موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٤

"أُكذوبة الإيمان" بين كاتبي سفر التثنيّة والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"أُكذوبة الإيمان" بين كاتبي سفر التثنيّة والإنجيل الثاني

"أُكذوبة الإيمان" بين كاتبي سفر التثنيّة والإنجيل الثاني

 

مُقدّمة

 

تأتي الكلمة الإلهيّة لتنعش فينا ما تنفسّه الله من روحه القدوس منذ الخلق. الكلمات الكتابيّة الّتي سنناقشها اليّوم في سلسلتنا الكتابيّة لها مذاق نبويّ وحقيقي. إذ في المقطع الأوّل من سفر التثنيّة (18: 15- 20) نسمع موسى لكلمات خطابيّة حيث يؤكد على رسالته النبويّة بين بني إسرائيل. وفي مرحلة تاليّة بالعهد الثاني يشاركنا مرقس الإنجيلي سيّاقه الّذي يكشف عن السلطان النبويّ الّذي يتحقق بملء في يسوع في أول لقاء له مع معاصريّه بكفرناحوم.

 

نهدف من خلال هذاالمقال، أنّ تترك الكلمات الّتي يعلنها موسى من جانب صداها فينا والفعل الّذي يتحقّق في أقوال وأفعال يسوع الّتي تكشف لنا وتحررنا من أكاذيب إيماننا به، من خلال سلطان تعليمه وشفائه للمريض بروح نجسة، لنكتشف السلطان الإلهي بحياتنا اليّوم وقبول هذه الرسالة النبويّة الّتي تحققت في يسوع وهي التحرير من أكذوبة الإيمان.

 

 

1. السلطة النبويّة (تث 18: 15- 20)

 

في هذا المقطع الّذي نناقش فيه بعض من آيات بسفر التثنية وهو ينتمي للجزء الأول بالكتب المقدسة العبريّة والمسيحيّة والمعروف بكتب الشريعة ويعتبر هذا الجزء مفتاح لقراءة تاريخ بني إسرائيل. في هذه الآيات القليلة (18: 15- 20)، والّتي هي بمثابة جزء أساسي في خطاب موسى الثاني والّذي بدأ في تث 4: 44 ويختتم في تث 28: 68.

 

نقرأ  سيّاق كاتب سفر التثنيّة الّذي يشير لسلطة موسى في هذا الخطاب، مشيراً على لسان الله كمُرسل لهذا النبيّ قائلاً: «سأُقيمُ لَهم نَبِيُّا مِن وَسْطِ إخوَتِهم مِثلَكَ، وأَجعَلُ كلامي في فَمِه، فيُخاطِبُهم بِكُلِّ ما آمُرُه به. وأَيُّ رَجُلٍ لم يَسمَعْ كَلاميَ الذي يَتَكلَمُ بِه بِاسمْي، فإِنِّي أُحاسِبُه علَيه. ولكن أَيُّ نَبِيٍّ اعتَدَّ بنَفْسِه فقالَ بِاسْمي قَولاً لم آمُرْه أَن يَقولَه، أَو تكَلَّمَ بِاَسمِ آِلهَةٍ أُخْرى، فليَقتَلْ ذلك النَّبِيّ» (تث 18: 18- 20). هذه الرسالة الإلهيّة تحمل تحذيريّن الأوّل لسامعي لرسالة النبيّ الّذي يرسله الله وهي السمع والطاعة لأن ما يكشفه لن يعلنه من ذاته بقدر ما يكشف الله من خلال نبيّه لهم. مما يكشف أنّ السلطة النبويّة يمنحها الله للنبي الّذي يختاره. أما بالنسبة للتحذير الثاني وهو موجه من الله للنبيّ الّذي يخاطب الشعب بكلمات أو برسائل لم يخاطبه الله بها وهنا يعلن الله عن عقابه للنبيّ المزيّف والباطل. نكتشف إذن من خلال أن الرسالة النبويّة هي تكليف إلهيّ، ينبغي على النبيّا أن يكون أمينًا عليها ولا يُزيف ولا يضيف أو يزيل شيئًا منها عند توصيله إياها للشعب.

 

 

2. يّوم السبت (مر 1: 21)

 

من خلال الآية الإفتتاحيّة لهذا المقطع، يستكمل مرقس سرده، لما أعلنه بالنص السابق وهو دعوة يسوع لتلاميذه الأوائل، قائلاً: «ودَخلوا [يسوع وتلاميذه] كَفَرناحوم. وما إن أَتى السَّبْتُ حتَّى دَخَلَ المَجمَعَ وأَخَذَ يُعَلِّم» (مر 1: 21). وهنا يشير علينا الإنجيليّ بأنّ أوّل يّوم ليسوع بكفرناحوم هو يّوم السبت. من الوجهة الزمنيّة، فإنّ هذه الإشارة ليست سببيّة، فالسبت في التقليد الكتابي هو يّوم المجانيّة المطلقة ويّوم التحرر من العبوديّة بالماضي. إنّ حقيقة أعمال يسوع الموضوعة على مدار أوّل يّوم علني ليسوع بحسب مرقس، يتم تحديده في يّوم السبت مما يشير إلى أهميّة أساسيّة في اللّاهوت المرقسي. بالنسبة لمرقس، يظهر العمل المجاني لله الخالق وأيضًا عمله التحريري في شخص يسوع. علاوة على ذلك، فإن المكان الأوّل الّذي نتابع فيه يسوع في أوّل حضور لتلاميذه معه وهو المجمع أثناء تأديته كرجل عبري دوره التعلّيمي وأيضًا يُتممّ ما يعلنه من أسرار إلهيّة. المجمع هو بمثابة المكان الّذي يجتمع فيه اليهود الـمُتدينيّن لقراءة ولسماع كلمة الله بالشريعة والصلاة معًا. وهو في نفس الوقت بيت الجماعة من العبري Bit hakenist، وهو أيضًا مكان التحقيق Bit hamedrashK بيت الجماعة حيث يجتمع المؤمنين للإستماع إلى الكلمات المقدسة. هذا هو العنصر اللّاهوتي الأوّل في هويّة بني إسرائيل المدعوة للاستماع Sham’ للكلمة الإلهيّة والاستجابة منها كأمانة للعهد المقطوع من الله مع الأباء.

 

يشير العنصر اللّاهوتي الثاني بأنّ المجمع هو بيت للدراسة والبحث. في الواقع، يصير هذا المكان شاهد عيّان على تحقيق الكلمات الإلهيّة الّتي يسمعها المؤمنيّن وفي ذات الوقت مكان لإتمامها وتحققّها. مما يهدف إلى أنّ كل مؤمن يستطيع أنّ يصل لملء الحياة بشكل حقيقي حينما يبحث عن الله في كلمته الّتي إستمع لها بالمجمع. إنّ إله إسرائيل هو إله حقيقي وإله العهدّ، ويتطلب أنّ يتم البحث عنه دائمًا من خلال كلمته. هذا بالإضافة إلى أنّ المجمع هو مكان المجانيّة، كما أن السبت هو يّوم العطاء المجانيّ. في الواقع، يذهب المؤمنين إلى المجمع ليس لأجل العمل، وليس لكسب المال، ولكن ببساطة لسماع الله الّذي يكشف عن ذاته من خلال كلمته. يمكننا القول بأنّ المؤمن في المجمع يفقد وقته في سبيل التواصل بالله والنمو في العلاقة به فيصير ربح لا يقارن بأي ربح ماديّ.

 

 

3. سلطان يسوع بالمجمع (مر 1:21- 28)

 

أثناء اللقاء الإسبوعي لجماعة اليهود وهم مُعاصريّ يسوع، والّذي يتمّ كل يّوم سبت بمجمع كفرناحوم. نلاحظ أنّ اللقاء الّذي يرويّه مرقس ليس كاللقاءات المعتادة. يعيش مُعاصريّ لقاء غير عادي يسوع بل فريّد من نوعه، والسبب هو حضور يسوع بذاته معهم كمعلّم. يتكون السرد المرقسيّ من عنصرين رئيسيين الأوّل التعلّيم والثاني هو تحرير مريض، وهو ابن لإبراهيم، من سيادة الشيطان. لقد نجح مرقس في هذا السيّاق بأكمله بالتركيز فقط على سلطان يسوع exousia.

 

يقدّم لنا هذا المقطع بحسب مرقس (1: 21-28) بداية أوّل يّوم ليسوع بمدينة كفرناحوم. وهو بمثابة يّوم نموذجي ليسوع حيث يرويّ لنا فيه الإنجيليّ الأنشطة الّتي ميّزت خدمة يسوع في أوّل يّوم له بالحياة العلنيّة ويتعلق هذا السيّاق المرقسيّ بما نوهنا عنه في الخطاب الموسويّ إذ يُشبّه الإنجيلي يسوع في خدمته بـالنبي موسى فتنطبق عليه الكلمات الّتي أعلن عنها كاتب سفر التثنيّة، النبيّ الّذي يقوم بتوصيل الرسالة الإلهيّة وهو في ذات الوقت الكلمة ذاتها. إنّ تجاور نص العهد الأوّل بالنص الإنجيليّ يرشدنا إلى فهم شخصية يسوع كشخص ذو رسالة نبويّة فائقة رسالة الأنبياء جميعًا.

 

 

4. الإندهاش والتساؤل (مر 1: 22- 28)

 

يشير الإنجيليّ بردّ فعل مُعاصري يسوع قائلاً: «فأُعجِبوا  بِتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة» (1: 22) مما يشير إلى إدراك معاصريّ يسوع، الّذين إلتقوه في حياتهم، بسلّطانه المتميّز. تحمل حياة يسوع سلطانًا، مما يجعلنا نفسره من أصل اللغة اليونانيّة exousia  وهو ما يجعلنا نُفكر في شخصية يسوع بذات الصورة النبويّة الـمُعلنة بسفر التثنيّة. نتفاجأ كقراء بإندهاش الحاضرون، معاصري يسوع من تلاميذ ويهود مؤمنين، في بداية ونهاية السرد، إذ يتسألون فيما بينهم عن مصدر سلطة يسوع الّتي بالقول يُفسر بها الكتب المقدسة ثم بالعمل مُخرجًا الشياطين. أولاً الدور التعلّيميّ وهذا ليس تعليمًا عامًا، بل تفسيرًا للكتب المقدسة. المكان هو المجمع، وبالتالي في المكان الرسمي لتفسير الكتب المقدسة. يُعلّم يسوع ومعاصريه يتساءلون عن السلطة التي يسمح بها لنفسه بتفسير الكتب المقدسة. فهو ليس بكاهنًا ولا حاخامًا، ولا نبيًا، إذن كيف يتمكن بتفسير الكتب المقدسة علنًا بيّوم السبت وفي المجمع؟ من يستمع إليه يكتشف أنّ هناك سلطانًا يُدرك في كلامه لا يملكه مُعلّمِي عصره.

 

 

5. أكذوبة الإيمان (مر 1: 24- 28)

 

في ذات الوقت يضيء الإنجيلي على وجود رجل ممسوس برّوح نجسة، صارخًا ومتسائلاً: «ما لَنا ولكَ يا يَسوعُ النَّاصِريّ؟ أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله". فانتَهَرَه يسوعُ قال:"اِخْرَسْ واخرُجْ مِنه!"» (1: 24- 25). يعلن الرجل، بكلماته تلك، عن المسافة الموجودة بين يسوع والأرّواح النجسة. هذا الرجل مُمارس الإيمان ظاهريًا أيّ إنه شخص يتردد عادة على المكان المقدس، مثلنا جميعًا كمسيحيين في كنائسنا، حيث يستمع إلى كلمة الله ويصلي ومع ذلك فإن الاستماع إلى تعلّيم يسوع يظهر في عداوته لله وكلمته. إنه يحيا في زمن ومكان القداسة، ولكن يسكنه روح نجس، فهو لا يتناغم مع مكان وزمان حياته. ثمّ يلتقي بيسوع، ويحدث ما لم يحدث من قبل. فيسوع، في الواقع، هو قدوس الله، الـمُتناغم تمامًا مع المكان والزمان الّذي يحيا فيه؛ فهو القدوس. ولهذا السبب يتم الكشف عن قناع الرجل الممسوس أمامه ويبدأ يسوع بإتمام مسيرة الشفاء. هذا الرجل يُمثلنا جميعًا نحن الّذين نعيش أُكذوبة الإيمان نحن الّذين نحيا في مكان وزمان المجانية والحرية، دون أنّ نكون أحرارًا. لكن كلمة يسوع موجهة لنا اليّوم، وحضوره، يكشف اغترابنا وعدم إنسجامنا. إن تفسير الكتب المقدسة الّذي يقدمه يسوع يسلط الضوء بشكل كبير على العداوة تجاه كلمة الله الّذي يمكن أن يسكن قلوبنا معتقدين بأننا مؤمنين وصالحين. هذا الـممسوس بالشيطان في كفرناحوم هو الّذي انكشفت عداوته لكلمة الله بحضور يسوع وسلطانه النبويّ وإعلانه التحرير بطرده الرّ,ح النجسة. مدعوين نحن اليّوم للإفاقة من الإكذوبة الإيمانية الّتي نحياها ونحن في قلب الكنيسة ونمارس الأسرار المقدسة. لنتقدم أمام يسوع ليحررنا ويعلن شفائه وننسجم في حقيقة إيماننا فنصير مسيحيين قولاً وفعلاً.

 

 

الخلّاصة

 

محاربتنا للأكاذيب الإيمانيّة اليّوميّة، هي الصراع الّذي يرافق حياتنا ونحن مدعوييّن أنّ نستعيد الإنسجام الباطني من خلال ما يعلنه الله كما رأينا مع موسى من تعاليم ساميّة بالعهد الأوّل من خلال تث 18: 15- 20. وفي ذات الوقت لندخل في الزمن والمكان الّذي يتواجد يسوع (مر 1: 21- 28) فيه بسلطانه ليُنهرّ بكلمته كل ما هو نجس فينا ويحررنا من أكذوبة إيماننا أو أكاذيب باطنية، فنحيا كما يليق بالرّبّ وتابعين له، فهو القدوس. دُمتم في حياة إيمانيّة صادقة.