موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ فبراير / شباط ٢٠٢٤

"القوس الإلهيّ" بين كاتبي سفر التكوين والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 9: 8- 15؛ مر 1: 12-15)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 9: 8- 15؛ مر 1: 12-15)

 

مُقدّمة

 

بدأنا بأوّل أمسّ، الإستعداد الليتورجي للتمتع بفرح القيامة، من خلال طقس أربعاء الرمّاد. هذا الزمن يتطلب التغيير والتوبة حتّى يتناغم عالمنا الباطني مع عالمنا الخارجي، فنصير أشخاص تتمكن من نوال نعمة القيامة هنا، على الأرض، والآن أيّ في حياتنا الأرضيّة دون الإنتظار للإنتقال للأبدية بعبور الموت. سنسير معًا مسيرة كتابية من خلال الأحاد السّت الّتي تُهيئنا لقراءة النصوص الكتابيّة بشكل جديد، حيث نسعى لتسليمكم سلاح إلهي في كل أسبوع لنحارب معًا كل ما يعوق التناغم المسيحي لنحارب بأسلحة الله تجارب العدو. تدعونا نصوص هذا المقال للدخول بعمق في هذا الزمن الأربعينيّ، فنخطو في حياتنا العمليّة خطوات تجعل باطننا يتناغم مع خارجنا، فنصير مسيحيين قولاً وفعلاً. تتميّز نصوص هذا الأحد الأوّل من الزمن الأربعينيّ، من الناحيّة الأوّلى بنصّ من العهد الأوّل بحسب السرد الروائي لكاتب سفر التكويّن الّذي يتناول موضوع العهدّ. يبادر الله بالتعاهد لأول مرة بشكل فردي مع شخصية كتابيّة شهيرة وهي شخصية نوح (تك 9: 8-15) بعد الطوفان. ومن الناحية الأخرى سنتناول اللقاء الإنجيليّ الّذي يروي رغبة يسوع، في اليّوم الأوّل لخروجه للحياة العلنيّة وقبل بدأه للتبشير بالملكوت، في تكريس أربعين يومًا للصلاة وللإنعزال والوحدة بالله الآب بالبرِّيَّة (مر 1: 12 – 15). نهدف من خلال هذا المقال إلى التسلّح بما هو إلهي بناء على العهد وشخص يسوع فيساعدنا على التناغم بين ما نعيشه من تحديات وتجارب نقوم بمواجهتها، ليس بمفردنا بل بقوة الرّوح وفي حضور يسوع، سلاح الآب.

 

 

1. سلاح الله: العهد (تك 9: 8- 15)

 

نتناول السلاح الإلهي الأوّل من خلال الرواية الّتي تتسب في الكثير من الإرتباك عند قرائتها وكثيرين يتسالون ما هو المغزى اللّاهوتيّ من روايّة نوح والطوفان بالآدب الكتابي؟ تنتمي الروايّة الكتابيّة لشخصية نوح بحسب كاتب سفر التكوين (6- 9) لأدب الأساطير، الّتي كانت تتميز بها حقبة ما قبل التاريخ باليونان ومصر وروما والكثير من البلدان الّتي تميزت بالقدّم في تاريخها وحضارتها. نعلم أنّ الكثير من القُراء المؤمنين يجدون صعوبة في إستيعاب الروايات الكتابيّة، الّتي تتحلى بالمبالغة في الوصف. وها نحن اليّوم أمام نص من هذه النصوص، الطوفان. مدعوين كمؤمنيّن أنّ لا نتوقف على بدء وتفاصيل ونهايّة الروايّة، بقدر ما نتوقف أمام سرّ الله الّذي يكشف عن ذاته من خلال وصف الكاتب الّتي تنتمي لكل الكُتّاب في عصره. وهذه الآيات هي جوهر هذه الروايّة لأنها تجعلنا نكتشف المخطط الإلهي ونقرأ كلمات الله الّتي وجهها إلى نوح وبينّه قائلاً: «"هاءَنذا مُقيمٌ عَهْدي معَكُم ومعَ نَسْلِكم مِن بَعدِكم [...] وأُقيمُ عَهْدي معَكم، فكُلُّ ذي جَسَدٍ لا يَنقَرِضُ بَعدَ اليَومِ بِمِياهِ الطُّوفان [...] هذه عَلامةُ العَهْدِ الَّذي أنا جاعِلُه بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ ذي نَفْسٍ حَيَّةٍ معَكم مَدى الأَجْيالِ لِلأَبَدَ: تِلْكَ قَوْسي جَعَلْتُها في الغَمام فتَكونُ عَلامةَ عَهْدي بَيْني وبَيْنَ الأَرض. وَيكونُ أَنَّه إِذا غَيَّمتُ على الأَرضِ وَظَهَرَتِ القَوسُ في الغَمام، ذَكَرتُ عَهْدِيَ الَّذي بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ في كُلِّ جَسَد، فلا تَكونُ المِياهُ بَعدَ اليَومِ طُوفانًا لِتُهلِكَ كُلَّ ذي جَسَد» (تك 9: 9-15).

 

من خلال هذا المونولج الّذي نقرأ فيه مشروع الله لكل البشريّة، يكشف عن ذاته الإله الّذي يُسلم ذاته رافعًا أيديه وبرغبته يسلمنا سلاحه الوحيد، وهو القوس. في زمن نوح كان القوس سلاح لإصطياد الحيوانات، يستخدم الكاتب ذات الأسلحة الّتي كانت بعصره ليشير لمخطط الله مع البشر بعد إستمرارهم في اللأمانة له ولعهده. ولذا يأتي القرار الإلهي بناء على هشاشة الإنسان، فهو ليس له من المقدرة أنّ يحارب الإله، فينتصر الله حينما يضع بسلاحه أمام البشريّة مُسلمًا ذاته وتاركًا عهده، في شكل قوس قزح، الّذي يرغب من خلاله أنّ يتذكر كل إنسان أنّ الله لا يرغب في الحرب مع الإنسان بل يقرر أنّ تسود علاقة حميمة معه وبناء على هذا علامة العهد تأتينا مباشرة بعد أمطار غزيزة، فنجد أنّ قوس قزح هو علامة حب الله والّذي أشار به إلى عهده. مدعوين في كل مرة أن نرى أو يرسم فيها الأطفال علامة قوس قزح أن نتذكر حب الله للبشريّة من خلال العهد. تناوّل الكثير من الكُتّاب بالعهد الثاني هذه الروايّة ليجدوا الصلة بين حدث الطوفان وبعض المواضيع الأساسية في الزمن الأربعينيّ، مثل المعمودية (راج 1بط 3: 18 – 22).

 

حدث الطوفان، الّذي يثير أسئلتنا يحمل اليّوم جواب هام ليكشف عن سرّ الله في رغبته للتحالف مع البشريّة من خلال تخلّيه عن سلاحه وتجميل سماء بشريتنا بالقوس الإلهي لنتذكر عهده المقدس. إتسّمّ تاريخنا البشريّ بالبُعد عن خطة الله الذي خلق كل شيء صالحًا (تك 1: 4. 10. 12. 18. 21. 25).ثم يعلن الطوفان، تبعًا لنظرة الله الّذي يرى الشرّ منتشرًا في الأرض (راج تك 6: 5)، أن الله لا يستسلم لشرّ الإنسان، بل ييدع ليخلق الجديد بسلاح الجمال وهو قوس قزح. لا يتراجع إلهنا عن خطواته، بل يجعل المياه الّتي فصلها (راج تك 1: 3) تختلط مرة أخرى، ويبدأ من جديد في الخلق. لا يزال الله، حتى يّومنا هذا يراهن على البشرية بوجود رجل صالح وهو نوح. بفضله تتحقق بداية جديدة بدءًا من نسله. لقد بادّر الله بالعهد مع نوح ونسله في شكل تحالف أُحادي مقرراً بالّا يهلك خليقته مجدداً، وقد علق قوسه الحربي على السحاب كعلامة لهذا العهد. فالعهد هو إجابة الله على أسئلة الشعب في السبي والّذي صار خليقته الجديدة. صارت إمكانية الخلق الجديد ممكنة بفضل أمانة الله الذي لا يفشل أبدًا. يتطلب هذا العهد عودة الإنسان لله بتوجيه قلبه إليه ليبدأ كل شيء من جديد. هذا هو الهدف الّذي يدعونا إليه، اليّوم، كاتب سفر التكوين.

 

 

2. الرّوح القدس (مر 1: 12-13)

 

بناء على ما تعرفنا عليه بحسب كاتب سفر التكوين وعلامة العهد الإلهي من خلال تسليم الله لسلاحه بشكل واضح لنا اليّوم وهو علامة قوس قزح. يأتينا مرقس الإنجيلي بسلاح جديد من خلال كلماته، الّتي يرويها بالصفحة الأوّلى لبشارته والّذي يسرد فيها تجارب يسوع الثلاث بالبرِّيَّة من خلال منظور مختلف عن الإنجيلين الإزائيين متّى ولوقا. في واقع، الأمر سرد هذا الحدث بحسب متّى ولوقا كمحور للنص لديهما. إلّا أنّ إبداع كاتب إنجيل مرقس ضروري للغاية حيث يرتكز إهتمامه على عناصر لّاهوتية أُخرى، وهذا هو الجديد. يكشف لنا يسوع الّذي يتوجه بقرار حازم نحو البرِّيَّة ليتسلح بأسلحة اللقاء بأبيه السماوي والرّوح معًا من خلال العزلة والصوم بالبرِّيَّة. قد يخفينا اليّوم، هذا النموذج الرّوحيّ والّذي قد نعتبره صارمًا إلّا إنّه يكشف عن حقيقة يسوع الّذي يذهب للمنبع. وسنكتشف تدريجيًا مخطط الله الّذي سيظهر في يسوع إبنه.

 

في الإنجيل الثاني لا يذكر الإنجيلي أيّ إشارة للتجارب الّتي كان على يسوع أنّ يواجهها، ولا للصوم، ولكن فقط لعمل، الرّوح القدس، كإرتباط هام بحدث المعموديّة الّتي يرويها قبل هذا النص مباشرة قائلاً: «أَخَرجَ الرُّوحُ [يسوع] عِندَئِذٍ إِلى البرِّيَّة، فأَقام فيها أربَعينَ يَوماً يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه» (مر 1: 12- 13). فالمعموديّة إذن دفعت بيسوع للتوجه إلى البرِّيَّة، ولمواجهة الصمت والوحدة لمدة أربعين يومًا، في رفقة وحوش البرِّيَّة وخدمة الملائكة. هذه العناصر ترشدنا إلى فهم رسالة النص الحقيقة.

 

هناك علاقة عميقة بين حدث معمودية يسوع والإنعزال في البرِّيَّة. يقود الرّوح يسوع إلى البرِّيَّة، كالإبن الحبيب الّذي به سُرَّ الآب (راج مر 1: 11). إنّه يسوع الّذي يخرج من مياه الأردن ويواجه الحرب ضد الشيطان بقوة الرّوح القدس. لّذا يدعونا الزمن الأربعينيّ للدخول لبرِّيَّة حياتنا اليوميّة. سواء الأربعين يومًا أو البرِّيَّة يشيران بحسب تكرارهما في الكتاب المقدس، إلى زمان ومكان محددين جيدًا، والذي سيكون لهما نهاية وهي نهاية المسيرة الأربعينيّة وهي موت وقيامة يسوع.  وأخيرًا، تظهر رفقة الوحوش والخدمة الملائكية، إنّ يسوع هو الإنسان الجديد، الّذي بقوة الرّوح يتمكن من مواجهة التجارب بل يخرج منتصرًا من الحرب ضد الشرير.

 

 

3. الملكوت هو سلاح الآب (مر 1: 12-15)

 

يأتيينا اللّاهوت الـمُرقسي، في هذا النص، على عكس لّاهوت الإنجيليين متّى ولوقا الّلذين يفسران حدث التجارب بدءًا من خروج بني إسرائيل للبرِّيَّة حيث يعيد مرقس قراءة الصفحات الأولى من سفر التكويّن معتمداً في خلفيته على رواية الخلق. حيث كان آدم وحواء قبل الزلة الأوّلى يعيشان في إنسجام مع الحيوانات والخليقة. إلّا أن رّوح العداء والتنافر هما ثمرة العصيان البشري. وهنا في يسوع، الـمُتسلح بالرّوح والّذي انتصر في حربه ضد الشيطان، ظهر الإنسجام الّذي حلم به الآب. فيسوع، وهو ابن الله الحبيب، هو الإنسان الجديد الّذي يُسرّ به الله

 

بحسب السردّ المرقسيّ يأتي وصف الإنجيلي مُختتمًا هذا الحدث مشيراً بأنّ: «جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول: "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة"» (مر 1: 14-15). لقد حقّقَّ يسوع في ذاته ما يدعونا إليّه اليّوم، وهو الإنتصار بخوض التجارب ضد الشرير والإنتصار عليه بقوة الرّوح ثم بقبول وإعلان الملكوت. بهذا الانتصار على الشرّ يمكن أنّ تنشأ إعلان نهايّة الأزمنة وقُرب الملكوت والدعوة إلى التوبة. إنّ قُرب الملكوت يتمثل في هزيمة الشيطان، وهذا القُرب سيستمر يسوع في كلّ أقواله وأعماله بعمق في باقي الإصحاحات بالبشارة المرقسيّة (راجع مر 3: 27). يسوع هو الإنسان القوي، الّذي بحسب وصف مرقس لاحقًا، قيدَّ الشيطان ويستطيع الآن أنّ يحررنا من سلطانه. إنّ الدعوة إلى التوبة تنبع من حضور يسوع، وهو الّذي حارب حاملاً سلاحي الرّوح والملكوت. فهو الإنسان الجديد الّذي كشف عن رغبة الله، وفيه نستطيع نحن البشرييّن مدعوين للعبور لنصلّ إلى ملء إنسانيتنا الجديدة.

 

 

الخلّاصة

 

نختتم مقالنا الأوّل لهذا الزمن الأربعيني لهذا العام، من خلال قبولنا للتسلّح بأسلّحة إلهيّة وليست بشرية والّتي تنتمي لعالم اليّوم، والّتي تحمل الدمار والحرب والإهانة وهزيمتنا أمام عدو الخير. لقدّ تعرّفنا على السلاح الأوّل وهو القوس كعلامة العهد، بالنص الأوّل (تك 9: 8- 15)، الّذي كان إنطلاقة للعهد الّذي أرادّه الله ليسلكه مع البشريّة، مُتخليًا عن القوس القاتل وواضعًا قوس قزح ليُجمل سماء بشريتنا وحياتنا بتذكر عهده. وعلى ضوء كلمات مرقس (1: 12- 15) الّذي يدعونا التمثل بأسلحة يسوع وهي الدخول في علاقة حميمة بالآب من خلال قيادة الرّوح وقبول بُشرى الملكوت. دُمتم مُتسلّحين بعهد الله وقوة الرّوح القدس، زمن أربعيني مبارك.