موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

الأحد السّادس من زمن الفصح الْمجيد – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿مَنْ أَحَبَّ اللهَ فَلْيُحِبَّ أَخَاهُ أَيضًا﴾ (1يوحنّا 21:4)

 

 

إِنَّ الْمَحَبَّةَ الّتي يُوصِينَا بِهَا السَّيدُ الْمَسيح، قَائِلًا: ﴿أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا كَمَا أَحبَبتُكم﴾ (يو 12:15)، هيَ أَعظَمُ الفَضَائِلِ وأَسمَاهَا، وهيَ مِنْ أَصعَبِهَا عَيشًا ومُمارَسَة! لِأنَّ الْمِثَالَ الّذي أَعطَاهُ الْمَسيحُ لَنَا بِذَاتِه، وقَدَّمَهُ لَنَا مِنْ خِلالِ تَعَالِيمِهِ وفِعَالِه، لَهوَ مِثَالٌ رَفيعٌ وجَلِيلٌ جِدًّا، صَعبُ البُلُوغِ والْمَنَال!

 

فَالعَلاقَاتُ الّتي تَجمَعُنَا غَالِبًا نَحنُ البَشَر، والّتي نَعتَقِدُ أَنَّها مَحبَّة، هي لَيسَتْ سِوَى مَنَافِعَ مُتَبَادَلَة، ومَصَالِحَ مُشتَرَكَة، ونَزَوَاتٍ ورَغَبَاتٍ آَنِيَّة، ومَشَاعِرَ مُؤَقَّتَة تَحكُمُهَا الظُّروف، قَابِلةٌ لِلتَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ والزَّوَال! أَمَّا الْمَحبَّةُ الحَقيقِيَّة، فَلا تَمحُوهَا تَبَدَّلُ الوَقَائِع، ولا تُلاشِيهَا كَثرَةُ الخِيَانَات، ولا تَسُوقُهَا رِياحُ الْمَصالِح، ولا تَحكُمُهَا الأطمَاعُ والنَّزَوَات، ولا تُسْقِطُهَا الشُّرورُ النَّابِيَات. ذَلِكَ لِأنَّهَا مَحبَّةٌ نَابِعَةٌ مِنَ اللهِ الصَّادِق، نَبْعِ الْمَحَبَّةِ الصَّافيةِ الزُّلَال.

 

هَذهِ الْمَحبَّةُ الّتي يَهَبُنَا اللهُ إيَّاهَا: ﴿لا تَسقُطُ أَبدًا﴾ (1قورنتوس 8:13)، إنَّمَا هي بَاقِيةٌ دُونَ زَوَال. هيَ مَحبَّةٌ غَفُورَة، تَغفِرُ لِمَنْ آَلَمُونَا وأَسَاؤُوا إِلينَا، خِفْيَةً أَو عَلَنًا، وقَابَلُوا الْمَوَدَّةَ والإِحسَانَ يَومًا بالنُّكرَانِ والجُحُود! هيَ مَحبَّةٌ رَحِيمَة، تُعَاتِبُ بِلينٍ، ثُمَّ تَتَجَاوَزُ وتَصفَح، ولا تَحفَظُ وتَخْزُن، بَلْ تَمضِي بِسَلام. هيَ مَحبَّةٌ حَلِيمَةٌ طَويلَةُ الأَنَاة، تَتَحَمَّلُ كَثيرًا وتَصبِرُ كَثيرًا، وتَنتَظِرُ الخَيرَ والْمَعرُوفَ أَنْ يُثمِرَ في النُّفُوس. هي مَحبَّةٌ مُمزَّقَة، يَرَاهَا النَّاسُ طَيّبَةً مِعْطَاءَة، فَيَسعُونَ لاستِغلالِهَا بِشَرَاهَة، والرِّضَاعَةِ بِنَهَمٍ مِنْ خَيرِهَا، ثُمَّ ذَمِّهَا والإِسَاءَةِ إِلَيهَا بَعدَ الاكتِفَاء، أو عِندَمَا تَصيرُ خَالِيَةَ الوِفَاض، لَمْ يَبْقَى لَدَيهَا شَيءٌ تُعطيهِ لَهُم!

 

يَا أَحِبَّة، إِنَّ الْمَحَبَّةَ الّتي يُوصِينَا الرَّبُّ بِهَا، لَيسَتْ كُتلَةَ مَشَاعِرٍ وعَواطِفَ مُتَقلِّبَة مَزَاجِيَّة مُتَأَرجِحَة، بَل هي سُلُوكٌ ونَهجُ حَيَاة، أَحيَانًا كَثيرة يُخالِفُ مَا تَدْفَعُنَا إِلَيهِ طَبِيعَتُنَا البَشَريَّة! فَالْمَحبَّةَ تُوصِيكَ بِأَنْ تَرحَمَ وتَغفِر، عِندَمَا تَدفَعُكَ طَبيعَتُكَ البَشَريَّةُ لِأنْ تَنتَقِمَ وتَثْأَر! الْمَحبَّةُ تُوصِيكَ بِأَنْ تَتَحَمَّلَ وتَصبِر، بَينَمَا طَبيعَتُكَ البَشَريَّة تَدفَعُكَ لِأنْ تَثُورَ وتَنْفَجِر! الْمَحبَّةُ تُوصِيكَ بِأَنْ تَتَجَاوَزَ وتَصْفُو، وطَبيعَتُكَ البَشَريَّةُ تَدفَعُكَ لِأنْ تَحقِدَ وتَقْسُو! الْمَحبَّةُ تُوصِيكَ بِأَنْ تَتَمَنَّى الخَيرَ لِلنَّاس كَمَا تَتَمَنَّاهُ لِنَفسِكَ وبَيتِك، أَمَّا طَبيعَتُكَ البَشَريَّةُ فَتَدفَعُكَ لِأنْ تَطلُبَ الشَّرَّ والبُؤسَ لَهم. وإِذَا رَأَيتَ الخَيرَ قَدْ وَلَّى وَجهَهُ شَطرَهُم، تَشتَعِلُ غَضَبًا وغَيرَةً حَتّى تَكَادُ تَنْصَهِرُ سُخطًا ونَقمَة!

 

الْمَحبَّةُ تُوصِيكَ بِأَنْ تُحسِنَ وتُعطِي، وأَنتَ أَحيَانًا في أَمَسِّ الحَاجَة، بَينَمَا طَبيعَتُكَ البَشَريَّةُ تَدفَعُكَ لِتَنهَبَ وتَأخُذ، وأَنتَ لا تَنقُصُكَ حَاجَة! الْمَحبَّةُ تَجعَلُكَ تَرَى اللهَ في أَخِيكَ الإنْسَان، أَمَّا طَبيعَتُكَ البَشَريَّةُ فَتَشحَنُكَ بِمشَاعِرِ الكَبرِيَاءِ والحَسَدِ والعَدَاوَةِ! الْمَحَبَّةُ باختِصَارٍ هيَ الفَضيلَةُ الّتي تَجعَلُ الإنسَانَ إِنْسَانًا مَخلُوقًا عَلَى صُورةِ اللهِ كَمِثَالِه. وغِيَابُها يُجَرِّدُ الإنْسَانَ مِنْ إِنْسَانِيّتِه، فَيغدُو مَخلُوقًا بَشِعًا قَبيحًا مُتَوحِّشًا.

 

الْمَحبَّةُ هيَ زُبدَةُ تَعليمِ السَّيدِ الْمَسيح، وخُلاصَةُ عَمَلِ الفِدَاء، إذْ: ﴿إِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَمَ، حتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابنِهِ الوَحِيد، لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بَل تَكونَ لَهُ الحَيَاةُ الأَبدِيَّة﴾ (يو 16:3). الْمَحبَّةُ وَحدَهَا قَادِرَةٌ أنْ تُبَارِكَ كُلَّ حِين: ﴿أَحِبُّوا أَعدَاءَكُم وصَلُّوا مِنْ أَجلِ مُضطَهِديكُم﴾ (متّى 44:5). مَحَبَّتُنَا للهِ لا تَسْتَقِيمُ إلّا بِمحبَّةِ القَريب! وعَليِه، يُنَبِّهُنَا القِدّيسُ يُوحَنَّا مِن "ادِّعَاءِ مَحبِّةِ اللهِ كَذِبًا"، فَيَقُول: ﴿إِذَا قَالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله))، وهو يُبغِضُ أَخَاهُ، كانَ كَاذِبًا! لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخَاهُ وهوَ يَراه، لا يَستَطيعُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَرَاه﴾ (1يو 20:4).

 

الْمَحَبَّةُ هي الْمَعزُوفَةُ الّتي وَجَبَ أَنْ يُتقِنَهَا كُلُّ تِلمِيذٍ تَتَلمَذَ لِلمَسيح. الْمَحَبَّةُ هي الْمِعيارُ الّذي يُحَدِّدُ صِدقَ اتِّبَاعِكَ لِلمَسيح. الْمَحبَّةُ هي العَطِيَّةُ الْمَجَّانِيَّةُ الّتي تُعطِي مِنْ ذَاتِها ولا تَنْقُص، وتَهَبُ دُونَ حِسَابٍ، ولا تَنْتَظِرُ عِوَضًا أو مُقَابِلًا. الْمَحَبَّةُ هي الوصِيَّةُ الّتي أَعطَانَا الرَّبُّ إيّاهَا في أَثنَاءِ العَشَاءِ الأخير، بَعدَ أَنْ غَسَل أَرجُلَ تَلامِيذِه "جَاعِلًا مِنْ ذَاتِهِ لَنَا قُدوَة"، وجَعَلَ مِنهَا عَلامَةً عَلَى صِدقِ شَهَادَتِنَا لَهُ وإِيمانِنَا بِه، قَائِلًا: ﴿أُعْطيكُمْ وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا. كَمَا أَحبَبتُكم، أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعَضُكم بَعْضاً. إِذَا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلامِيذِي﴾ (يو 34:13-35).