موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

البابا في لبنان: مشاهد ورسائل

فادي الأحمر

فادي الأحمر

فادي الأحمر :

 

"طوبى لفاعلي السلام" كان عنوان زيارة البابا للبنان. على مدى أيّام ثلاثة حَلَم اللبنانيّون بالسلام. تكرّرت الكلمة في تصريحات البابا وخطاباته وعظته. أدرك الحبر الرومانيّ أنّ السلام أهمّ ما يفتقده لبنان واللبنانيّون. ليس منذ سنتين فقط، ولا منذ عقدين، إنّما منذ ما يزيد على خمسة عقود. أجيال بكاملها لم تعرف السلام في لبنان.

 

بعد ظهر الثلاثاء غادر البابا لبنان. قال إنّه يحمل لبنان في قلبه وصلواته. وصعد سلّم الطائرة. كرّر كلامه هذا أمام الصحافيّين المرافقين له في طريق العودة. يحمل اللبنانيون أيضاً في قلوبهم صوراً ومشاهد من زيارة تاريخيّة انتشلتهم من الجحيم الذي يعيشون فيه.

 

سيتذكّر اللبنانيّون مشهد البابا جاثياً أمام ضريح القدّيس شربل مصلّياً لناسك عاش في السكينة والهدوء، لكنّه هزّ لبنان والعالم بعجائبه بعد وفاته. وسيتذكّرون مشهد البابا متأثّراً بكلام وغصّة ودموع الأمّ ماري مخلوف الرئيسة العامّة لراهبات الصليب اللواتي قبِلن حمل الصليب مع المؤسّس يعقوب الكبّوشي منذ عقود لمساعدة المرضى الاستثنائيّين في المجتمع. ولن ينسوا مشهد الراهب الذي جثا في وسط الطريق في حريصا طالباً بركة البابا، والشابّ الذي تخطّى الحاجز الأمنيّ وجثا بعفوية عند أقدام البابا وقبّلها، إضافة إلى مشاهد كثيرة من لقاء الشبيبة في بكركي ومع الإكليروس في حريصا.

 

 

مشهد الضّحيّة والجلّاد

 

أمّا المشهد الذي سيحفر عميقاً في ذاكرة اللبنانيّين فهو لقاء البابا ليون الرابع عشر بأهالي شهداء مرفأ بيروت. لقاء أراده البابا ليؤكّد أنّ ما حدث في ذاك الرابع من آب 2020 لم يكن حدثاً عرضيّاً، وليوصل رسالة إلى المعنيّين بأنّه لا بدّ من العدالة لشهداء انفجار هزّ العالم.

 

بعدما وضع إكليلاً من الزهر وأضاء شمعة، توجّه ليون الرابع عشر بعاطفة الأب نحو الأهالي الذين انتظروه منذ الصباح الباكر. عانق الباكية. حدّق في عيون الأب الذي حبس دمعته. قال له كلّ شيء بلغة القلب. جثا أمام الطفل الحامل صورة محمّد طليس. أمسك بيديه. شجّعه على المضيّ قدماً. من أجل العدالة ورفضاً للظلم. من أجل السلام ونبذاً للحرب.

 

مشهدان أعادا إلى اللبنانيين مشهد ذاك الرابع من آب 2020. استعادوا مشهد عصف الانفجار الذي هزّ بيروت ودمّرها، وأسقط أكثر من 200 شهيد، وجرح أكثر من 6000 من أبنائها. استعادوا مشاهد الجرحى الممدّدين في مداخل المستشفيات وممرّاتها، والممرّضة تحمل الأطفال الثلاثة، والجريح الذي يحمل جريحاً أكثر خطورة

 

 

رسائل البابا

 

في عظة القدّاس الذي احتفل به في واجهة بيروت البحريّة مقابل المرفأ، كان البابا ليون مباشِراً في كلامه للسياسيّين. على خطى معلّمه الإلهيّ كان خليفة بطرس واضحاً وحاسماً، دون محاباة ولا مجاملات. أرشَد إلى طريق السلام والعدالة والمساواة والأخوّة الحقّة التي تبني وطناً طال انتظاره. والخطوة الأولى فيه التخلّي عن السلاح.

 

قال الحبر الأعظم: “ليس أمامنا إلّا طريق واحد لتحقيق ذلك: أن ننزع السلاح من قلوبنا، ونُسقِط دروع انغلاقاتنا العرقيّة والسياسيّة، ونفتح انتماءاتنا الدينيّة على اللقاءات المتبادلة، ونُوقِظ في داخلنا حُلْمَ لبنان الموحّد.”

 

كانت رسالة الحبر الأعظم أيضاً للشعب اللبنانيّ الحاضر في القدّاس والمتابع عبر الشاشات. حمّله المسؤوليّة العظمى: تحقيق الحلم، حُلم السلام. قال البابا: “هذا هو الحُلْمُ الموكولُ إليكم، وهذا ما يضعه إلهُ السلام بين أيديكم: يا لبنان، قمْ وانهض! كُنْ بيتاً للعدل والأخوَّة! كُن نبوءة سلام لكلّ المشرق”.

 

لبنان” هو الشعب. المسؤولون عابرون، ولو استمرّوا عقوداً في السلطة. أمّا الشعب فباقٍ، ولو قتلوا منه المئات والآلاف. “قمْ وانهض”. نداء موجّه إلى “الشعوب” اللبنانيّة. نداء ليكونوا شعباً واحداً. ليجعلوا من لبنان “بيتاً للعدل والأخوّة”. إنّها دعوة صارخة ليأخذوا المبادرة، لاستعادة لبنان ممّن حوّله أرضاً للإرهاب والموت ومدرسة في الفساد، وإعادته بلداً للحياة والازدهار والتطوّر والانفتاح… بذلك يعود لبنان “نبوءة سلام لكلّ المشرق”.

 

 

المحاسبة بدل المبايعة

 

بقدر ما تبدو المهمّة صعبة، هي بالقدر نفسه سهلة. وهنا لا أقصد الحرب الإسرائيليّة المرتقبة التي يتمّ التهديد بها منذ أشهر، وعاد اللبنانيّون للحديث عنها والتوجّس منها بعد مغادرة البابا. إنّما قصدت الانتخابات النيابيّة المقبلة. إنّها الفرصة الحقيقيّة للتخلّص من براثن سلاح “الحزب” ومنظومته العسكريّة والأمنيّة. إنّها الفرصة للتخلّص أيضاً من الفساد الذي هو أخطر من السلاح. فرصة للتخلّص من الفاسدين والمفسدين الذين سرقوا من اللبنانيّين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. إنّها الفرصة للمحاسبة بدل مبايعة الزعيم أو ابنه أو صهره أو حفيده. بذلك يكون اللبنانيّون فَعَلة السلام المنشود لأنّ أيّ سلام من الخارج يبقى منقوصاً ومرهوناً بمصالح هذا الخارج.

 

(أساس ميديا)