موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الثّامِن والعشرين من زمن السّنة - أ
في سِفرِ الرُّؤيا، يَطلُبُ الْمَلاكُ إلى القِدّيسِ يُوحنَّا، أن يَكتُبَ قَائِلًا: ﴿طُوبَى لِلمَدعُوِّينَ إلى وَليمةِ عُرسِ الحَمَل﴾ (رؤ 9:19). وفي كُلِّ ذَبيحَةِ قُدَّاس، نَجثو أَمَامَ الْمَسيحِ الْمَاثلِ أَمَامَنَا في سِرِّ القُربانِ الأقدَس، مُعرِبينَ عَنْ إيمانِنَا بحقيقةِ وُجودِه، بِلسَانِ الكَاهِن، حِينَ يَقول: ((هُوذَا حَملُ الله، هُوذَا الحامِلُ خَطَايا العَالم، طُوبَى للمَدعُوّينَ إلى وَليمَةِ الحَمَل)).
فَلِلوَليمَةِ يا أَحِبُّةُ مَعنَيان. الْمَعنى الأوَّل هوَ القَريبُ الْمُباشِر، أي الوليمَةُ الإفخارستِيَّة، جَسدُ ودمُ الْمَسيحِ الأقدَسَين! فَالقُدَّاسُ الإلهيّ هوَ دَعوةُ الْمَسيحِ لَنَا، للاشتراكِ في وَليمتِهِ الَّتي يُعِدُّهَا لَنَا، ويُعطِينَا إيّاها في القُربانِ الأقدَس. والْمَعنى الثَّاني هو الْمعنَى الأُخرَوي الّذي نَحياهُ اليومَ بالرَّجاء إلى أنْ يَتَحَقَّق، مُؤمنينَ بِوَعدِ الْمَسيحِ لَنا: ﴿إنّي ذَاهِبٌ لِأُعِدَّ لَكُم مُقَامًا... لِتَكونوا أنتُم أَيضًا حَيثُ أَنا أَكون﴾ (يوحنّا 2:14-3).
ومِنَ الْمُتَعَارَفِ عَلَيه، أَنَّهُ إذا دُعيتَ إلى وَلِيمَة، فَإنَّك تَقومُ بِإعدَادِ نَفسِك إعدادًا جَيّدًا ولائِقًا، لابِسًا أفضَلَ حُلَّةٍ لَدَيك، إكرامًا لِمَن أَكرمَكَ فَدَعَاك. فَكيفَ يكونُ الأمر عِندَمَا يَكونُ اللهُ الّذي يَدعُوك؟ وكيفَ يكونُ الأمر وقدْ دَعاكَ إلى وليمَةٍ عَظيمَة، لَيسَت ذات طابِعٍ دُنْيويّ، بَل هيَ وَليمَةٌ سَماويّةٌ سَامِيةٌ بِلا حُدود؟! فَاللهُ يَدعوكَ لأنْ تأكُلَ مِنَ: ﴿الخُبزِ النّازِلِ مِن السَّمَاء، يأكُلُ مِنهُ الإنسانُ ولا يَموت﴾ (يوحنّا 50:6).
مُؤسِفٌ جِدًّا أنَّ كَثيرينَ، مُكَرَّسينَ أوّلًا ثُمَّ مُؤمِنين، لا يُدركونَ حَقيقةَ الوَليمَةِ القُربَانِيَّة، ولا يَستَعِدّونَ لَها الاستِعدَادَ الَّلائِق، ولا يَلبَسون لها الثَّوبَ الْمَطلوب، ويَتَعاملون مَعَها بِشيءٍ مِن التَّهاونِ والاستِخفَاف. أو عندَمَا تَرَى خُدَّامَ الإفخارستيا الْمُبَاشِرين يَتَعامَلونَ مَعهَا بِنَوعٍ مِنَ "الرّوتينيّةِ" والاعتِياد!
في هَذهِ الوليمَةِ السَّامِيَةِ القَدَاسَة، الْمَسيحُ هوَ الدَّاعي وهوَ الوليمَةُ أيضًا، هو الْمَذبحُ وهوَ حَمَلُ الْمُحرَقَة. يحضُرَ بَينَنَا ويُعطينَا ذَاتَهُ زَادًا يَقوتُنَا، وخُبزًا يَسنِدُنا، ومَشرَبًا يُروينَا. وكَمَا أنَّ إيليّا النَّبيّ قَدْ سَارَ بِقوّةِ الأكلَةِ الّتي أَعطاهَا اللهُ إِيّاها، حَتّى بَلغَ جَبلَ حُوريب حَيثُ الْتَقَاه (راجع 1ملوك 1:19-8)، فَكذلِكَ القُربَانُ الأقدَس، هَذَا الْمَنُّ والْمَأكَلُ السَّماويّ، الّذي مِنْ خِلالِه نَلتَقي الْمَسيحَ الآنَ وهُنا، يَهَبُنا القُوَّةَ والنِّعمَةَ، حَتَّى نَبلُغَ الوَطنَ الْمَرجُو، ونَلتَقي اللهَ لِقَاءً أَبديًّا، في الوليمَةِ الأبَديّةِ الْمُعَدّةِ لَنَا نحنُ الْمُختَارين.
وعَلَيه، إنْ كُنَّا نحنُ جَماعَةَ الْمُعَمّدين، مُدعُوّونَ للجلوسِ إلى هَذهِ الْمَائدةِ القُربانيّة، فإنَّ ذلِكَ يَفرِضُ عَلَينَا الاستعدادَ الحَسَن، لِكَي نَكونَ عَلَى مُستَوى هَذهِ الدَّعوةِ الرّفيعة. وكَمَا أنَّ مِنْ آَدابِ الْمَائدَةِ أَنْ تَغسِلَ يَديكَ قَبلَ الجُلوسِ إلى الطَّعَام، فَكذلِكَ الأمرُ عِندَ جُلوسِك إلى مَائدَةِ الْمسيح! إذْ لا يُمكِنُك أنْ تَتَنَاولَ مِنْ جَسدِهِ ودمِهِ الطَّاهِرَين، قَبلَ أَنْ تَغتَسِلَ بماءِ التَّوبَةِ والنَّدَامَة، مِنْ خِلالِ تَقَرُّبِك مِنْ سرِّ الْمُصَالَحَةِ والاعتِرَاف، حَتّى تَكونَ نَفسُك طَاهِرةً نَقيَّة، لابِسَةً ثَوبَ العُرس، مُسْتَعِدَّةً للتَّنَاوُلِ مِنَ "الصَّحفَةِ الْمُقَدَّسة".
وفي هَذَا الشَّأنِ كَتبَ بولسُ الرّسول، قائِلًا: ﴿مَنْ أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَهُ، ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهُمَا، فَقَدْ أَذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه. فَليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هَكَذا مِن هَذا الخُبْز، وَيَشرَبْ مِنْ هَذِهِ الكَأس﴾ (1قورنتوس 27:11-28). فاخْتبارُ الإنسانِ لِنفسِه، يَعني أن يَفحَصَ ضَميرَهُ وقَلبَه، ليَرَى مِقدَارَ جُهوزيّتِهِ واستِعدادِه، خالِعًا ثوبَ الخطيئةِ الرّذيلَة، مُرتَدِيًا ثَوبَ النّعمةِ والفَضيلَة.
وخِلافُ ذلك، أي رَفضُ التَّوبَة، وتَنَاولُ القُربانِ الأقدَس بِقَلبٍ أثقَلتهُ الخَطيئة، يحمِلُ نَتائِجَ وَخيمَة، عَلَى حَدِّ مَا وردَ في رسالةِ القدّيسِ بولسَ إلى أهلِ رومة يَقول: ﴿إنَّك بِقَساوتِكَ وقِلَّةِ تَوْبَةِ قَلْبِكَ تَذَّخِرُ لَكَ غَضَبًا لِيَومِ الغَضَب، إِذ يَنكَشِفُ قَضاءُ اللهِ العادِل، فَيُجازي كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِه، إِمَّا بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلَّذينَ بِثَباتِهم عَلَى العَمَلِ الصَّالِح، يَسعَونَ إِلى الْمَجدِ والكَرامةِ والْمَنعَةِ مِنَ الفَساد. وإِمَّا بِالغَضَبِ والسُّخْطِ عَلَى الَّذينَ يَعصُونَ الحَقَّ ويَنْقَادونَ لِلْظُلْم﴾ (رو 5:2-8).
وأخيرًا، إذا كَانَ الْمَسيحُ الّذي نَتَنَاولُهُ في القُربانِ الأقدس، يَجعَلُ مِن ذَاتِهِ لَنَا ذَبيحَةَ فِداء، فَكَم بالحَرِيِّ عَلينَا نحنُ الّذينَ نَقبَلُه، أنْ نجعَلَ مِنْ ذواتِنَا ذَبيحةً مَرضيّةً ومَقبولَةً لَدَى الرّب، مُتَمَثّلينَ بالْمسيحِ الّذي تَنَاوَلنَاه؟ وذلِكَ مِنْ خِلالِ تَقدمَةِ أعمَالِنَا الصَّالحِة، وكلامِنَا الطّيبِ الَّذي يُفيدُ البُنيان (راجع أفسس 29:4)، وكلِّ ما كانَ شَريفًا ومُستَحَبًّا عِندَ اللهِ والنَّاس (راجع فيلبّي 8:4).
يقولُ القدّيسُ بولسُ في رسالتِهِ لأهلِ رومة: ﴿إنّي أُناشدُكُم أنْ تُقرّبوا أشخاصَكُم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقدَّسَةً مَرضيّةً عِندَ الله﴾ (رومة 1:12). ومَا هيَ الذَّبيحَةُ الّتي يُريدها اللهُ مِنَّا؟ هي مَا وَردَ بِوَحيٍ عَلَى لِسانِ النّبيِّ داود في الْمَزمُورِ يَقول: ﴿إنّما الذَّبيحَةُ للهِ رُوحٌ مُنكَسِر، القَلبُ الْمُنكَسِرُ الْمُنسَحِقُ لا تزْدَريهِ يا الله﴾ (مز 19:51). هَذا هوَ ثوبُ العُرس، الّذي بِه نَتهَيَّأُ لاستقبالِ الْمسيحِ وقبولِهِ في نُفوسِنا: هوَ قَلبٌ حَاكَتهُ دُموعُ التّوبةِ، ونَفسٌ اِتَّشَحَت بالنَّدَامَة، وفِكرٌ صالِحٌ وعَمَلٌ حَسَن، اكتَسَى بروحِ اللهِ القُدّوسِ الصّالِح.