موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
في اليوبيل الماسي لرسامة المطران الصائغ: عطاءٌ لا محدود لله وللقريب

الأب بسام الدير :

 

"قبلَ أنْ أصَوِّركَ في البطنِ عَرفتُك وقبلَ أن تخرُجَ من الرَّحمِ قدَّستُكَ وجعلتُكَ نبياً للأممِ" أرميا 1/5.

 

كما اختارَ سيدنا يسوع المسيح جماعة الرسل وجعلهم من خاصته وأوكلهم وخلفاءهم أن يديروا شؤون الكنيسة من بعده، كذلك وبإلهام الروح القُدس وبتسلسلٍ رسوليٍ دعاكم وهيأكم وأرسلكم لتكونوا من خاصتهِ، رُسلاً لخدمة شعبه ومفوّضين عاملين باسمه القدوس لنشر مَجده الأعظم.  ها نحنُ الآن سيادة المطران نتهلل بغبطةٍ ونسبح الله شاكرين على ما أغدق الله على كنيسته من خلالكم طوالَ ستين عاماً، كما نحتفي معكم بمناسبة اليوبيل الماسي لرسامتكم الكهنوتية المقدسة.

 

 أعودُ بذاكرتي إلى هاتيك السنوات يومَ كنتُ في رَيعان الشباب حينَ شاءت العناية الإلهية أن تقود خُطواتي أن ألتقيَ بكم وأبوحَ لكم عن رغبتي في أن أصبح كاهناً، فإذا بكم تشجعونَ ما سألتُ وتُشيرون بحِكمتكم عليّ أن أتحدث بالأمر لكاهن الرعية المَعني وهكذا فعلت.  ثمَّ مضيتُ إلى المعهد الإكليريكي لأحقِّق مُنيَةَ قلبي وبهجَةَ روحي. كنتُ أزوركم أيام العطل السنوية الخاصة بمعهدنا وأنا على مقعد الدراسة في الإكليريكية الكبرى، وكنتم بأبوتكم الروحية المعروفة للجميع تطمئنون عن سَير دراستي وشؤوني الروحية والإيمانية، وتدور الأيام ومثلها السنوات، فإذا بي أحظى أن أكون شماساً أخدمُ وأعملُ برعايتكم فسكرتيراً مِن بعد في المطرانية العامرة، وليكون لي الشرف لاحقاً أنْ كُنْتُم حَفِظكم الله إشبيناً لي في الكهنوت. وأرى من الحقّ هُنا أن أشهدَ بقوة صلاتكم من أجلي في معظم الأوقات، وأخصُّ الأوقات العصيبة. كنتُ استشيركم ولا أنفكُ في موضوع دعوتي ومجريات حياتي فتُرحِّبون وتُوجِّهونَ وتُرشِدون وتُعلِّمون فأمتثِلُ لرأيكم السديد ولخبرتكم الروحية والرَّعوية الحكيمة. إن تلك الصلاة كانت تمتد من أبوَّتِكم الروحية المستمدة من أُبوَّة أبينا السماوي له المجد لتشملَ جميع المؤمنين ولتشمل المهمشين والمُعوزين والمستضعفين والمرذولين فكنتم تبتهلون أمام عرش الله من أجل تحريرهم مما يعانون ولِلإرتقاء بهم للعيش بكرامة إذْ هُم أبناء الله. وفي الحقيقة أنكم في رسالتكم التعليمية والتقديسية والرعوية كنتم على ما أراده معلمنا الأعظم سيدنا يسوع المسيح وما أوصى به.

 

 لا تزال على صفحة ذهني محطات من العُمر تبعثُ في نفسي إشراقة وهاجة، مِنها عندما كنتم تتوجهون إلى مخيماتنا الكشفية إبَّان دراستنا لإثرائنا بعِظاتٍ روحيةٍ قيمةٍ للغاية. وأذكُرُ باحترامٍ يومَ تخرجتُ في الثانوية العامة إذ كُنتم مَن خرجتم فوجَنا الدراسِيّ، حيث وقف إلى جواركم آنذاك غبطة البطريرك ميشيل الصباح جزيل الوقار وكان حفظه الله حينها كاهناً ومديراً لمدرستنا. في مركز مار كيرلس للتعليم المسيحي كنتُ وزملائي ننهلُ منكم ومن الأفاضل الآباء المُدرِّسين فيضاً غامراً من التعليم الديني المسيحي تبثونه في قلوبنا لينمو وينضج ويثمر مع مرور السنوات. وليس يغيب عن ذهني حين شرفتم المعهد الإكليريكي للكرازة في رياضة روحية أقيمت للطلبة ومن خلال عِظتكم وقتها تكشّف لنا حضور سيدنا يسوع المسيح بقوة في القربان الأقدس، وكان الصمت أمام ربنا يسوع في القربان كالإنصات إلى سيمفونية موسيقية يتعذر وصف جمالها وسموها وعُمق تأثيرها في النفس.

 

تحملتم سيادة المطران لسنواتٍ مسؤولية إدارة وتحرير مجلة الكلمة بمواضيعها اللاهوتية العقائدية والطقسية الليتورجية والأدبية الأخلاقية والتاريخية والقانونية والروحية وقد أوْكَلتُم إليَّ خلال فترة خدمتي كسكرتير للمطرانية، المساهمة بمتابعة إصدار المجلة باعتبارها وسيلة لبث التعليم الكاثوليكي القويم وزرع الإيمان في القوب واظهار الصورة الجميلة لمسيحيّي الأراضي المقدسة وللكنيسة الجامعة الرسولية ولدعم الوجود والمستقبل المسيحي في الشرق وبالأخص الأردن وقد تعلمت في تلك الفترة عِبراً ودروسا بالغة الفائدة، وأُشير هنا إلى توقف المجلة مع الأسف عن الصدور بسبب التوجه العام للناس لتقنيات الثورة الرقمية ووسائلها الإعلامية المختلفة.

 

ومِن الضَّميرِ أن أتناولَ هنا وقد عاينتُ هذا عن قربٍ ذلك الاهتمام الذي كنتم تولونه لزيارة المرضى ومواساة من فقدوا أعزاءَ عليهم إلى جانب مهماتكم الكثيرة. وأُشيرُ هنا إلى اهتمامكم لسنوات ومتابعتكم الروحية وصلواتكم وتوجيهكم لدعوة شقيقتي المرحومة المكرسة الدكتورة مها الدير. تلك المتابعة الروحية أسهمت في أن تنتقل إلى عريسها السماوي وهي برائحة القداسة. وأرى بتقديرٍ أنكم أعدتم لمنطقة الشرق الأوسط من خلال تكريسها حياة البتولية المكرسة التي كانت منتشرة قديماً في مطلع حياة الكنيسة الأولى. كانت خطوة رائدة شجاعة وتاريخية، أسهمت في جَذبٍ خَصبٍ جديدٍ للكنيسة في الأردن ومحيطها (بالأخص في لبنان).

 

ويجيء مشروعكم مركز سيدة السلام لخدمة ذوي الحاجات الخاصة، ذلك المشروع الذي كان حُلما،ً وفي نظر البعض متعذرَ التنفيذ، غير أن تصميمكم وعملكم واتكالكم بالكامل على شفاعة وعون أمنا مريم العذراء حقق الأمل المرجوَّ، وبرز المشروع للنور وأخذ ينشر خدماته الإنسانية. كما حظي المركز بتشريف ومباركة قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر خلال زيارته التاريخية للأردن. وإذ أعلمُ عِلمَ اليقين أنكم تُؤثِرون لتواضعكم عدم التصريح وإذاعة ما قُمتم به وسهرتم عليه من مشاريع تعليمية وخيرية ودينية لخدمة المؤمنين وسائر الناس فلن اتطرق إليها غير أنها معروفة وموضع ثناء العارفين المُقدِّرين وستبقى شاهدةً على عطائكم اللامحدود وتفانيكم الوافر بثمارهِ.

 

أما المؤلفات الكثيرة الغنية بعناوينها، والقيِّمة بمضامينها، فقد جاءت لمطالعتكم الدائمة وغزير ثقافتكم وخبرتكم. وأذكُر قولاً لكم لي بهذا الشأن: "أبونا بسام، تخصيصُ عشر دقائق يومياً على الأقل للكتابة يكفل إنشاء مكتبة كبيرة على مدار السنين". وعن تلك المؤلفات المتنوعة المصطبغة بالإيمان والرجاء والمحبة فقد كنتم تربطون بفطنةٍ وإلهامٍ بين المواضيع المطروحة وآيات من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

 

إيثار الفقر الإختياري كان نهجاً لمسيرتكم الحياتية. وكم رددتم على أسماعنا:" اللهُ مصدرُ كلّ عطيةٍ وموهبةٍ صالحة".

 

أما محبتكم لسيدتنا مريم العذراء وتمجيدكم الدائم لها وتلاوة صلاة السُّبْحَة الوردية دون انقطاعٍ وطلب شفاعتها لها كل الإكرام فتُشكل دعوة لنا جميعاً لننهج الأسلوب عينه، كيف لا وهي الأم الحنون التي لا تغفل عن طلبات أبنائها ومكرِّمِيها وطالبي شفاعتها. وفي السياق كم اعتدنا سماع عبارة: "الكاهنُ رَجُلُ الصلاة" ترددونها وقد اختبرناها في شخصكم، وكم تعلمنا منكم أنَّ القداسة الحقيقية تتطلّب حياة صلاة مكثّفة تكون بمثابة تواصلٍ مستمرٍ، ولقاءٍ حيِ ناجع، وحوار باطني مع الرب في كل زمان ومكان.

 

سيادة المطران، إن نبَّهتُم فبمخافة الله، وإن شجعتم فبقوة الله، وإن تكلمتم فبمكارم الأخلاق والوصايا الإلهية. تشتعلون من فيض نور الروح القدس لتنيروا الكنيسة التي هي شعب الله. تَعمَلون بما تُعلِّمون، وتَعِظون بغيرة رسولية يُحتذى بها. ومع تقاعدكم لا تزالون على ما عهدناه بكم من عطاء قلَّ نظيره، إذ أنتم هنا وهناك، تقيمون القداديس وتمنحون الأسرار المقدسة، وتَعِظُون جمهور المؤمنين فتلتفت إليكم أسماعهم بإصغاء وانتباه، كما تُقيمون وتشاركون بالرياضات الروحية هذا إلى جانب الكتابة والتأليف الغني بثماره الروحية.

 

ختاماً أود أن نتَّحِد بالصلاة وفي تقديم الشكر لربنا وفادينا يسوع المسيح على نعمة الكهنوت التي منحها لسيادة المطران سليم الصائغ قبل ستين عاماً.  مُتمنين له العمر المديد والصحة والعافية. مع مباركتنا لأهله الكرام وذويه الأجلاّء ولبطريركيتنا اللاتينية الموقرة. وكما وقفت العذراء مريم إلى جانب ابنها المسيح له المجد أنْ ترافقَ سيادته وأن تحفظه ليبقى نبراساً مشعاً في كنيستنا بنعمة الله الآب والابن والروح القدس.