موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٣ يوليو / تموز ٢٠٢٣
اِعترافٌ أو كُرسيُّ اِعتراف

الأب أثناسيوس شهوان :

 

"ليسَ عندكم اعتراف!". كثيرًا ما نَسمعُ هذه العِبارةَ مِن خارجِ كنيستِنا ومِن داخلها. هي تأتي غالبًا بسبب عَدمِ وجودِ كُرسيّ اعترافٍ [2] confessionnal في كنائسنا.

 

عدم وجود الكُرسيً لا يعني إطلاقًا ليس عندنا اِعتراف. بالعكس تَمامًا، فهو سِرٌّ قائمٌ في كنيستنا، وله ترتيبُ خدمةٍ كامِلَة يقيمُها الكاهنُ، تُعرَف بـــــِ "سِرِّ الاعترافِ الإلهيّ".

 

يَشرحُ كِتابُ الإفخولوجي [2]، أنَّ الكاهنَ يقفُ في الكنيسةِ بالقربِ مِن الإيقونسطاس (حائط الأيقونات)، لابسًا بَطرَشِيلَه [3]، وإلى جانِبه يَقِفُ المُعتَرِف. ويوجدُ على مِنضدةٍ أمامَه الإنجيلَ المقدَّس وأيقونَةَ السيِّد أو الصَّليبَ الكريمَ وشمعَةً مُضاءَة [4].

 

يَبدأُ الكاهِنُ صَلاتَه بِطِلبَةٍ صَغيرَة يَسألُ فيها الرّبَّ غُفْرانَ خطايا المُتَقَدِّم للاعتراف، ونجاتَه مِن كلِّ حُزنٍ وضِيقٍ وخَطرٍ وشِدَّة. بعدها يَتلو قِطعةَ صلاةٍ تُدعى "إفشينًا" تَبدأ بِالدُّعاء: "أيُّها الرّبُّ يسوعُ المسيحُ ابنُ اللهِ الحيّ، الرَّاعي والحَمَل، الرَّافِعُ خَطيئةَ العالَم...". هذا تأكيدٌ على أنَّ اللهَ وحدَه الّذي يَغفِرُ الخطايا [5].

 

عَودةٌ إلى قِطعَةِ الصَّلاة. يسألُ الكاهنُ الرّبَّ أن يستجِبَ لطلبتِه ويترُكَ زلّاتِ المُعتَرف، مُردِّدًا ما قالَه يسوع: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ." (متى 18:18).

 

بعدَ ذلك يُصلّي الكاهنُ: "قدّوسٌ الله، وما يتبعها..."، وصَلاةَ الأبانا، والمزمورَ الخمسين "اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مآثمي...". ويَشتركُ المُعتَرف بهذه الصَّلاة. ثُمَّ يَتبعُ ذلك المَزمور قِطَعُ صلاةٍ صغيرة، يقولُ بعدها المُعتَرِف أربعين مرّة "يا رب ارحم"، ومِن ثُمَّ: "أخطأت يا رب فأغفر لي أنا الخاطىء".

 

لنتوقَّف هنا لَحظة! مرّةٌ واحدةٌ "يا ربُّ ارحم" تَكفي. فالموضوعُ ليسَ في التَرداد، بل في صِدق ما يَقولُه المرءُ. فَلو قيلت 40 ألف مرَّةً مِن الشِفاهِ دونَ القَلب لا تَعني شيئًا.

 

خطايا الإنسانِ أكثر مِن رَملِ البَحر، كما نَقولُ في صلاة "المطالبسي"، حينَ نَستَعِدُّ لتَناولِ القُدُسات، أَي جسَدَ الرّبِ ودَمَه الكريمين.

 

فإذا راجَعنا ذَواتِنا ونَحنُ نَطلبُ الرَّحْمَة، لوَجدنا أنَّه لا يُمكنُ إحصاءَ مَعاصينا، واكتَشفنا أيضًا كم هِيَ كبيرةُ رحمَة الرّبِّ ومحبّتُه لامتناهيَة. فالخِدمَةُ هَدفُها الصَّلاة، وهُدوء النَفس، والشُّعور بالمسؤوليَّة وليسَ أي شَيء آخَر.

 

يمكنُ أن نُضيفَ أيضًا رَمزَ الرَّقمِ أربعين وما يَعنيه. فَمَثلًا، تَاهَ الشَّعْبُ العِبريُّ قديمًا ما يُقارِب الأربعين سَنة في الصَّحْرَاء، وفي العَهدِ الجَديد "صَامَ يسوعُ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً" (متى 2:4).

 

كلُّ هذا لِندخلَ في خِبرَةٍ شَخصيَّة مع الرّب. ومَن تَخرُج صرخةٌ مِن أعماقِ قلبِه في طلبِ الرحمَة، يذوقُ طعمًا إلهيًّا أَلذَّ مِن العسَل، ويَغفِرُ لكلِّ مَن يُسيءُ إليه، ويَتَلَمَّس خَلاصَ الرّب. مِن هنا يُكمِل الكَاهِنُ الخِدمة، فيتلو قِطعةَ صلاةٍ تُدخِلُنا في تِدبيرِ إلهنا الخَلاصيّ للإنسان مُنذُ القَديم، إذ تَبدأ: "إيّها الإله مُخِلِّصُنا، يا مَن وَهبَ لداودَ بِواسطةِ نَبِيِّه ناثان الصَّفْحَ لمّا تابَ عن خطاياه، وتَقَبَّل طِلبَةَ منَسّى لمّا تَقدَّمَ إليه تائبًا. أنتَ تَقبَّل أيضًا بِمَحَبَّتِكَ المَعهودَةِ لِلبَشَر توبَة فلان...".

 

ما أجملَ هذه الصَّلاة، وما أجملَ التَّوْبة الصَّادِقَة!

 

بَعدَها يَجثو المُعتَرِفُ ثَلاثَ مَرّاتٍ (على اسمِ الثَّالوثِ القُدُّوس) راسِمًا إشارَة الصَّليبِ على وجهِهِ وقائِلًا في ذاتِه "يا اللهُ اغفر لي أنا الخاطِئ"، ومِن ثُمَّ يَرفعُ يدَيه مُصَليًّا: " أيّها الآبُ ربُّ السَّماءِ والأرض، إنّي أعترفُ لَكَ بِكُلِّ خَفايا وظَواهِرَ قَلبي وذِهني"...

 

هنا تُعلَن رأفَةُ الرَّبِّ وحَنانِه، إذ يَقولُ الكَاهِنُ بِصَوتٍ هَادِىء: "أيّها الأخُ لا تَخجَل مِمّا أتَيتَ لأجلهِ إلى اللهِ وإِلَيَّ. لأَنَّكَ لَستَ تَعتَرِف لي بل للهِ الذي أنتَ مُنتَصِبٌ أمامَه".

 

لنَتَمَعَّن بِهاتَين الكَلِمَتَين الرَّائِعَتَين: "مُنتَصِبٌ أمَامَه". فلا وجُود لأيِّ ذِلٍّ أو احتِقار، بَل مَحَبَّة إِلهيَّة صَرف، فالإنسانُ بِتَوبَتِه الصَّادقَة ورُجُوعِه عن الشَّر، يَقومُ ويَنتَصِبُ مُستقيمًا رافِعًا رأسَه إلى السَّماء.

 

بعدَ هذهِ الصَّلوات، يَعتَرِفُ المُؤمِنُ أمامَ الكاهنِ الذي يَقولُ له حَرفيًّا: "يا وَلَدي الرّوحيّ المُعتَرِف لِحقارَتي أنا الحَقير الخَاطِئ"...

 

نَعم، كُلُّنا خَطأة أمامَ الرّبِّ ويُعوِذُنا غُفرانه. ويَعود الكَاهِنُ يُؤكِّدُ أنَّ اللهَ هو الغَافِر، وإنَّما ما يُتَمِّمه فهوَ عملًا بالسُّلطانِ الذي أعطاهُ الرّبُّ للكهنة مِن خِلال رُسله.

 

في النِهايَة يَضعُ الكَاهنُ بَطرَشيلَه على رأسِ المُعتَرِف ويقول: "إلى الرّبِّ نطلب–يا ربُّ ارحم". ويَتلو اِفشينًا يَذكر فيه مَنحَ الرّبِّ الغُفرانَ لِبطرس الرَّسولِ والزَّانِيةِ بِواسِطَة الدُّموع، وتبريرِ العَشّار لمّا عرفَ ذُنوبَه. ويَطلبُ مِن الله قَبول اعترافِ المُعتَرِف.

 

خِتامًا، يَضعُ الكاهِنُ يَمينَه فَوقَ طَرفِ بَطرَشيله الّذي على رأسِ المُعتَرِف ويَقولُ إفشينَ الحَلِّ: "ربُّنا وإلهُنا يسوعُ المسيحِ بِنعمَة ورأفاتِ مَحبَّته للبشَر، ليَصفَح لكَ أيّها الابنُ الرّوحيّ (فُلان) جَميعَ زلّاتِك... اذهَبْ بِسَلام".

 

يا لِروعَة إلهِنا العَظيم الَذي يَغمُرنا بِرحمَته الكَبيرَة وسلامِه، وما أَجمل هذا العُبور مِن موتِ الخطيئةِ وعبودِيَّتها إلى حياةِ الغُفرانِ وحُريَّتها: "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ" (2 كو 3: 17).

 

اكتسابُ هذهِ الحريَّة يَتمُّ بعلاقةٍ مُستمرَّة مع الرّب، ومواظبَةٍ على الصَّلاة الفَرديَّة والجماعيَّة، ومُراجعَةٍ يوميَّة للذّاتِ على ضَوء الإنجيل، عِندها نُلاحظُ كلَّ تَسلُّلٍ للخطيئَة إلى نفوسِنا. ولا نَنسى اكتسابَ الفضيلةِ العُظمى التي هي التَّواضُع. وإِلّا يموتُ فينا الحِسّ، ونَتآلفُ مع الخطيئةِ كَمَن يتآلف مع رائِحَة قبيحَة، ولا يعودُ يَشمئِزُّ مِنها.

 

إلى الرّبِّ نَطلُب.

 

 

[1] ظهر هذا الكرسي في الكنيسة الكاثوليكيّة في القرن السادس عشر مع Saint Charles Borromée، فيؤمن بقاء المعترف مجهولًا. ولكن خفَّ استعماله خاصة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965م)، بحيث يكون المعترف وجهًا لوجه مع الكاهن.

 

[2] تسمية الإفخولوجي يونانيّة Ευχολόγιον /Efchológion مؤلّفة من فعل تجميع والتقاط συλλέγω / syllégo ، وكلمة الصلاة والدعاء والتضرّع ευχή، ومنها أتت كلمة إفشين باللغة العربيّة، أي قطعة صلاة.

 

[3] البطرشيل " تعريب للكِّلمة اليونانِّية έπιτραχήλιον" إبِتراشيليون" أي حول έπι والعنق τράχηλος. فالبطرشيل يُعلَّق في العنق بفتحة في أعلاه، ويتدلى بعرض الصَّدر ومن الأمام حتى إلى القدمين.

 

[4] ملاحظة: ممكن أن يتم الاعتراف في مكان آخر مخصص للصلاة.

 

[5] وهَذا ما جَعلَ الفَرّيسيّين يَجُنُّ جُنونُهم عندما قَالَ يسوعُ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ»." (مرقس 5:2).