موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (يوحنا 15: 9-17)
9 كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضًا. اُثبُتوا في مَحَبَّتي. 10 إِذا حَفِظتُم وَصايايَ تَثبُتونَ في مَحَبَّتي كَما أَنِّي حَفِظتُ وَصايا أَبي وأَثبُتُ في مَحَبَّتِه. 11 قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا. 12 وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم. 13 لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه. 14 فَإِن عَمِلتُم بِما أُوصيكم بِه كُنتُم أَحِبَّائي. 15 لا أَدعوكم خَدَمًا بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي. 16 لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم فيُعطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ ما تَسأَلونَهُ بِاسمي. 17 ما أُوصيكُم بِه هو: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا.
مقدمة
يتناول إنجيل الأحَد السَّادس للفِصْح قسمًا من خِطاب الوادع في العَشاء الأخير حيث يكشف يسوع جوهر حياة الله التي يقدِّمها للبشر: المَحَبَّة التي تُوحّد الآب بالابن تصل إلى التَّلاميذ وتدعوهم لكي يُحبَّ بَعضُهم بعضًا، (يوحنا 15: 9-17). ينطلق الحُبِّ من الآب إلى حُبِّ الابن، ثم إلى حُبِّ التَّلاميذ له ولبعضهم البعض فيثبتوا في المَحَبَّة وبالتَّالي في الله، لأنَّ الله مَحَبَّة (1 يوحنا 4:8). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي ((يوحنا 15: 9-17)
9 كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضًا. اُثبُتوا في مَحَبَّتي
تشير عبارة "كما أَحَبَّني الآب" إلى الانطلاق من مَحَبَّة ألاب للوصول إلى حب الابن ثم إلى حب التَّلاميذ الذين يثبتون في الكَرْمة. وتكرّرت هنا كلمة "مَحَبَّة" تسع مرّات مما تبرز أهميتها في هذا النَّص. فالله نفسه هو مَحَبَّة " اللهُ مَحَبَّة " في الأصل اليوناني ἡ ἀγάπη ἐκ τοῦ θεοῦ ἐστιν (معناها المَحبَّة هي من الله) (1يوحنا 4 :8)؛ الآب يُحبّ الابن (يوحنا 3 :35)؛ والابن يُحبّ الآب، ويعمل بما يُوصيه الآب (يوحنا 14 :31). أمَّا عبارة "كذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضًا" فتشير إلى مَحبَّة الأب إلى ابنه ومَحبَّة يسوع لتلاميذه أيضًا. هنا يكمن سرّ العلاقة بين الكَرْمة والأغْصَان (يوحنا 15: 1 -8). فالمَحبَّة لا تكمن في تبادل مغلق ومحصور بين شخصين فقط، إنَّما تكمن في بذل الذات والذي يفيض على الآخرين بناء على المبدأ اللاهوتي Bonum diffusivum sui ، أي الصلاح يفيض من ذاته. وفي الواقع، ظهرت مَحَبَّة يسوع المسيح لنا جميعًا في بذلِه نفسه على الصَّليب طاعةً لأبيه السَّماوي، التي تقابلها مَحَبَّة الآب الذي يُمجّده، ولولا هذه المَحَبَّة ما كنَّا قد فهمنا مَحَبَّة الآب للابن، ولا مَحَبَّة الابن لنا. هذه المَحبَّة هي الأساس والمثال للوجود المسيحي الذي يُعبّر عنه بالمَحَبَّة. إنَّ حب يسوع لنا، هو نفس حب الآب للابن. وإن اتحادنا بيسوع، هو نفس اتحاد يسوع بآبيه. حيث أنَّ نموذج مَحَبَّة التَّلاميذ لله وطاعتهم له تعالى يرتكز على العَلاقة بين الآب والابن. ويُعلق القدِّيس أوغسطينوس: " لا يشير يسوع بقوله " كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا" إلى مساواة بين طبيعته وطبيعتنا كما هي بينه وبين الآب، بل يشير إلى النِّعمة التي "للوَسيطَ بَينَ اللهِ والنَّاسِ واحِد، وهو إِنْسان، أَيِ المسيحُ يسوعُ "(1طيموتاوس 2: 5). أمَّا عبارة "اُثبُتوا" فتشير إلى دعوة يسوع لاستقرار التَّلاميذ في حُبِّه. يستقر التَّلاميذ في حُبِّ يسوع، كما يستقر الابن في حُبِّ الآب السَّماوي كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "مَن اتَّحَدَ بِالرَّبِّ فَقَد صَارَ وَإيَّاهُ رُوحًا وَاحِدًا" (1 قورنتس 6: 17). وكيف نَثبُتُ نحن في المسيحِ، وكيف يَثبُتُ هو فينا، هذا ما يبيِّنُه لنا القدِّيس يوحنا الإنجيلي في حكمتِه حيث يقول: "وَنَعرِفُ أنَّنَا فِيهِ نُقِيمُ، وَأنَّهُ يُقِيمُ فِينَا، بِأنَّهُ مِن رُوحِهِ وَهَبَ لَنَا" (1 يوحنا 4: 13). وكلُّ التَّلاميذ ما عدا واحد فرّوا من يسوع في ضعفهم البشري عند آلامه وصلبه. ونحن تلاميذه مدعوُّون إلى البقاء في فيض هذا الحُبِّ الإلهي. أمَّا عبارة "مَحَبَّتي" فلا تشير إلى مَحَبَّة انتقائيَّة، إنما مَحَبَّة شاملة للكلِّ: لله أولًا ولكل إنسان، حيث يكون الآخر جزءً من حياته، ولا يحيا بدونه؛ وعلّق البابا بِندِكتُس السَّادس عشر "لقد أظهر لنا الإيمانُ المسيحيّ أنّ المَحَبَّة ليست مجرّد مثاليّات، بل واقع ذو أهميَّة عظيمة. لقد أظهر لنا أنّ الله – وهو المَحَبَّة في شخص يسوع – الذي أرادَ أن يتألّم لأجلنا ومعنا".
10 إذا حَفِظتُم وَصايايَ تَثبُتونَ في مَحَبَّتي كَما أَنِّي حَفِظتُ وَصايا أَبي وأَثبُتُ في مَحَبَّتِه
تشير لفظة "إذا" إلى أداة الشَرط، وهي تدل على علاقة حرية الاختيار مع يسوع وليس علاقة آليَّة إجباريَّة. إنَّ المَحَبَّة المتجاوبة مع مَحَبَّة المسيح تُترجم في الواقع بحفظ وصاياه (يوحنا 14: 15) خاصة بوصيَّة المَحَبَّة الأخويَّة (يوحنا 15: 12)، حيث أنَّ شرط الثّبات في المسيح هو أن نحيا في المَحَبَّة، وشرط الثّبات في المَحَبَّة هو حفظ وصاياه. والمَحَبَّة هي شرط لثبات المسيح فينا. أمَّا عبارة " إذا حَفِظتُم وَصايايَ " فتشير إلى فعل أرادة قوَّي وبطولي للعمل بما يُوحي إليه المسيح من الوصايا. ومن يحفظ الوصيَّة يكتشف معناها. والحُبّ الحقيقيّ يقوم في حفظ الوصايا. لهذا، نحن نعرف من يحبّ الابن، إذا سلك سلوكًا موافقًا لفرائضه وكلمته (يوحنا 14 :21). إن َّ "حفظ الوصايا" مرتبط بالشريعة وبحفظ قواعدها بشكل تامّ. أمَّا عبارة "تَثبُتونَ في مَحَبَّتي " فتشير إلى جواب الشَرط، أي حفظ وصاياه الذي هي علامة الثّبات في مَحَبَّة المسيح، كما يؤكده يوحنا الرَّسول "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15). ومن يثبت في المسيح يكتشف محبته. ومن يكتشف محبته يلتزم بحفظ وصاياه عن حُريَّة. فإننا لن نتمتع بالحُبِّ دون الطَّاعة والتَّسليم وحفظ الوصايا علمًا أنَّ حبَّ المسيح لنا هو المُبادر الذي يحثنا على حفظ وصاياه. ويعلق القدِّيس أوغسطينوس: "لا يخدع أحد نفسه بالقول إنه يحب يسوع إن كان لا يحفظ وصاياه. فإننا نحبه بقدر حفظنا لوصاياه، وكلما قلَّ حفظنا لها يَقلُّ حُبنا له ". فمن عرف المسيح حقيقة يُحبُّه، ومن يُحبُّه يثبت فيه. ومن هذا المنطلق، يؤدّي الحُب إلى حفظ وصاياه، وفي هذا المنطق، نسير في خط العهد القديم حيث يتضمّن الحُبّ تجاه الله خدمة الله (تثنية الاشتراع 10 :12) وواجب ممارسة بنود العهد (تثنية الاشتراع 11 :13). وفي خطّ العهد، يميل البَار لإعلان حُبّه لشريعة الله (مزمور 119). ومن هذا المنطلق، إنّ الثبات في فيض الحبّ الإلهي يتطلب قبلاً حفظ وصاياه. أمَّا عبارة "كَما أَنِّي حَفِظتُ وَصايا أَبي" فتشير إلى طاعة الابن للآب، لأنَّه واحد مع الآب وإرادتهما واحدة، أمَّا نحن بطاعتنا نثبت في الابن، والابن يَحملنا إلى حضن الآب. وتقوم طاعة المسيح بحْمل رسالة الخلاص، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "جرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب " (فيلبي 2: 5-8). حفظ المسيح الوصيَّة بالطَّاعة الكاملة، وقَبلَ الآلام بمسرة (عبرانيين 5: 8؛ 12: 2)، وحقق الوصيَّة بالكامل على الصَّليب حيث أعلن " تَمَّ كُلُّ شَيء" (يوحنا 19: 30). أن يسوع سبقنا في هذه الطَّريق، ونحن نسير على خطاه. هذه هي القدوة الحَسنة، هذه هي أمانه يسوع لآبيه وقد كلفته ثمنًا باهظًا، وهو الموت على الصَّليب (لوقا 22: 42). كما يحفظ يسوع وصايا الآب كذلك على التَّلاميذ أن يحفظوا وصايا يسوع. وإنَّ حفْظَ وصايا المسيح هو الوسيلة المثلى للثبات على حبِّ الله ورضاه، هذه هي القدوة والاستقرار المثالي؛ وهذه الغاية من الحياة. أما عبارة " أَثبُتُ في مَحَبَّتِه " فتشير إلى علاقة الوحدة بين يسوع والآب، أي أن كلّ شيء عندهما مُشْتَرَك: ولهذا السَّبب يستطيع يسوع أن يقول إنّه يحب الآب وإنّه يحفظ وصاياه.
11 قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا
تشير عبارة "قُلتُ لَكم" التي تكرَّرت سبع مرَّات إلى إعلان حزقيال النَّبي: " أَنا الرَّبَّ تَكَلَّمتُ" (حزقيال 5: 13). وكأن يسوع تحدث إليهم خلال الأنبياء منذ قرون. أمَّا عبارة "هذهِ" باليونانيَّة Ταῦτα (معناها هذهِ الأشياءَ) فتشير إلى سرِّ الكَرْمَة والأغْصَان، وثباتنا في يسوع الكَرَمة بالمَحَبَّة، وبطاعة وصاياه يجعله يفرح ويعطينا الفَرَح. أمَّا عبارة "فَرَحي" فتشير إلى البهجة والسُّرور وانشراح الصَّدر والرِّضى، وثمرة الفصح (يوحنا 20: 20). وهو ثَمرة من ثِمار الرُّوح القُدس (غلاطية 5: 22)، وعلامة مميَّزة لملكوت الله (رومة 14: 17)، وفي الكتاب المقدس ينحصر معناه غالبًا في السُّرور الدِّيني (عزرا 6: 16). وقلَّما يكون في السُّرور الدَّنيوي (1 صموئيل 18: 6)؛ ويعلق الطُّوباويّ يوحنّا هنري نيومان " فَرَح الرُّسل لم يكن "كما يُعْطي العالَم " (يوحنا 14: 27)، بل كان الفَرَح الذي يُعطيه هو، والنَّابع من الألم والحزن". وهذا الفَرَح يأتي من العلاقة الثّابتة مع يسوع المسيح من خلال الإصغاء إلى كلامه (يوحنا 3: 29)، ويتغذَّى بالصَّلاة والشُّكر المتواصلين (1 تسالونيقي 5: 16). إنّه فَرَح نقيٌ ثابتٌ ودائمٌ، تخلقه في النَّفس مَحَبَّة الله ومَحَبَّة يسوع المخلص، كما يقول النَّبي حبقوق "أمَّا أَنا فأَتهَلَّلُ بِالرَّبَّ وأَبتَهِجُ بإِلهِ خَلاصي" (حبقوق 3: 18)، ويتجاوز هذا الفَرَح تقلبات الظُّروف، ويكمن في مَحَبَّة يسوع لنا ومحبتنا له. وقد قدَّم يسوع القائم من بين الأموات هذا الفَرَح للتلاميذ الذين يحيون الحياة الجديدة علمًا أنَّ الفَرَح في العهد القديم مُرتبط بالخلاص، كما ترنَّم صاحب المزامير "أردُدْ لي سُرورَ خَلاصِكَ" (مزمور51: 14). وفي هذا الشَأن أيضًا يقول النَّبي أشعيا: "أُسَرُّ سُرورًا في الرَّبّ وتَبتَهِجُ نَفْسي في إِلهي لِأَنَّه البَسَني ثِيابَ الخَلاص" (أشعيا 61: 10)، ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: "الفَرَح بالرَّب". فالفَرَح هو علامة الحياة وميزة الخلاص والسَّلام في نهاية الأزمنة (أشعيا 9: 2). ويعلق القدِّيس فرنسيس في خبرته الخاصة: "في مواجهةِ مكائدِ العدوّ وحيَلِه جميعِها، يبقى التَّحلّي بروح الفَرَح أداة الدِّفاع المثلى التي أتسلّحُ بها. إذ يقفُ إبليسُ عاجزًا أمام خادم المسيح الممتلئ فَرَحا وحبورًا مقدّسًا، إلاّ أنّ النَّفسَ المغتمّة والكئيبة تنقادُ بسهولة إلى مشاعر الحزن وتستأثرُ بها المَلذّات والأهواء الزائفة". أمَّا عبارة "فيَكونَ فَرحُكم تامًّا" فتشير إلى امتلاك الإنسان هذا الفَرَح بكامله، كما صرّح في صلاة يسوع الكهنوتيَّة: "لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ" (يوحنا 17: 13)، وجاء في شهادة يوحنا المعمدان "مَن كانَت لَه العَروس فهوَ العَريس. وأَمَّا صَديقُ العَريس الَّذي يَقِفُ يَستَمِعُ إِلَيه فإِنَّه يَفرَحُ أَشدَّ الفَرَح لِصَوتِ العَريس. فهُوذا فَرَحي قد تَمَّ" (يوحنا 3: 29)؛ وبناء على ذلك، كلما نطيع وصايا المسيح نثبت فيه، وكلما نثبت فيه، يزداد فَرَحنا ويكمل؛ فالفَرَح هو نتيجة المَحَبَّة. وهذا ما عمله الرُّوح القُدُس، فأول ثمار الرُّوح المَحَبَّة وثاني الثِّمار هو الفَرَح، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحَبَّة والفَرَح والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ " (غلاطية 5: 22). وأهم أفراح الإنسان هو الخلاص الذي قدَّمه المسيح، وهذا الخلاص هو الحياة الجديدة. ولكن ليس من المستحيل أن يتواجد الفَرَح مع الألم، فالتَّلاميذ يفرحون حتّى وإن انتابتهم الآلام (يوحنا 16: 20-24)؛ وقد طبَّق يوحنا الإنجيلي الفَرَح بولادة إنسان جديد على أحداث آلام يسوع وتمجيده، كما عاشها التَّلاميذ" الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأَمَّا العاَلمُ فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحًا. إِنَّ المرأَةَ تَحزَنُ عِندما تَلِد لأَنَّ ساعتَها حانَت. فإِذا وَضَعتِ الطَّفْلَ لا تَذكُرُ شِدَّتَها بَعدَ ذلك لِفَرَحِها بِأَن قد وُلِدَ إِنسانٌ في العالَم. فأَنتُم أَيضًا تَحزَنونَ الآن ولكِنِّي سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 21-22). يبذل يسوع حياته في سبيل هؤلاء تلاميذه، وهم أحباؤه بهدف إشراكهم في الفَرَح، حيث أنَّ قلبه ينبوع الفَرَح.
12 "وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم
تشير عبارة "وصِيَّتي" إلى صيغة المفرد (وصِيَّتي) بدل صيغة الجَمْع (وصايَاي). ونحن لسنا بحاجة إلى وصيَّة أخرى كما يصرّح القدِّيس أوغسطينوس: "أحبب وأفعل ما شئت". من يدرك "الحُبَّ" لا يقدر إلاَّ أن يسلك في المسيح يسوع حسب فكره الإلهي. وكما يقول الرَّسول بولس: " مَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة" (رو 13: 8)، " المَحَبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال" (قولسي 3: 14). بل والسَّيد المسيح نفسه إذ تحدث عن وصيتي المَحَبَّة لله والمَحَبَّة للقريب يقول: "بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء" (متى 22 :40). وهذه الوصيَّة هي جديدة، لأنه يجعل منها شرطا جوهريا للدخول في الجماعة المسيحيَّة، وهي جديدة أيضا بقدر ما تقتضي تواضعًا ورغبة في الخدمة يحملان على اختيار المكان الأخير وعلى الموت في سبيل الآخرين. وهي وصيَّة جديدة أخيرًا، لأنها تتطلب بذل الذات في سبيل من تُحب دون حدود على مستوى القرابة والوطن والدِّين. فهي شاملة، بل تشمل حتى الأعداء (متى 5: 44). أمَّا عبارة "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا" فتشير إلى وصيَّة يسوع لتلاميذه بمشاركة حُبّه مع بعضهم البعض ومع الآخرين. يوصينا يسوع أَّلاَّ نُحبَّه هو فقط، بل أن نُحب بعضنا البعض أيضًا. يطلب يسوع أن يحب الواحد منهم الآخر من أجل أن تبلغ المَحَبَّة نموِّها التَّام في جماعة يسودها التَّبادل والعطاء وحسن القبول. فالمحبَّة الأخويَّة هي وصيَّة يسوع الكُبرى فيما يتعلق بالقريب، وتهمه كثيرًا لكونها موضوع محبته، وإن المَحَبَّة الأخويَّة هي الدَّليل المثالي على حضور مَحَبَّة الله في حياة النَّاس "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 35)؛ ويُعلق القدِّيس أوغسطينوس: "فإنه لن يكون حبًا حقيقيًا لبعضنا البعض إن كنَّا لا نحبُّ الله. فكل واحدٍ يحب أخاه كنفسه إن كان يحب الله. وأمَّا من لا يحب الله فلا يُحبُّ نفسه". وقد ربط يسوع بين الوصيَّة والحُبِّ حيث أنَّ الحُبِّ هو عصب الوصيَّة. ووصيَّة المسيح مستمدة من صليب المسيح الذي أحبَّنا ومات لأجلنا ونحن أعداء كما أعلن بولس الرَّسول:" فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون!"(رومة 10:5). أمَّا عبارة "كما أَحبَبتُكم" فتشير إلى طريقة يسوع في الحياة التي هي ليست مجرد مقايس وأسلوب، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه لكي يحيا النَّاس حياة مَحَبَّة على وجه عام. فهو لا يقول: "أحبوني كما أحببتكم"، بل يقول: "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم". لا يشير يسوع إلى القواعد الّتي يجب أنّ نتبعها من أجل البقاء في حُبّه، بل يشير إلى نموذج يجب تجسيده. وقد وصلت محبَّته إلى أبعد أقصى الحدود؛ إذ وهب يسوع كلَّ شيءٍ حين ضحّى بحياته من أجلنا، ولم يُدخّر لنفسه شيئًا، حيث أنَّ الصَّليب هو قياسُ حبِّ يسوع لنا، إذ أحبَّنا حبًا أبديًّا. الحُبُّ الحقيقي لا ينطوي على إعطاء أشياء مادية لشخص آخر بل على بذل الذات في سبيل الآخرين. ولذلك، يتَّسم حبُّنا ببذلِ الغالي والرَّخيص في سبيل أحبائنا على خطى من احبّنا، وأن نحب حتى أولئك الذين لا يحُبونا ودون انتظار المقابل. فنحبَّ الآخرين كما أحبّ يسوع الزانيَّة ولم يدنْها بل سامحها (يوحنا 8: 11)، وكما أحبّ بطرس عندما أنكره (مرقس 14: 72)، وكما أحب أيضا يهوذا الإسخريوطي بالرَّغم من معرفته المُسبقة بأنه "سَيُسِلِمُه" (يوحنا 6: 64)، وكما أحب أخيرًا الذين صلبوه، إذ قال:" يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34). ومن أجل ذلك كله، لم يتردَّد بولس الرَّسول أن يوصي بالمَحَبَّة الأخويَّة بقوله " أَزيلوا مِن بَينِكم كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءً. لِيَكُنْ بَعضُكم لِبَعضٍ مُلاطِفًا مُشفِقًا، ولْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح. اقتدوا إِذًا بِاللهِ شأنَ أَبْناءٍ أَحِبَّاء، وسِيروا في المَحَبَّة سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا ((قُربانًا وذَبيحةً للهِ طَيِّبةَ الرَّائِحة " (أفسس 4: 31-5: 2). وبتعبير آخر، قدَّم يسوع كمثال محبَّتنا لبعضنا البعض مثال محبته لنا لا مَحَبَّة البشر بعضهم لبعض، والتي هي تبادل بشري "أعطيك فتعطيني". المَحَبَّة الأخويَّة هي العلامة التي تدلُّ على التَّلميذ الحقيقي، وبدونها لا يدّعي أحدٌ أنَّه تلميذ يسوع، كما صرّح هو نفسه: " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي "(يوحنا 13: 35). الوصية المَحبَّة الأخوية هي الوصيَّة الوحيدة الّتي تركها يسوع ميراث لنا.
13 "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه
تشير عبارة "حُبٌّ أَعظمُ" إلى تقبل يسوع آلامه حبًا بالآب وحبًا بأصدقائه وبالخطأة كدليل على أساس الحُبِّ الأخوي وقاعدته. بحق قيل إن “الحُبَّ قَوِيٌّ كالمَوت " (نشيد الأناشيد 6:8)، إما لأنَّه لا يغلبه أحد كما لا يغلب أحد الموت؛ أو لأنَّه في هذه الحياة قياس الحُبّ هو أنَّه حتى الموت. أمَّا عبارة "يَبذِلَ نَفَسَه" فتشير إلى موت يسوع على الصَّليب كأسمى تعبير عن محبَّته للاب (يوحنا 14: 31)، وتجلِّي عملي للحُبّ الإلهي نحو كل بشر، نحو أحبائه، ليس الأبرار فقط، بل الخطأة؛ لقد مات المسيح حتى من أجل مضطهديه كما يقول بولس الرَّسول: "فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه" (رومة 5: 10). ولكن موت يسوع كان أيضًا ذروة مَحبَّته للتلاميذ الذين جعل منهم أحباءه (يوحنا 13: 1). والجدير بالذكر أنَّ ما يُضحى به فريد لا نظير له، هو حياة ابن الله الذي يموت طوعًا من أجل أحبائه، إنَّهم أحباء يسوع إذا كانوا يفعلون ما أوصاهم به. أمَّا عبارة "يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" فتشير إلى بذل يسوع نفسه في سبيلنا نحن الخاطئين كما جاء في تعليم الرَّسول بولس: " لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاء، ماتَ المسيحُ في الوَقْتِ المُحدَّدِ مِن أَجْلِ قَوْمٍ كافِرين، ولا يَكادُ يَموتُ أَحَدٌ مِن أَجْلِ امرِئٍ بارّ، ورُبَّما جَرُؤَ أَحَدٌ أَن يَموتَ مِن أَجْلِ امرِئٍ صالِح. أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين " (رومة 5: 6-8)، فغاية المَحَبَّة أن يضع الإنسان نفسه فدية عن الآخرين، وهذا ما عمله المسيح ليلة موته على صليب الجلجلة، كما ورد في تعليم يوحنا الرَّسول: "ِإنَّما عَرَفْنا المَحَبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1 يوحنا 3: 16)؛ وهذه المَحَبَّة تحثُّنا أن نبذل نفوسنا للآخرين على مثال مَحَبَّة المسيح لنا. ولا يستطيع أحد أن يُحبَّ صديقه أكثر من الذي يضع نفسه وحياته وكل ما لديه من لأجله.
14فَإِن عَمِلتُم بِما أُوصيكم بِه كُنتُم أَحِبَّائي.
تشير لفظة "إِن" باليونانيَّة ἐάν إلى أداة شرط، حيث أن التَّلميذ يُصبح من أحباء يسوع إذا حفظ وصاياه. أمَّا عبارة "أَحِبَّائي" فتشير إلى علاقة يكون فيها الآخر خاصة يسوع، وبالتَّالي، يُهمّه أمره ولا يمكنه سوى الاعتناء به، إلى حدِّ بذل الحياة من أجله. فكل تلميذ يسوع يتمتع بهذه الصَّداقة من خلال الإيمان الحي على مثال إبراهيم خليل الله أو حبيبه "إِنَّ إِبراهيمَ آمَنَ بِالله فحُسِبَ لَه ذلك بِرًّا ودُعِيَ خَليلَ الله" (يعقوب 2: 23)، وعلى مثال موسى الذي دُعي صديقه "وُيكَلِّمُ الرَّبُّ موسى وَجهًا إلى وَجْه، كَما يُكَلِّمُ المَرءُ صَديقَ" (خروج 33: 11) وعلى مثال بولس الرَّسول الذي صرّح "فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن ًاجْلي" (غلاطية 2: 20). ولم يقل يسوع لأجل من يحبونه، بل لأجل كلِّ النَّاس، لأنَّه هو الذي يُحبُّهم. فهو أتى لأجل الخطأة الذين كانوا أعدائه كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه" (رومة 5: 10).
15 لا أَدعوكم خَدَمًا بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي
تشير كلمة "الخادِمَ" باليونانيَّة δουλους إلى الطَّبقة الاجتماعيَّة التي كانت تتواجد أيام المسيح، وهي طبقة العبيد. "والعَبدُ لا يُقيمُ في البَيتِ دائِمًا أَبَدًا بلِ الابنُ يُقيمُ فيه لِلأَبَد " (يوحنا 8: 35). وحيث أن يسوع ربٌ وسيدٌ ينبغي أن يدعونا عبيدًا أو خدامًا، ولكنه يدعونا أحبَّاء. أمَّا عبارة " دَعَوتُكم أَحِبَّائي " فتشير إلى مقارنة يسوع بين العبيد والأحباء، حيث أنَّ العبيد ينفِّذون الأوامر ولا يدركون معناها، أمَّا الأحباء فإنهم يعرفون حب الآب، ويطيعونه عن بصيرة وإدراك وينفِّذون عملهم بحريَّة. ويسوع يعامل تلاميذه معاملة الأحباء الأصدقاء، بما أنّه كشف لهم مقاصد الآب كشفًا تامًا. ولذلك فإن طاعتهم، التي هي عمل مَحَبَّة، هي أيضًا عمل حريَّة (يوحنا 8: 31-36) بما فيه من تعارض بين عبد وابن وروابط بين حريَّة ومعرفة الحق. وكون يسوع ربًّا وسيّدًا ينبغي أن تكون طاعتنا له بلا شروط أو حدود. لكن المسيح يطلب منّا أن نطيعه بدافع حبّنا له " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقامًا. ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي" (يوحنّا 14، 23-24). الرَّبّ يدعونا "أحبّاءه" ويكشف لنا كلّ ما يعرفه من الآب. أمَّا عبارة " أَحِبَّائي" باليونانيَّة φίλοι (معناها الخِلُّ: الصَّديق) فتشير إلى صديق مكشوف أمامه كل شيء. لم يخفي الله عن إبراهيم ما هو فاعله (التَّكوين 17:18) وبالتَّالي تدل لفظة "أحبائي" على وحي يسوع كامل بأننا أحباء يسوع ولسنا عبيدًا. وهذا الوحي لن يُفهم إلا تدريجيا بفضل موهبة الرُّوح القُدُس (يوحنا 16 :13). وبما أننا أحباؤه فأنه يطلب منا أن نطيعه بدافع المَحَبَّة (يوحنا 14: 23) مع كونه سيِّد، وبالتَّالي مطلوب أن تكون طاعتنا له بلا شروط أو حدود. أمَّا عبارة "سَمِعتُه مِن أَبي" فتشير إلى تعبير عن تطابق فكر الآب والابن. لكن الآب ما يريده يعلنه الابن. والابن أظهر وجه الحبّ بحسب الله الآب. ويعلق العلامة ترتليانس: "ما هو الوحي الذي أعطاه الرَّبّ يسوع المسيح للرُّسل؟ ليس علينا أن نسعى إلى معرفة ذلك الأمر إلاّ من خلال الكنائس التي أسّسها الرُّسل بأنفسهم عن طريق التَّبشير الشَفويّ، والكتابي. فهي تحمل ما أخذته الكنائس من الرُّسل الذين بدورهم استقوها من الرَّبّ يسوع المسيح الّذي بدوره أخذها من الله".
16 لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم فيُعطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ ما تَسأَلونَهُ بِاسمي
تشير عبارة "لم تَخْتاروني أَنتُم" إلى أهميَّة الاختيار الذي قام به يسوع لتلاميذه، وهو دعوة إلهيَّة تدلُّ على مَحَبَّة المسيح لتلاميذه. إذ تفترض كل صداقة وجود اختيار متبادل حُرٌّ. وهذا الاختيار هو أحد المواضيع الرَّئيسيَّة في العهد القديم (تثنيَّة 7: 6-7؛ وأشعيا 41: 8). ويبدو اختيار يسوع للتَّلاميذ خاصة (يوحنا 6: 70) تعبيرًا عن اختيار الآب (يوحنا 6: 44)، وتمَّ الاختيار الأول بدعوة يسوع تلاميذه وقد لبّوا هذه الدَّعوة بكل إيمان. أمَّا عبارة "أَنا اختَرتُكم" فتشير إلى المَحَبَّة التي تفترض اختيارًا بين واحد وآخر، ولم يتم الاختيار على أساس كفاءة التَّلاميذ أو حكمتهم أو صلاحهم، بل من قبيل حبِّه ونعمته المَجانيَّة، كما جاء في سفر التَّثنية: " إِيَّاكَ اخْتارَ الرَّبُّ إِلهكَ لِتَكونَ لَه شَعبَ خاصَّتِه مِن جَميعَ الشَّعوبِ التَّي على وَجهِ الأَرض. لا لأِنَّكم أَكثَرُ مِن جَميع الشَّعوبِ تَعَلَّقَ الرَّبُّ بِحُبِّكم واخْتارَكم، فأَنتُم ًاقَلُّ مِن جميعَ الشَّعوب، بل لِمَحَبَّة الرَّبِّ لَكم" (تثنية الاشتراع 7: 6-8). ولكن يسوع يُشدِّد هنا أنَّه على مبادرته، فهو الذي بدأ واختار تلاميذه كلَّ واحدٍ بمفرده، كما قال لمَتَّى" اتِبَعْني! فقامَ فَتَبِعَه" (متى 9: 9). اختار يسوع التِّلميذ، وأقامه، أي أعطاه وظيفة ودورًا ومهمة مع الوسائل الكفيلة بالقيام بما يُطلب منه. ومن هذا المنطلق، قام يسوع بالمبادرة فاحبنا ومات لأجلنا ودعانا لنحيا معه إلى الأبد، وتلبية لهذه المُبادرة، علينا أن نقبل أو نرفض عرضه! يسوع يدعو الجميع ولكنَّ كل واحد حرٌّ في أن يقبل أو يرفض بناءً على إرادتهِ وقرارِه. أمَّا عندما يُقال إن الله قد اختار إنسانًا للخلاص، فهذا يعني سبق معرفة الله لقبول هذا الإنسان دعوة الله له للإيمان، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " ذلك بأَنَّه عَرَفَهم بِسابِقِ عِلمِه وسَبَقَ أَن قَضى بِأَن يَكونوا على مِثالِ صُورَةِ ابنِه لِيَكونَ هذا بِكْرًا لإِخَوةٍ كَثيرين" (رومة 8: 29). أمَّا عبارة "أَقمتُكُم" باليوناني εθηκα فيشير إلى وضع الله التَّلاميذ في منصب أو مركز الخدمة (1 طيموتاوس 1: 12)، متوِّجًا هامتهم بهذه الكرامة، ومزودًا إياهم بما يُمكِّنهم من القيام به قيامًا فعّالا (أعمال الرُّسل 13: 17)، وواهبًا إياهم ثقته فيه كسفراء عنه يتسلَّمون شؤون رسالته الخلاصيَّة في هذا العالم، كما ورد في الإنجيل "أَقامَ مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون" (مرقس 3: 14)؛ لذا سِرّ نجاح الخدمة يكمن في السَّيد المسيح الذي اختار تلاميذه، وكان لهم عونًا، يعمل فيهم وبهم. أمَّا عبارة " لِتَذهَبوا " فتشير إلى إرسال التَّلاميذ ليدعوا العالم بكرازتهم ويكونوا سفراء للمسيح ويتمِّموا عمله. فالمطلوب هو إيمان العالم بالمسيح فيكون لهم حياة. أمَّا عبارة "يَبْقى ثَمَرُكم" فتشير الاستمراريَّة في التَّمتع بكلمة الله ومَحَبَّة المسيح وفَرَحه وفي الإثمار. ما يفعله التَّلاميذ يبقى حتى بعد الموت، لان هدف رسالة التَّلاميذ هي إشراك البشر في الحياة الأبديَّة الموهوبة في يسوع، كما صرّح هو نفسه للسَّامريين: "هُوَذا الحاصِدُ يَأخُذُ أُجرَتَه فيَجمَعُ الثَّمَرَ لِلحَياةِ الأَبدِيَّة فيَفرَحُ الزَّراعُ والحاصِدُ معًا"(يوحنا 4: 36)، لانَّ الآب يعرف كيف يجازي. إن دعوتهم دعوة إلهيَّه، وينبغي أن يكون عملهم وإثمارهم أبديًا. أمَّا عبارة "يُعطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ ما تَسأَلونَهُ بِاسمي" فتشير إلى أن الصَّلاة الواثقة بعون يسوع، هي وجه جوهري من وجوه الصَّداقة والرِّسالة. وعليها تعتمد الفعاليَّة الرَّسوليَّة، كما جاء في تعليم يسوع: " فكُلَّ شيءٍ سأَلتُم بِاسْمي أَعمَلُه لِكَي يُمَجَّدَ الآبُ في الاِبْن"(يوحنا 14: 13). فلا ثمر، ولا ثبات دون صلاة، ولا صلاة ودون مَحَبَّة. أمَّا عبارة "تَسأَلونَهُ بِاسمي" فتشير إلى المسيح في حالته المجيدة وقدرته السَّامية الذي يحوِّل حياة البشر. إنَّ كل رسالة ترافقها الصَّلاة لا يُمكن إلاّ أن تعطي ثمر الآب كما جاء في تصريحات يسوع:" كُلَّ شيءٍ سأَلتُم بِاسْمي أَعمَلُه لِكَي يُمَجَّدَ الآبُ في الِابْن" (يوحنا 14: 13). نطلب من الابن فيعمل الابن فينا، ويتمجد بواسطة أعمالنا. ويعلق القدِّيس أمبروسيوس: لنؤمن أنه مهما سألنا الآب ننال باسمه، لأن إرادة الآب هي أن نطلب خلال الابن، وإرادة الابن أن نطلب من الآب".
17 ما أُوصيكُم بِه هو: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا.
تشير عبارة "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا" إلى المَحَبَّة الأخويَّة. ويعلق القدِّيس غريغوريوس الكبير: "فمَن يحبّ صديقه من خلال الله ويحبّ عدوّه إكرامًا الله يمتلك المَحَبَّة الحقيقيَّة" وأمَّا وصفات المَحَبَّة كما وصفها بولس الرَّسول فمنها ما هو إيجابي وما هو سلبي: "المَحَبَّة تَصبِر، المَحَبَّة تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء "(1 قورنتس 13: 4-7). ولذا يطلب بولس الرَّسول النُّمو فيها: "أطلب إليكم أيها الأخوة أن تزدادوا أكثر" (1تسالونيقى 4: 9)، ويوصي يوحنا الرَّسول "يا بَنِيَّ، لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (1يوحنا 3: 18).
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 15: 9-17)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 15: 9-17)، يمكن الاستنتاج أنَّ يتمحور حول نقطتين: مَحَبَّة المسيح لنا ومحبتنا لبعضنا البعض.
1) مَحَبَّة المسيح لنا:
في لغة العهد القديم، كلمة "أحب" بالعِبريَّة (אָהַבְ) وباليونانيَّة (ἀγαπάω) هي نادرة الاستعمال، ويقتصر استعمالها في العهد الجديد على النِّطاق الدِّيني، وتعني الحُبّ الإيثاري ἀγάπη)) أي غير الأناني. وهي مَحَبَّة الآخر من أجل الآخر دون مصلحة من اجل الذات، هو الحُبّ الّذي لا يُفكّر في نفسه لو منفعته بل يُضحّي في سبيل الآخر. حُبّ الله والقريب، كما يعظ به يسوع، يُجمل كلَّ الشَريعة والأنبياء " فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء " (متى 7 :12).
المسيح جسّد هذا الحُبّ. فبكونه إنسانًا، عاش في حُبّ بنوي مع الله. كرّس نفسه للآب (لوقا 2: 49)، وعاش في جوِّ من الصَّلاة والشُّكر (مرقس 1:35)، خاصة في تتميم الإرادة الإلهيَّة (يوحنا 4:34)، فكان في حالة الإصغاء الدَّائم إلى الله (يوحنا 5: 30)، الأمر الذي يضمن له استجابته دائمًا (يوحنا 11: 41-42). وأحبّ تلاميذه بمَحَبَّة تأسسَّت على مَحَبَّة الآب للابن، كما صرّح " كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضًا" (يوحنا 15: 9). وجعل من تلاميذه أحباءَه، وائتمنهم على أفكاره، ورسالته من بعده "لا أَدعوكم خَدَمًا بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي "(يوحنا 15: 15). وأكثر من ذلك، اختارهم، وأوكل إليهم رسالة خاصة: " لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم " (يوحنا 15: 16). وإلى جانب المَحَبَّة أفعمهم بالفَرَح "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا" (يوحنا 15: 11). إنَّه فَرَح المسيح نفسه يشعُّ في قلوب التَّلاميذ على قدر ما يثبتون به ويحفظون وصاياه. والمَحَبَّة والفَرَح يُميزان وحدة التَّلاميذ الرُّوحيَّة بمعلمهم الإلهي يسوع المسيح.
أمَّا بكونه إلهًا، فأتى يسوع ليعيش حُبَّه في البشر وبينهم. جاء ليعطي حياته كلها، ليس فقط لبعض أحبائه (يوحنا 11: 3)، بل للجميع (مرقس 10: 54). فكان "يمَضى مِن مَكانٍ إلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ جَميعَ الَّذينَ استَولى علَيهم إِبليس" (أعمال الرُّسل 10:38)، عاش في تجرد تام (لوقا 9: 58). وقد اعتنى بالجميع، وخاصة بالمنبوذين والخطأة (لوقا 7: 36-50). واختار من يشاء لكي يجعلهم تلاميذه وأحباءه (يوحنا 15: 10-16).
كشف يسوع على الصَّليب شدَّة حُبِّه وطابعه الدَّرامي بطريقة حاسمة. فكان يجب أن يتألم (لوقا 9: 22) لكي يسطع ببهاء طاعته للآب (فيلبي 2: 8) ومحبته لخاصته: "كانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إلى أَقْصى حُدودِه" (يوحنا 13: 1). واحتمل آلام الصَّليب بملء حريته، كما صرّح: "إنّني أَبذِلُ نفسي بِرِضايَ" (يوحنا 10: 18). وكما احتمل صمت الله الظَّاهري، كما يظهر من صرخته على الصَّليب "إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟" (متى 27: 46)، وقاسى العزلة الإنسانيَّة المطلقة، كما يؤكد مرقس الإنجيلي "تَركوهُ كُلُّهم وهَرَبوا"(مرقس 14: 50). ورغم ذلك كله؟ نراه يصفح ويفتح قلبه للجميع "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34) وهكذا وصل يسوع إلى هذه اللحظة الحاسمة، لحظة الحُبّ الأعظم "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 15:13). وفي هذه اللحظة أعطى يسوع ذاته لله "يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي!" (لوقا 23: 46)، ولجميع النَّاس بدون استثناء، كما جاء في الكتاب المقدس "جادَ بِنَفْسِه فِدًى لِجَميعِ النَّاس" (1 طيموتاوس 2: 5). وتضفي المَحَبَّة على عمل يسوع وعلى آلامه بوجه خاص كل معناها "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعَضُكم بَعْضًا. 35 إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي)"(يوحنا 13: 34-35). وما الأحداث الفِصْحيَّة إلاّ تعبير نهائي لتلك المَحَبَّة المخلِّصة.
نستنتج مما سبق أَّنَّ يسوع بصليبه مجَّد الله تمامًا "إِنِّي قد مَجَّدتُكَ في الأَرض" (يوحنا 17: 4)، وأستحقَ لنفسه وللإنسانيَّة جمعاء أن يكونوا موضوع حُبّ الله بدون حدود "إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي" (يوحنا 10: 17). وهكذا التقى الله والإنسان في الوَحدة، كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتيَّة "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا" (يوحنا 17: 21) مع مراعاة قبول الإنسان طوعًا هذا الحُبّ الكامل بكل مطالبه، وقد يصل به الأمر إلى التَّضحية بحياته على مثال المسيح "أُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضًا مُكَرَّسينَ بِالحَقّ" (يوحنا 17: 19). وقد يجد المرء في طريقه عثرة الصَّليب التي ليست إلا عثرة المَحَبَّة. وعليه يدعو حُبّ المسيح لنا إلى المعاملة بالمثل. ومن هنا جاءت وصيَّة يسوع "وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم".
2) محبتنا لبعضنا البعض:
ترتبط مَحَبَّة القريب ارتباطًا وثيقًا بمَحَبَّة الله (1يوحنا 3 :14-22). وبناء على ذلك فإن مَحَبَّة يسوع لنا تقابلها مَحَبَّة محبَّتنا لبعضنا البعض، لأنَّ محبَّتنا ليسوع تعني المحافظة التَّامة على وصيَّة المَحَبَّة الأخويَّة "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15)، وفي هذا الصَّدد يقول العلامة توما الأكويني " أن مبعث المَحَبَّة، مَحَبَّة الله ومَحَبَّة القريب ومحرّكها الأول إنما هو كمالات الله. نحن نحب الله لأجل كمالاته، ونحب كل ما تتجلَّى فيه كمالاته. وتتجلّى كمالات الله في مخلوقاته، ولا سيما في الإنسان الذي جعله على صورته ومثاله وأقرب المخلوقات إليه تعالى". وهذا ما عبَّر عنه القدِّيس أوغسطينوس عندما قال: " إذا كنت تريد أن تعرف إذا كان فيك روح الله، فاسأل قلبك. فإذا كنت تحب أخاك فكن في اطمئنان، لأنه لا مَحَبَّة حقيقيَّة إذا لم تتوطّد في الله "؛ أمَّا من ادّعى أنه يُحبّ الله، وهو في الواقع، لا يُحبُّ أخاه فهو كاذبٌ، كما صرّح يوحنا الرَّسول " إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه. إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا" (1يوحنا 4: 20-21).
بناء على ذلك، يجب قبل كل شيء أن نمارس المَحَبَّة الأخويّة " وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم" (يوحنا 15 :12)، " لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ " (1يوحنا 3 :18). "المَحَبَّة الأخويَّة هي تمام العمل بالشَريعة" "لأَنَّ تمامَ الشَريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ "(غلاطية 5: 14)، وهي في آخر الأمر، الوصيَّة الوحيدة "وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم. (يوحنا 15: 12)، وهذه الوصيَّة هي العمل الوحيد لكل إيمان حي، كما جاء في قول بولس: "إِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحَبَّة" (غلاطية 5: 6). "ونَعلَمُ أَنَّنا نُحِبُّ أَبناءَ الله إِذا كُنَّا نُحِبُّ الله ونَعمَلُ بِوَصاياه "(1يوحنا 5: 2).
فمن أحبّ المسيح، وجب عليه أن يُحب أتباعه ويحترمهم ويعتني بهم، لأنَّنا نحن أعضاء جسد المسيح السِّري كما صرَّح بولس الرَّسول: "فنَحنُ أَعْضاءُ جَسَدِه" (أفسس 5: 30)؛ ومن احتقر أتباع المسيح احتقر المسيح عينه، كما أعلن يسوع " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 10: 16)، وهذا ما أشار إليه السَّيد المسيح عندما أنّب بولس – شاول يومذاك – على اضطهاده للمسيحيين وكان يتبعهم حتى في دمشق. فقال له: "شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟ " (أعمال الرُّسل 9: 4).
من يُحبُّ المسيح وجب أن يُحبَّ كلَّ النَّاس خاصة الفقراء والجِياع والعِطاش والأسرى والمَنبوذين، كما أعلن يسوع عندما تكلم على الدَّينونة الأخيرة "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه "(متى 25: 40). فالمسيح وإخوته كل النَّاس يؤلفون جسدًا واحدًا، ولأنَّهم كلهم وبدون استثناء مدعوُّون ليؤلّفوا معه جسده السِّري. فالقريب هو طريقنا إلى الله. ومن هذا المنطلق فإنّ كلّ إنسان هو قريبنا، كما علّمنا الرَّبّ يسوع في مثل السَّامري الصَّالح (لوقا 10، وكما نعامله يعاملنا الله الذي قال "فكَما تَدينونَ تُدانون، ويُكالُ لكُم بِما تَكيلون"(متى 7: 2).
طلب يسوع من تلاميذه قبل مغادرتهم أن يتخذوا حُبّه لهم مثالا لحُبّنهم بعضهم بعضا ً"وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم" (يوحنا 15: 12). فمن أول صفحات العهد الجديد إلى آخرها، تظهر المَحَبَّة الأخويَّة غير قابلة للانفصال عن الحُبّ الإلهي: فالوصيّتان هما قمة الشَريعة ومدخلها (مرقس 12: 28-33). لذا يوصينا يوحنا الرَّسول "مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا" (1 يوحنا 4: 21). ومثال المَحَبَّة الأخويَّة هي مَحَبَّة المسيح لنا، وليس مَحَبَّة البشر بعضهم لبعض والتي يتبادل بشري به "أعطيك فتعطيني". هذه المَحَبَّة هي العلامة التي تدل على التِّلميذ، وبدونها لا يدَّعي أحد أنه تلميذ " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 35).
يوصي يسوع جميع أتباعه بان يُحبَّ الواحد منهم الآخر كونهم موضوع محبته التي تصل إلى التَّضحية بالحياة. فقد أحب يسوع تلاميذه، كما أحبَّه الآب (يوحنا 15: 9)، وقدّم حياته لأجلهم، إذ "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه." (يوحنا 15: 13). فعلى تلاميذ المسيح أن يتبعوا معلمهم على طريق التَّضحية بذواتهم وبمَحَبَّة إخوتهم حتى النِّهاية. وتملك مَحَبَّة يسوع القوّة لتحويلنا وتغييرنا بحيث نُصبح مثله؛ وفي هذا الصَّدد يعلق البابا بندكتس "نحن لا نستطيع أنّ نُحبّ كما طلب منّا الرَّبّ يسوع بدون العيش في يسوع. بغير ذلك، سوف نعتمد على مجهوداتنا البشريّة، وسوف نُحبّ بشكل آخر من الحُبّ ولكنّه ليس الحُبّ الإيثاري (حُبّ ἀγάπη ) الخاصّ بالرَّبّ يسوع." حُبّ الآخر من أجل منفعته ومصلحته دون أن نضع نفسنا ومنفعتنا في مقدّمة أهدافنا. بذل يسوع حياته من أجلنا كي يُحرّرنا من الخطيئة والموت ومن كلّ ما قد يحجزنا عن مَحَبَّة الرَّبّ.
بناء على ذلك، فإن مَحَبَّة القريب تتّخذ طابعًا دينيًّا، وهي ليست مجرد مَحَبَّة طبيعيَّة للبشر، فهي دينيَّة بمثلها الأعلى ألا وهو مَحَبَّة الله نفسه "إِذا كانَ اللهُ قد أَحبَّنا هذا الحُبّ فعلَينا نَحنُ أَن يُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا" (1 يوحنا 4: 11-12). ويعلق القدِّيس أوغسطينوس: " أن غاية الذين يُحبُّون بعضهم بعضًا هي حُبّهم لله "ليكونَ اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء (١ قورنتس 15: 28). وهي دينيَّة بالأخص من حيث مصدرها، إذ هي عمل الله فينا: لن يتّسنى لنا أن نكون رحماء مثل الآب السَّماوي "كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6: 36)، ما لم يعلّمنا الرَّبّ "لأَنَّكم تَعلَّمتُم مِنَ اللهِ أَن يُحِبَّ بَعضُكم بَعضًا" (1 تسالونيقي 4: 9)، وما لم يسكب الرُّوح في قلوبنا المَحَبَّة "لأَنَّ مَحَبَّة اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُس الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5).
يلفت الإنجيل المقدس انتباهنا إلى الميزات المَحَبَّة الأخويَّة. فيوضح يوحنا أنَّ المَحَبَّة الأخويَّة يجب أن تعبِّر عن شركة تامة، يلتزم فيها كل واحد منهم بكل ما فيه من طاقات المَحَبَّة والإيمان. يحبَ المسيحي إخوته بمَحَبَّة مضحّية وواقعيّة (1 يوحنا 3: 11-18)، خاضعة لقانون إنكار الذات والموت التي بدونها لا توجد خصوبة حقيقيَّة (يوحنا 12: 24-25). وبواسطة هذه المَحَبَّة، يبقى "المؤمن في شركة مع الله" (1 يوحنا 4: 7). وفي هذه الصَّدد جاءت صلاة يسوع الكهنوتيَّة " لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم" (يوحنا 17: 26). وحيث يحيا التَّلاميذ هذه المَحَبَّة الأخويَّة في العالم (يوحنا 17: 11)، يصبحون بمثابة شهود يتُثبتون للعالم من خلالها يسوع الذي هو المرسل حقًا من الآب (17: 21) "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَف النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا35:13). ويتحقق الثّبات بالحُبّ، والحُبّ بحفظ الوصايا، ووصيَّة السَّيد المسيح هي أن نحُبّ بعضنا بعضًا، فالثّبات في يسوع إنَّما يكون من الحُبّ الذي نحُبّ به بعضنا بعضًا.
يصف لوقا الإنجيلي المَحَبَّة الأخويَّة أنَّها مَحَبَّة شاملة لا تقبل أي حاجز اجتماعي أو عنصري، لا حدود لها على مستوى القرابة والوطن والدِّين، ولا تزدري أحدًا (لوقا 14: 13)، في حين متى الإنجيلي يطالب أن تشمل المَحَبَّة مَحَبَّة الأعداءّ أيضًا (متى 5: 43-47)، وبالمبادرة الطّيّبة نحو الخصم (متى 5: 23-24)، مَحَبَّة لا تعرف اليأس، وتتميز بالصَّفح " بدون حدود (متى 18: 21-22)، بالصَّبر.
يصف القدِّيس بولس المَحَبَّة الأخويَّة أنَّها تقابل الشَر بالخير: "لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير"(رومة 12: 21)، "فالمَحَبَّة لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحَبَّة إِذًا كَمالُ الشَّريعة " (رومة 13: 10). فمَحَبَّة القريب هي ملخّص الشَريعة (رومة 13 :8). وفي الزواج تتّخذ المَحَبَّة شكل الهبة الكاملة، على مثال ذبيحة المسيح (أفسس 5: 25-32). وهي للجميع خدمة متبادلة (غلاطية 5: 13)، ينكر فيه المرء ذاته مع المسيح المصلوب (فيلبي 3: 1-11). وفي نشيده للمَحَبَّة (1 قورنتس 13)، يوضِّح بولس طبيعة المَحَبَّة وعظمتها. رغم انه لا يهمل أيًا من التزامات المَحَبَّة اليوميّة (1 قورنتس13: 4-6)، يؤكّد أن لا شيء له قيمة بدون المَحَبَّة (1 قورنتس 13: 4-6)، كما أحب المسيح، وتجعل الإنسان كاملًا في يوم الرَّبّ (فيلبي 1: 9-11).
يصف القدِّيس يعقوب المَحَبَّة أنَّها هي جوهر الشَريعة. (يعقوب 2 :8-9) كما ورد في رسائل بولس الرَّسول (رومة 13 :8). ويصل الحُبّ إلى الجميع دون اعتبار الأشخاص، وهذا الحُبّ نعبّر عنه بأعمال المَحَبَّة (يعقوب 2 :1-16) ولا سيّما تجاه الفقراء الذين اختارهم الله واعدًا إياهم بالخلاص للذين يحبّونه (يعقوب 2 :5-6).
الخلاصة
يكشف السَّيد المسيح أنَّ أساس كلِّ عملٍ إلهي هو "الحُبّ" الذي بين الآب والابن، إذ يحدِّثنا عن مَحَبَّة الآب له ومحبته للآب ومَحَبَّة المسيح لنا ومحبتنا له والثّبات فيها. فيسوع يُحبنا بلا حدود. ويوضح أن مَحَبَّة الله لنا لا تقوم على عاطفة مؤقتة، لكنها ثمرة حُبّ إلهي بين الآب والابن.
يطلب يسوع من أتباعه أن يلزموا الحُبّ من جانبهم. فكما أنَّه لا يجد ما يوقف قط حُبّ الله لنا، كذلك يلزمنا أن نحمل ذات السِّمة في حُبِّنا له. هذا ما يطلبه السَّيد المسيح لأجلنا ف صلاته الكهنوتية: " لِتَكونَ فيهمِ المَحَبَّة الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم" (يوحنا 17: 26). ويعلق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: " أحبَّنا يسوع ونحن أعداؤه، فلنُحبُّه على الأقل بكونِه صديقنا".
يطلب يسوع من أتباعه الاستقرار في محبَّته، علمًا أنَّ الاستقرار فيه لا يمت بصلة إلى قدراتنا البشريَّة، بل إلى آفاق رحمة الرَّبّ، الذي جعلنا خاصّته ودعانا أحبائه حتى في هروبنا وإخفاقاتنا وفشلنا وتخلّفنا وخطايانا. ولن تكون خطايانا هي الّتي تمنعنا من البقاء، والاستقرار في محبَّته بل ادعاءاتنا بأنّنا لسنا خطأة حيث أنَّ الاستقرار في مَحَبَّة الرَّبّ يعني العيش في رحمته التي تفيض علينا نعمَه وغُفرانه.
بادر الله وأنشأ حوار مَحَبَّة معٍ البشر خاصة بواسطة المسيح. وباسم هذه المَحَبَّة، يدعو يسوع المؤمنين أن يُحبُّوا بعضهم بعضًا ويعلمهم كيف تكون هذه المَحَبَّة. ويمزج السَّيد المسيح الحُبّ لله بالحُبّ للإخوة مقدمًا نفسه مثالًا لنا، إذ أحبَّنا وبذل ذاته عنَّا، ودعانا أحبَّاء وكشف لنا أسراره واختارنا، وأقامنا لخدمته، وأعطانا نعمة لكي تُقبل طلباتنا باسمه لدى الآب. هذا كله نردُّه له بحبِّنا لإخوتنا.
دعاء
أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع ابنك، أن تنمحنا روح محبَّتك كي نُحب بعضنا البعض ونُحبّ الآخرين خاصة الفقراء والمنبوذين، ونبذل نفوسنا من أجلهم، كما بذل ابنك يسوع نفسه من أجلنا فنكون خير شهود ٍعلى محبَّته لنا، وننعم بفَرَح المسيح الذي له كلَّ إكرام ٍ ومجدٍ. أمين.
صلاة القدِّيس أغناطيوس من لويولا
"علّمنا، أيّها الرَّبّ الصَّالح، أن نخدمك كما يليق،
وأن نعطي، دون حساب التَّكاليف،
وأن نجاهد، دون الالتفات إلى الجروح،
وأن نكدّ، دون أن نبحث عن الرَّاحة،
وأن نعمل بجدّ، دون أن ننتظر المكافأة، سوى معرفة أنّنا نتمّم مشيئتك؛ بربّنا يسوع المسيح".
قصة الدَّائرة ومَحَبَّة الله ومَحَبَّة القريب
كلّما كنّا متحّدين مع القريب، كلّما ازداد اتّحادنا بالله. كي تفهموا معنى تلك الكلمة، سوف أعطيكم صورةً مأخوذةً من الآباء: تخيّلوا دائرةً مرسومةً على الأرض، أي خطًّا مرسومًا بشكل دائري بواسطة البيكار ونقطة مركز الدّائرة. إنّ نقطة المركز هي بالتَّحديد وسط تلك الدّائرة. تخيّلوا أنّ هذه الدّائرة هي العالم، ونقطة المركز هي الله، والأشعّة هي طرق أو أساليب العيش المختلفة للبشر. حين يرغب القدِّيسون في الاقتراب من الله، يسيرون نحو وسَط الدَّائرة؛ وبقدر ما يتوجّهون إلى الدَّاخل، فإنّهم يقتربون الواحد من الآخر وفي الوقت نفسه من الله. كلّما اقتربوا من الله، كلّما اقتربوا الواحد من الآخر؛ وكلّما اقتربوا الواحد من الآخر، كلّما اقتربوا من الله.
أنتم تدركون أنّ الأمر سيّان في الاتّجاه المعاكس، حين نتحوّل عن الله لننسحب نحو الخارج: وبالتَّالي، يصبح بديهيًّا أنّه كلّما ابتعدنا عن الله، كلّما ابتعدنا الواحد عن الآخر؛ وكلّما ابتعدنا الواحد عن الآخر، كلّما ابتعدنا عن الله.
تلك هي طبيعة المَحَبَّة. بقدر ما نكون في الخارج وبعيدين عن مَحَبَّة الله، بالقدر نفسه يكون كلّ واحد بعيدًا عن الآخر. لكن إن كنّا نحبّ الله، فبقدر ما نقترب منه بمحبّتنا له، بقدر ما نتشارك في مَحَبَّة القريب؛ وبقدر ما نكون متّحدين مع القريب، بقدر ما نكون متّحدين بالله. (وروثاوس الغزّاوي، راهب في فلسطين نحو 500 التَّعليمات، 6: 76-78).