موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يشهد العالم في العقود الأخيرة تحوّلات متسارعة وغير مسبوقة، تمثّلت في التطوّر الهائل للتكنولوجيا وانتشار الثقافة الرقمية، وهي تحوّلات أحدثت أثرًا عميقًا في بنية المجتمعات، وأنماط العيش، وطبيعة الأجيال الصاعدة على حدّ سواء. وفي قلب هذه المتغيّرات، يبرز جيلان رئيسيان لهما أثر بالغ في رسم ملامح المستقبل، هما جيل زي وجيل ألفا، اللذان نشآ في واقع يختلف جذريًا عمّا عرفته الأجيال السابقة، حتى بات حضورهما يفرض إعادة نظر شاملة في الأدوار التربوية داخل المدرسة المعاصرة.
يُعرَف جيل زي بأنه الجيل المولود بين منتصف تسعينيات القرن الماضي وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وقد نشأ هذا الجيل في كنف ثورة رقمية غيّرت مفاهيم التواصل والعمل والتعلّم، فغدت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من يومياته، وارتبطت ممارساته المعرفية بالوصول السريع إلى المعلومات، وتحليلها، ومساءلتها. كما أسهم انفتاحه الواسع على ثقافات متعدّدة عبر الفضاء الرقمي في تعزيز وعيه بذاته، ودفعه إلى البحث عن هوية شخصية مستقلّة، فضلًا عن ميله إلى أساليب عمل مرنة تقوم على الإبداع والريادة.
أمّا جيل ألفا، المولود ابتداءً من عام 2010، فهو الجيل الأكثر التصاقًا بالتكنولوجيا منذ نعومة أظفاره. يعيش هذا الجيل في عالم تتداخل فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي، والواقع المعزّز، والتطبيقات الذكية، ويتميّز بسرعة التعلّم، وبقدرة فطرية على استخدام الوسائط الرقمية بوصفها امتدادًا طبيعيًا لحياته اليومية. كما ينجذب إلى المحتوى التفاعلي والألعاب التعليمية، ويُظهر وعيًا مبكرًا بالقضايا البيئية والإنسانية، نتيجة انفتاحه المستمر على العالم.
وعلى الرغم ممّا تحمله هذه الخصائص من إمكانات واعدة، فإنها تفرض في المقابل تحدّيات تربوية حقيقية على المدارس والمعلمين والإدارات التعليمية. فقد برزت ظاهرة الإدمان الرقمي بما تحمله من ضعف في التركيز، وتشتّت في الانتباه، وصعوبة في إدارة الوقت أمام سيل لا ينقطع من المحتوى الرقمي. كما غدت العلاقات الإنسانية المباشرة داخل المدرسة أكثر هشاشة، نتيجة الارتباط المفرط بالأجهزة الذكية، الأمر الذي انعكس سلبًا على مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي.
وتتزايد في الوقت ذاته توقّعات الطلاب من المعلّم والإدارة التعليمية؛ إذ لم يعد الطالب يرضى بالأسلوب التقليدي القائم على التلقين، بل بات يبحث عن بيئة تعليمية تشبه عالمه الرقمي، وتقدّم له محتوى تفاعليًا يوقظ فضوله، ويمنحه مساحة للتعلّم الذاتي والاستقلالية. ومن هنا، غدا تطوير مهارات الكادر التعليمي ضرورة ملحّة لا مجال لتأجيلها.
وفي خضمّ هذه التحوّلات، يُعاد تشكيل دور المعلّم بصورة جذرية؛ فلم يعد ناقلًا للمعرفة فحسب، بل ميسّرًا للتعلّم، وصانعًا للخبرة التعليمية، وقادرًا على المزج بين النظرية والتطبيق، وبين العالم الرقمي والواقع الإنساني داخل الصف. ويُنتظر منه أن يوظّف التكنولوجيا أداةً لتعميق التفكير النقدي وتعزيز المشاركة، لا أن يجعلها بديلًا عن دوره التربوي. وفي هذا السياق، تبرز أهمية استراتيجيات حديثة مثل التعلّم القائم على المشروعات، والتعليم المدمج، والتقويم المستمر الذي يركّز على نمو الطالب وتقدّمه.
أمّا الإدارة المدرسية، فقد أصبحت شريكًا أساسيًا في هذا التحوّل، إذ يقع على عاتقها توفير بيئة تعليمية آمنة ومواكِبة للعصر، وبناء بنية تحتية رقمية متطوّرة، وتقديم برامج تدريب جادّة للمعلمين، فضلًا عن تطوير قنوات تواصل فعّالة مع الطلاب وأولياء الأمور. كما تُناط بها مسؤولية ترسيخ ثقافة مدرسية تشجّع على الابتكار، وتحتضن المواهب، وتدعم التعلّم الذاتي في إطار تربوي مسؤول.
إن فهم خصائص جيلي زي وألفا لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة تربوية ملحّة لتطوير منظومة تعليمية قادرة على إعداد إنسان المستقبل. فهذان الجيلان يعكسان تحوّلًا حضاريًا عميقًا يعيد صياغة علاقة الإنسان بالمعرفة وبالتكنولوجيا وبالمجتمع. وكلّما أحسنت المدرسة قراءة هذه التحوّلات، والاستجابة لها بوعي ومرونة، استطاعت أن تحوّل التحدّيات إلى فرص.
وقد عبّر جون ديوي عن هذه الحقيقة بقوله: "إذا علّمنا أبناءنا اليوم بالطريقة نفسها التي عُلّمنا بها أمس، فإننا نسرق منهم الغد". كما يحذّر مارشال ماكلوهان بقوله:«نحن نصنع أدواتنا، ثم تعود أدواتنا فتصنعنا"، في إشارة إلى خطورة التعامل مع التكنولوجيا دون وعي تربوي وأخلاقي.
وبذلك يصبح التعليم في عصر الأجيال الرقمية مشروعًا إنسانيًا متكاملًا، يهدف إلى بناء إنسان لا تهيمن عليه التكنولوجيا، بل يوظّفها بحكمة، ويجمع بين المعرفة والقيم، وبين الإبداع والمسؤولية، سائرًا بثقة نحو مستقبل أكثر وعيًا وإنسانية.