِ هذا العالم الذي ينقصُهُ علاماتِ السلام والرجاء والفرح، علينا أنْ نتقبَّلَ علاماتِ الرجاء على مثالِ الرعاة. وهذا ما يُطلَبُ منّا أنْ نستمرَّ في السهرِ معاً، والصلاةِ والتأمّلِ دائماً، كي نتحلّى ببساطةِ هذه الأمور من أجلِ أنْ نكونَ في الميلاد، لأنه أُعطي لنا ابنٌ، إلهاً جبّاراً، رئيسَ السلام.

 

الختام

 

ختاماً لنهتف إذاً مع الملائكة في ولادةِ طفل المغارة ترتيلةَ "المجدُ للهِ في العلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرّة" وفي ذلك يكون لنا الميلاد علامة الرجاء واسمحوا لي أن أقول لكم: كلُّ ميلادٍ وأنتم بخير... نعم، ولد المسيح ... هاليلويا.