موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣

إِنَّمَا يَحصُدُ الإنسَانُ مَا زَرَع

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿إِنَّمَا يَحصُدُ الإنسَانُ مَا زَرَع﴾ (غلا 7:6)

﴿إِنَّمَا يَحصُدُ الإنسَانُ مَا زَرَع﴾ (غلا 7:6)

 

عظة الأحد الثّالِث والثّلاثون من زمن السّنة-أ

 

﴿اِحْمَدوا الرَّبَّ لِأنَّهُ صالِحٌ، لِأنَّ لِلأبَدِ رَحمَتَهُ﴾. هَكَذا يَطلُبُ مِنَّا صَاحِبُ الْمَزاميِر، في الْمَزمورِ الثَّامِنِ عَشَر بَعدَ الْمِئَة. فَاللهُ الصَّالِحُ ونَبْعُ الصَّالِحَاتِ ومُفيضُ النِّعَم، وَهَبَ إِحْسَانَاتِهِ ومَنَحَ هِباتِهِ لِبَني البَشَر. وفي هَذَا الشَّأنِ يَكتُبُ الرَّسُولُ يعقوبُ قائِلًا: ﴿كُلُّ عَطيَّةٍ صَالِحَة، وكُلُّ هِبَةٍ كَامِلَة، تَنزِلُ مِنْ عَلُ، مِنْ عِندِ أَبِي الأنْوَار﴾ (يع 17:1). وأَرَادَهُم تَعالَى، أَنْ يَكُونُوا صَالِحين كَمَا أَنَّهُ هُوَ صَالِح، وأنْ يُسَخِّروا مَواهِبَهم في خِدمَةِ بعضِهم البَعض، وأَنْ يَسْعُوا وَرَاءَ الخَيرِ ويَنْمُوا فِيه. وهُنا يُخاطِبُنا بُولسُ الرَّسولُ في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ غَلاطية قَائِلًا: ﴿فَلْنَعمَلِ الخَيرَ ولا نَمِل﴾ (غلا 9:6).

 

ولَكِن، كَمَا نَرَى مِنْ خِلالِ "مَثلِ الوَزناتِ"، الَّذي ضَرَبَهُ يَسوعُ في إنجيلِ هَذَا الأحَد، هُناكَ فِئةُ النُّشَطاءِ الفَاعِلين، الَّذينَ اسْتَثمَرَوا في نِعَمِ اللهِ ونَمُوا فِيهَا. وهُناكَ فِئةُ الكَسَالَى الْمُتَقاعِسين، مَنْ وَأَدُوا النِّعمَةَ وأَهمَلوهَا. وعَلَيه، كَمَثَلِ العَذَارَى الحَكيمَاتِ والجَاهِلات، نَالَ كُلُّ وَاحِدٍ الجَزاءَ الّذي يَستَحِق! فَالْمُجتَهِدونَ الأُمَنَاء نَالوا الثَّنَاء، والخامِلونَ الأشقِياء حَصَدوا الازدِرَاء. وكَمَا كَتَبَ بُولسُ قَائِلًا: ﴿إِنَّمَا يَحصُدُ الإنسَانُ مَا زَرَع. فَمَنْ زَرَعَ لِجَسَدِهِ، حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَسَاد. ومَنْ زَرَعَ لِلرُّوحِ، حَصَدَ مِنَ الرُّوحِ الحَياةَ الأبديَّة﴾ (غلا 7:6-8).

 

أَيُّها الأحِبّة، يُنَاشِدُنا القِدّيسُ بُولسُ، في رِسالتِهِ الأولَى إلى أَهلِ تَسَالُونيقي، قَائِلاً: ﴿لا تُخمِدوا الرّوح﴾ (1تسا 19:5). وَعنْ أَيِّ رُوحٍ يَتَحدَّث؟ عَن رُوحِ اللهِ القُدُس، الّذي أُفيضَ فِينَا بالْمَعموديّة، فَهُوَ أَعظَمُ وَزَنَةٍ وأثمَنُ هِبَةٍ وَهَبَنَا اللهُ إِيَّاها، إذْ يُعطينَا ذاتَهُ! هَذَا الرُّوحُ الصَّالِح يَجعَلُنَا أَبناءَ الله، لِكَي نَحيَا حَيَاةَ أَبناءِ اللهِ الصّالِحين، في الفَضيلَةِ والقَدَاسَة، في الْمَحَبَّةِ والوَدَاعَة، في البِرِّ والتّقوَى، جَميعَ أَيّامِ حَيَاتِنَا (راجِع لُوقا 74:1-75).

 

ولكِن، هُناكَ دَومًا مَنْ يُخمِدُ الرُّوح، مَنْ يَدفِنُ هَذهِ الوَزْنَةَ النَّفيِسَة، في حُفرَةِ الإهمالِ والفُتُورِ والتَّقصير. في أُسلُوبِ حَياةٍ يَكادُ يَخلو مِنْ حُضورِ الله! ونَتَيجَةُ هَذَا النِّسيَانِ والكَسَل، هيَ: ﴿ذَلِكَ العَبدُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلْقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانيَّة. فَهُناكَ البُكَاءُ وصَريفُ الأسنَان﴾ (متّى 30:25).

 

مِنْ نَاحِيَةٍ أُخرَى، لا بُدَّ لَنَا مِنَ الإشارَةِ إلى أَنَّ اللهَ عِندَمَا يَمنَحُ الهِباتِ لِلنّاسِ حَتَّى "يُتَاجِرُوا بِها"، فَإنَّهُ يَطلُبُ مِنهُم ذَلِكَ بِروحِ التَّواضُع! ﴿تَتَلْمَذوا لِي، فَإنّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلب﴾ (متّى 29:11). ذلِكَ أنَّ هُناكَ مَنْ وَهَبَهُمُ اللهُ وَزنَاتٍ مُعَيّنَة، ولَكِنَّهُم "يُتاجِرونَ بِها" بِرُوحِ الزَّهوِ والغُرور، وحُبِّ الانتِفاخِ والظُّهور! وهُنَا تَكونُ تِجارَتُكَ فَاسِدَة، لا يَرضَى اللهُ عَنهَا، لأنَّكَ بِبَسَاطَةٍ "مُتَكَبِّر"، والْمُتكبِّرُ لا يَسكُنُ اللهُ فِيهِ ولا يَعمَل. وهُنَا كَتَبَ الرَّسولُ بُولسُ في الرَّسالةِ إلى أهلِ فِيلبّي، قَائِلًا: ﴿لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ الْمُنَافَسَةِ أو العُجْبِ﴾ (في 3:2).

 

يا أحِبّة، لا يُوجَدُ إِنسَانٌ حَازَ كُلَّ شَيء، أو هوَ الأفضَلُ والأوَّلُ والأكْمَلُ في كُلِّ شَيء. نحنُ أَعضَاءٌ في جَسدِ الْمَسيح، ولِكُلٍّ قِيمَتُهُ ودَورُه. فَلَسنَا كُلُّنا عَين، ولا كُلُّنا أُذُن، ولا كُلُّنا لِسَان، بَل جَميعُنا عَلَى تَنوُّعِنا وتَعَدُّدِنَا، نَبنِي بَعضُنا ونُكمِّلُ بَعضُنَا بعضًا. فَيَا لَيتَنا نَتَّعِظُ بهذَا الكَلام، ونَكُفُّ عَنِ الكَبرياءِ والادِّعَاء، ونَتَحلّى بالتَّواضُعِ في تَعَامُلِنَا مَعْ بَعضِنَا البَعض. لِأنَّهُ إنْ كَانَت الوَزنَاتُ الّتي وَهَبَها اللهُ لِلبَعضِ جَميلَةً وثَمينة، إلّا أنَّها تُصبِحُ بَشِعَةً وبلا قيمة، عِندَمَا تَتَحوَّلُ وَسيلَةً لإبراز "الأنا"، واحتِقَارِ الآخرين، والاسْتِعلاءِ عَلَيهِم وإِقصَائِهَم. وهَذَا أَيضًا نَوعٌ مِن دَفن الوَزَنَات، لأنَّك تُقصِي الله، عِندَمَا تَسعَى لِأَنْ تَبرُزَ أَنت!

 

وَصَدِّقني يا صَدِيقي، إنْ كُنتَ جَيِّدًا في صُنعِ أَمرٍ مَا، فَاشْكُرِ اللهَ عَلَى ذَلِك، واصْنَعهُ بِروُحِ الخِدمَةِ والتَّواضُع، لا بِكبرياءٍ وعَجرَفة. لِأنَّهُ قَدْ يَأتي فَجأَةً، مِن حَيثُ لا تَدري، مَنْ هوَ أَفضلُ وأَمهَرُ مِنك، وعِندَها يَظْهَرُ مِقدَارُ نَقصِكَ وعَجْزِك، فَتَخزَى.

 

أَخيرًا، لَو فَكَّرنَا بالسّببِ الَّذي دَفعَ العَبدَ لِأنْ يدفِنَ وَزْنَةَ سَيِّدِه، مَعْ أَنَّ قِيمَتَهَا كَبيرةٌ جِدًّا، لَاسْتَنتَجنَا عِدّةَ أَسبَاب. أَمَّا أَنَا فَأرَى السَّببَ وَرَاءَ فِعلَتِهِ هَذِه، هو الحَسَدُ والشُّعورُ بالنَّقصِ والغَضب. فَهذَا العَبدُ شَعرَ وكَأَنَّ سيّدَهُ قَدْ ظَلَمَه، بِأَنْ أَعطَاهُ وَزْنَةً واحِدَةً فَقَط، بالتَّالي اتَّخَذَ رَدَّة فِعلٍ نَاقِمَةٍ وانتِقَاميّةٍ، تُجَاهَ سِيِّدِهِ وتجاهَ زُمَلائِه.

 

وهَذا ما يَحدُثُ مَع كَثيرين، مِمَّنْ نَالوا مِنَ اللهِ هِبَاتٍ ونِعَم، لِكنّهم جَاحِدونَ لا يَشكُرون، طَمَّاعونَ لا يَشبَعون، جَشِعون لا يَكتفون، عُيونُهم دَومًا عَلَى الخَيرِ الّذي عِندَ غَيرِهم. تَعَامَلتُ مَعْ أُناسٍ، بالرّغمِ مِنْ ظُروفِهم البَسيطَة وأحيانًا الْمُتَرَدِّيَة، إلّا أَنّهم كَانُوا أَغنياءً بالفَضيلَةِ وعِزَّةِ النَّفس، يَعرِفُونَ "شُكرَ الله". وتَعَامَلتُ مع أُناس، أَشبُهُ بالنَّار، يُريدونُ ابْتِلاعَ كُلِّ شَيء، وبالرّغمِ مِن ظُروفِهم الجيّدة، إلّا أنّهم دَائِمُو التَّشَكِّي والنَّميمَةِ عَلَى غَيرِهم، لا يَعرِفونَ "حَمدَ الله". وهَذهِ خَطيئةٌ كُبرى تحتَاجُ لِعلاجٍ رُوحِيٍّ وأحيانًا نَفسي.

 

فَإنْ أَردنَا أَنْ نَتَعَلَّم شَيئًا مِن مَثلِ هَذَا الأحد، فَلْنَتَعَلَّم "فَضيلَةَ القَنَاعةِ والشُّكر"، ولْنَكُفَّ عَنِ كَثرَةِ التَّذَمُّرِ ونُكرانِ الجَميل، والسُّخطِ عَلَى اللهِ والنَّاس، ولْنُتَاجِر بِما وَهبنَا اللهُ وأَعْطَانَا.