موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣

الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس﴾ (مز 1:93)

﴿الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس﴾ (مز 1:93)

 

عظة الأحد الرّابع والثّلاثون من زمن السّنة-أ

 

في كُلِّ عَامٍ نُتَوِّجُ السَّنَةَ الِّليتورجيّةَ بِاحِتِفَالِنَا بعيدِ سِيِّدِنَا الْمَسيحِ، مَلكِ الكَونِ ورَبِّ الكَائِنَات. مُعْلِنينَ إيمانَنَا بِأَنَّ الْمَسيحَ كَلِمةَ الله، هوَ البِدايِةُ الَّذي لا بِدَء لَهُ، وهوَ النِّهايَةُ الَّذي لا نِهايَةَ لَهُ، فَهُوُ أَصلُ الوُجودِ ومُبْدِعُهُ، وهوَ غَايَتُهُ ومُنْتَهَاه. في يَدهِ مَقَالِيدُ جَميعِ الأشيَاء، ولَهُ الرِّئَاسَةُ عَلَى جَميعِ الأشيَاء، إِذْ: ﴿بِهِ كَانَ كُلُّ شَيء، وبِدونِهِ مَا كانَ شَيءٌ مِمّا كَان﴾ (يوحنّا 3:1).

 

يُرنِّمُ صَاحِبُ الْمَزَاميرِ مُفْتَخِرًا: ﴿الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس، لَبِسَ الرّبُّ العِزَّةَ وَتَمنطَقَ بِهَا﴾ (مز 1:93). إذْ: ﴿مَنِ افتَخَرَ، فَلْيَفتَخِر بالرّبّ﴾، عَلَى حَدِّ قَولِ بُولسَ الرّسول، في رِسَالتِهِ الأولَى إلى أَهلِ قورنتوس (17:10). ومُلْكُ اللهِ الّذي نَعتَزُّ فيه، لَيسَ مُلْكًا بالاستِبدادِ والاسْتِعبَاد، ولا بالظُّلمِ والفَسَادِ. إنّما بالوَدَاعَةِ والرَّحمَة، بالعَدلِ والسَّلام، بالحَقِّ والانْصَاف.

 

وَلِأنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ رَحمَة، فَهَا هُوَ، "مَلِكُ البِرِّ الأبَديّ: يَسوعُ الْمَسيح"، يُطَالِبُنَا في إنجيلِ هَذَا الأحَد، أَنْ نَتَحَلَّى نحنُ أَيضًا بالرَّأفَةِ والوَدَاعَة، وأنْ نُمَلِّكَ الرَّحمَةَ ونُغَلِّبَهَا، عَلَى مَنطِقِ القَسوَةِ والِّلؤمِ، ولُغَةِ العُنفِ والشَّراسَة، السَّائِدَةِ في هَذَا العَالم، الّذي غَالِبًا مَا تحكُمُهُ شَرائِعُ جَاهِلَةٌ، ولُوبِيَّاتٌ ظَالِمَة، فَاقَتْ في وَحْشِيَّتِها شَرائِعَ الغَاب. إذ: ﴿طُوبَى لِلوُدَعاءِ، فَإنَّهُمْ يرِثونَ الأرض... طُوبَى لِلرُّحَماء، فَإنَّهُم يُرحَمون﴾ (متّى 4:5، 7).

 

يَسوعُ لَمَّا مَثُلُ أَمامَ بيلاطُس، أَوضَحَ بِأنَّ كُلَّ سُلطَةٍ مَصْدَرُهَا "مِنْ عَلُ" (راجع يوحنّا 10:19-11)، أيْ مِن عِندِ الله، مَصدَرِ العَدلِ والحَقّ. وعَلَيه، فَإِنَّ كُلَّ سُلطةٍ، رُوحِيّةٍ أو دُنيَويَّة، مُطَالَبَةٌ بأَنْ تَحكُمَ وتَسُودَ بالحقِّ والانْصَاف. ولَكِنَّنَا نَعلَمُ أَنَّ سُلطاتٍ كَثِيرَة، فَقَدَتْ مَصْدَاقِيَّتَها وَشَرعِيَّتِهَا، عِندَمَا أَصبَحتْ رَهينَةً لِلغشِّ والْفَسَاد، وأَدَاةً لِلظُّلمِ والْمَحسوبِيَّات، وتحقيقِ مَآرِبَ شَخصيَّة عِوَضًا عَنْ خِدمَةِ الصَّالِحِ العَامِ لِلجَميع.

 

أَمَّا مُلْكُ الْمَسيحِ الحَق، فَأساسُهُ الحَقُّ القَائِمُ عَلَى الْعَدلِ والرّحَمة، كَما يَقولُ صاحِبُ الْمزامير: ﴿البِرُّ والحَقُّ قاعِدَةُ عَرشِه﴾ (مز 2:97)، بَعيدًا عَنْ أَشْكَالِ النِّفَاقِ والتَّملُّقِ والانحِياز. ولِذلكَ اِصْطَدَمَ مَع سُلطاتِ زَمَانِهِ الفَاسِدَة، إلى أنْ جَعَلوا، غَيرَ مُدْرِكين، مِنَ الصّليبِ عَرشًا اِستَوَتْ عَليهِ رَحمَةُ اللهِ لِلبَشَرِ أَجْمَعين.

 

فَمُلْكُ الْمَسيحِ يا أَحِبَّة فَريدٌ مِن نَوعِه، يَتَجَلَّى بِأبهَى صُوَرِهِ في شَخصِهِ، وهوَ فَوقَ الصَّليبِ مَلِكًا، بَذَلَ نَفسَهُ ضَحِيَّةَ خَلاصٍ، في سَبيلِ أَنْ تَحيا مَملَكَتُهُ. وهلْ يُوجَدُ تَعبيرٌ أبلَغُ مِنْ تَعبيرِ قَائِدٍ ورَاعٍ ضَحَّى بِذَاتِه، في سَبيلِ خَاصَّتِهِ وسَلامَةِ رَعِيَّتِه؟! ونحنُ نَعِيشُ في عَالَمٍ تُمارَسُ فِيهِ أَحيانًا كَثيرَة، السُّلطَةُ بِشَكلٍ عَكْسِيٍّ مَغلُوط، حَيثُ يُضَحَّى بِكَثيرين، في سَبيلِ أَن يَحيا الفَردُ ويَبقَى! وهَذهِ هيَ الدِّكتاتوريّةُ وهَذا هوَ الظُّلمُ والطُّغيَان. وهوَ مَا عَبّرَ عَنهُ الرَّبُّ عَلَى لِسانِ نَبيِّهِ حَزقيالَ قائِلًا: ﴿وَيلٌ لِلرُّعَاةِ الَّذينَ يَرعَونَ أَنفُسَهم... الضِّعافُ لم تُقَوُّوها، والْمَريضَةُ لم تُداوُوها، والْمَكْسورَةُ لم تَجبُروها، وَالشَّارِدَةُ لم تردُّوها، وَالضَّالَةُ لم تَبحَثوا عَنهَا، وإِنَّما تَسَلَّطتُم عَلَيها بِقَسوَةٍ وقَهْر﴾ (حز 2:34، 4).

 

أَيُّها الأحِبَّة، في عِيدِهِ يُطلُبُ مِنَّا الْمَسيحُ الْمَلِك، أَنْ نَتَعَلَّمَ "فَنَّ الالتِفَات" إلى حَاجَاتِ بَعضِنا البَعض. إذْ: ﴿كُلَّمَا صَنعتُم شَيئًا مِنْ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخوَتي هَؤلاءِ الصِّغَار، فَلِي قَدْ صَنعتُمُوه﴾ (متّى 40:25). في عَالَمٍ بَارِدٍ تَسودُهُ الأنَانِيَّةُ الْمُفرِطَة و"الأنا الْمُطلَق"، والطَّمَعُ والجَشَع، والاهمالُ والَّلامُبالاة، عَلَينَا كَأتبَاعٍ لِلْمَسيحِ الْمَلِك، أنْ نُعطيَ صُورَةً أُخرى مُغايرَةً تمامًا: صُورَةً عنِ العَطَاء والبَذل، عنِ الْمحبَّةِ والاكتِراث، عنِ صُنعِ الخَيرِ والصَّلاح، عنِ الرّعايَةِ والاهتِمام، عنِ الْمُسارَعَةِ لِسدِّ حَاجاتِ الآخرين الْمَادِيّةِ والجَسَديّة عَلى قَدرِ مَا نَستَطيع، وأيضًا الحاجاتِ الْمَعنويّةِ والنَّفسِيَّة. كَمَا يَحُثُّنَا بُولسُ الرَّسولُ قائِلًا: ﴿فَاللهُ الَّذي يُعزِّينَا في جَميعِ شَدائِدِنا لِنَستَطيعَ، بِما نَتَلَقَّى نَحنُ مِنْ عَزاءٍ منِ الله، أنْ نُعزِّيَ الّذينَ هُمْ في أيَّةِ شِدَّةٍ كانَت﴾ (2قورنتس 4:1). وهَكَذا نُثبِتُ لهذا العَالمِ شِبهِ الخَالي مِن الرَّحمَة، أَنَّ الْمَسيحَ لا يَزالُ مَلِكًا في قُلوبِ أتباعِهِ، بِمُمارَسَتِنا أعمالَ الرّحمة.

 

إذْ لا يُمكِنُ لِلمُؤمِنِ أنْ يكونَ صادِقًا نَزيهًا في إيمانهِ، ومحبَّةُ العالمِ وشهواتُهُ هي الّتي تَسودُ في قَلبه. فَمَحَبَّةُ العَالم ومَحبَّةُ اللهِ لا تَتَلاقيان. ومحبّةُ الله لا تَستَقيمُ إلّا مَع محبّةِ القَريب والالْتِفاتِ إليه: ﴿لِأنَّ الّذي لا يُحِبُّ أَخَاهُ وهَو يَراه، لا يَستطيعُ أن يُحِبَّ اللهَ وهوَ لا يَراه﴾ (1يوحنا 20:4).