موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٧ أغسطس / آب ٢٠١٧
الوساطة الراعوية في الخلافات الزوجية

بيروت - الأب د. نجيب بعقليني :

1- طريق الزواج

تعلّمنا الكنيسة، أنّ الزواج، هو عهدٌ وشركة حبّ وحياة، أي أنّ الله، الذي خلق الإنسان عن حبّ، يدعوه إلى تجسيد هذا الحبّ بالذات. وهي دعوةٌ فطريّة أساسيّة وجوهريّة في كلّ إنسان. الأمر الذي يخلق عهد حبّ وحياة وشركة بين الزوجين (المرأة والرجل)، لمدى الحياة، تتّصف بالوحدة والديمومة والوفاء والأمانة.

الزواج مجبول بالحبّ، من هنا، لا بدّ للثنائيّ العاشق من أن يُدرك مفهوم الحبّ ومبادئه ونتائجه. فالحبّ، لا يكون مع أوّل خطوة وفي البداية فقط، وإنّما ينمو ويبقى حتّى آخر الطريق وإلى النهاية. تُفيد الدراسات، بأنّ الزواج المبنيّ على الحبّ يُسهم في نجاح الحياة الزوجيّة والعائليّة معًا. ممّا يؤكّد أنّ الحبّ لكي يستمرّ في الطريق والهدف الصحيح، لا بدّ من أن ينمو تدريجيًّا وبشكل مستمرّ بالرغم من الصّعوبات والظروف الطارئة (غير المنتظرة) غير المتوقّعة. هل يُدرك ثنائيّ اليوم مفاهيم ومبادئ الحبّ والزواج والعائلة؟ هل يتمّ تحضير الشابة والشاب بشكل وافٍ لتحمّل مسؤوليّة بناء الشراكة وعيشها ضمن عائلة متّحدة وفرحة؟ هل يحصل الثنائيّ على المرافقة والمتابعة اللازمة من قبل الآخرين؟ وهل يتّبع ثنائيّ العصر إرشادات وتعليمات ونصائح أهل الاختصاص؟ أم يتّكل على الفطرة والمعرفة السطحيّة؟ هل يستفيد من نتائج العلوم النفسيّة والاجتماعيّة وحتى الروحيّة؟ أم يعتبر بأنّ الغرام والإعجاب والنزوة فقط يحقّقون النجاح والسعادة؟ طبعًا، تُطرح الأسئلة، لأنّ عددًا وفيرًا من المتزوّجين لا يملكون المعلومات الصحيحة والكافية أو يتحلّون بالنضج الكافي، أو يملكون الإرادة الحرّة أو يتمتّعون بالحريّة الداخليّة أو القدرة على الاختيار أو معرفة متطلّبات الزواج والواجبات المنوطة بهم، أو القدرة على الاتّصال والحوار أو الاقتناع بأهميّة المساومة والاتّفاق على الأمور الأساسيّة والجوهريّة، لنجاح الحياة الزوجيّة. "تُعتبر الحياة المشتركة، بالنسبة إلى الرجل والمرأة على السواء، ضمن الزواج، مشروح تحدٍّ متواصل ومغامرة جريئة. فهي تُصقل حياتهما صقلاً: أي إنّ الشراكة تُظهر كُلاًّ من الشريكين على حقيقته، فتُهيأَ له المناخ المؤاتي ليحقّق ذاته. وتُفسحَ له في المجال لإبراز شتّى أنواع الصفات الحسنة التي يتحلّى بها. فالشراكة إذًا هي المكان الطبيعيّ للشريك كي يتفاعل مع محيطه العائليّ وشريكه وحتّى مع ذاته".

يمكننا القول، أنّ أغلبية المتزوّجين حديثًا، لا يفقهون ماهيّة الحبّ والزواج والعائلة، ولا يستطيعون تحقيق أهداف الزواج وغايته، وذلك لأسباب كثيرة. من هنا، أهميّة وضرورة الاستعداد للزواج. لتساعد مراحل الإعداد للزواج إلى تقديم المعلومات العلميّة وحتّى العمليّة. تُدرك راعويّة الزواج والعائلة في الكنيسة، أنّ الزواج معرّض للفشل وللاهتزاز والدّخول في صعوبات ومشاكل جمّة، كما إلى حالات من النزاعات والتوتّرات.

2- واقع أليم

بالمطلق، الحياة العلائقيّة بين أفراد المجتمع، وعلى جميع الأصعدة، معرّضة لشتّى أنواع التعقيدات والصّعوبات والمشاكل وحتّى إلى الفشل. ومع ازدهار الحياة الاجتماعيّة والعلوم الاجتماعيّة والنفسيّة والعلائقيّة، يبقى فنّ التواصل والاتّصال والحوار، فرصة عمليّة لتخطّي أغلب العقبات، إذا أُحسِنَ استعمال تلك العوامل، التي تسهّل اللقاءات بين الناس، كما تعزّز فرص النجاح في حلّ النزاعات.

يُدرك عالمنا اليوم، أنّ إنسان العصر بحاجة إلى السّلام والوئام، لكي يحقّق دعوته، التي دعاه إيّاه الخالق، ألا وهي العيش بسلام مع الخالق والإنسان والطبيعة.

يتخبّط عالمنا بالتوتّرات والضغوطات والاضطرابات، ممّا ينتج عن ذلك نزاعات وصراعات حادّة ومؤذية للحياة البشريّة، لا سيّما للحياة الزوجيّة والعائليّة. تتعرّض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الحياة الزوجيّة والعائليّة إلى نزاعات وتوتّرات ومشاكل وصعوبات وحتّى إلى الفشل والكراهية والحقد.

أمام هذا الواقع الأليم، أدركت راعويّة الزواج والعائلة، أهميّة وضرورة إعداد وتأهيل ومرافقة ومتابعة حياة الأزواج، لا سيّما بعد الاحتفال بسرّ الزواج. تتمّ تلك المرافقة والمتابعة، من عدّة جوانب، بطرقٍ مختلفة ومتجدّدة ومتطوّرة، من أجل تدعيم وإبراز الزواج المسيحيّ، والحدّ من الجروحات والفشل والتفكّك الأسريّ. تحاول راعويّة الزواج والعائلة، في خضمّ مسيرة الزواج، التي يشوبها في بعض الأحيان خلافات ونزاعات، قد تؤدّي إلى انفصال الرجل والمرأة، إلى محاولات ترميم العلاقة الزوجيّة، من خلال تقديم الوساطة والمصالحة الراعويّة.

3- وساطة أم مصالحة؟

تُستعمل بالمطلق كلمة أو مفهوم الوساطة في شتّى الميادين، من خلال التحكيم. فهو يحدّد عمليّات التوصّل إلى اتّفاق أو مصالحة بين أفرقاءٍ في النزاع. كما تنطوي على مداولات، تؤدّي إلى حلول، ربّما تقبلها الأطراف المتنازعة أو ترفضها. ويتضمّن التحكيم مداولات على أن يكون مفهومًا، أنّ النتائج ستكون مُلزمة للأطراف المتنازعة. تهدف الوساطة إلى تقديم حلول لأزمةٍ ما؛ كما تعمل إلى التوصّل إلى اتّفاق في ما بين المتنازعين. تحاول الوساطة أن تتوسّط لإقامة الصّلح بين المتخاصمين. فهي تتدخّل بطريقة مباشرة، من أجل الخير العام. "يُعرف بالوساطة القانونيّة، أي التحكيم، القيام بالتوسّط بين طرفين للتوفيق بين وجهات النظر ولإصلاح ذات البين وتسوية الخلافات". إنّها تتدخّل من أجل المصلحة العامة.

بالتأكيد هناك وسطاء يتوسّطون بين المتنازعين. فهم يتحلّون بالقيم والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة، كما بالحكمة والمعرفة والتروّي، وقدرة التواصل والاتّصال والحوار، ولا سيّما موهبة وقدرة الإصغاء. تسعى الوساطة إلى المصالحة، أي إلى ترميم العلاقة وإعادة الأمور المتنازع عليها، إلى سابق عهدها، ذلك في بعض الأحيان بأقلّ ضررٍ ممكن. في بعض الحالات المتعثّرة، دخلت الوساطة، فأدّت إلى نجاحات بالرغم من بقاء بعض الجروحات والآلام؛ كما إلى عدم النجاح وتثبيت الفشل والخلاف، أو إلى تنظيم الخلاف.

يحدّثنا الكتاب المقدّس عن المصالحة. وتظهر من خلال حب الله للبشريّة، بإرسال ابنه الوحيد لخلاص العالم، وذلك بموته من أجل مغفرة خطايانا. فالمسيح صالحنا مع الله الآب "أمّا الله فقد دلّ على محبّته لنا بأنّ المسيح قد مات من أجلنا إذ كنّا خاطئين ]...[ فإن صالحنا الله بموت ابنه ونحن أعداؤه، فما أحرانا أن ننجو بحياته ونحن مُصالحون! لا بل إنّنا نفتخر بالله، بربنا بيسوع المسيح الذي به نلنا الآن المصالحة" (روم 5: 8-11).

يتمّ الارتداد أو التوبة في الحياة اليوميّة، من خلال أعمال توبة ومصالحة مُعبَّر عنها: الاهتمام بالفقراء، وممارسة العدالة واحترام حقوق الآخرين، والإقرار بالأخطاء تجاه الأخوّة، والإصلاح الأخويّ، ومراجعة الذات أي الضمير، وقبول الصعوبات والآلام من أجل العدالة؛ وحمل الصليب وإتّباع المسيح الذي يوصل إلى التوبة. تقوم المصالحة على إنهاء الخلاف بين المتنازعين، باستعادة العلاقة الوديّة التي كانت قائمة سابقًا. إنّها توفّق بين المتخاصمين وتُعيد الوئام والسّلام والاتّفاق.

تصبّ جهود راعويّة الوساطة والمصالحة في المجالين الثقافيّ والاجتماعيّ في الحياة العامة، من هنا ترفض مبدأ "العين بالعين والسنّ بالسنّ" (متى 5: 38). فهي تحقّق توجّهات ورسالة وتعاليم الكنيسة، أي بجعل العالم أكثر إنسانيّة ورحمة، والعمل على تحقيق مفهوم المغفرة والمسامحة. تؤمن الكنيسة بأنّ الحبّ أقوى من الخطيئة. فهي تعلّمنا أنّ الغفران هو الشرط الأوّل لتحقيق المصالحة، وليس فقط في علاقة الله مع الإنسان، ولكن أيضًا في العلاقات بين البشر. لا يمكننا أن نتصوّر عالمًا من دون غفران ورحمة، لأنّ ذلك يؤدّي إلى عالم تسوده عدالة باردة وغير محترمة، فبذلك يُصبح كل فرد يطالب بحقوقه تجاه الآخر.

تهتمّ الكنيسة بتحقيق رسالتها من خلال الدعوة إلى أن يتصالح المؤمن مع ذاته ومع الله وأخيه الإنسان. فهي تحمل سرّ المصالحة، لأنّ بطبيعتها وطبعها “مصالِحَة”، كما أنّها تنقل للآخرين العطيّة بأنّها غُفر لها ومتّحدة مع الله. “والكنيسة مصالِحة لأنّها تعلن رسالة المصالحة على ما فعلت دائمًا عبر تاريخها ]…[ وهذا هو السبيل الذي لا بدّ منه للوصول إلى التفاهم بين الناس. والكنيسة مصالِحَة أيضًا لأنّها ترشد الناس إلى الطرق وتضع في متناولهم لبلوغ المصالحة. وهذه الطرق هي تغيير القلب والتغلّب على الخطيئة ]…[ أمّا الوسائل فهي الإصغاء المستمرّ الواعي لكلام الله، والصلاة الشخصيّة والجماعيّة ولا سيّما الأسرار، وهي علامات وأدوات حقيقيّة للمصالحة، ]…[ أيّ سرّ المصالحة أو التوبة” ويتابع البابا قوله ” لنؤكّد أنّ الكنيسة لتكون مصالِحة، يجب أن تبدأ بأن تكون مصالَحة ]…[ وأن تصبح أكثر فأكثر جماعة، العاملين باستمرار على الارتداد إلى الله والحياة معه”.

يحتاج الإنسان إلى تغيير داخليّ وارتداد قلب، لكي يسلك طريق الوحدة مع الآخرين. فالارتداد أو التوبة الشخصيّة، هي الطريق الضروريّة، للوصول إلى الانسجام مع الآخرين.

يُظهر العمل الراعويّ، أنّ الكنيسة تقدّم للمؤمنين طرقًا للمصالحة من خلال عدّة وسائل. من هنا، يبقى الحوار الراعويّ، الذي يهدف إلى المصالحة، من خلال الوساطة الراعويّة، التزامًا أساسيًّا لمشروع الكنيسة، في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات. من هذه المعطيات التي تصبّ في خانة المصالحة، عبر الوساطة الراعويّة، ترتكز طبيعيًّا على اللاهوت والروحانيّة، كما تتضمّن عناصر أساسيّة من علم النفس، والاجتماع، وسائر العلوم الإنسانيّة. تلك الأمور، يمكن أن تساعد على توضيح الحالات، وطرح المشاكل والصعوبات، وإقناع الأشخاص المعنيّين، باتّخاذ قرارات ملموسة.

تستند راعويّة الزواج والعائلة، في عملها بخصوص الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، على روحيّة الكتاب المقدّس، أي تعاليم السيّد المسيح، كما على قوانين الكنيسة، في ما خصّ سرّ الزواج. تستوحي عمليّة الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، من بعض النصوص والبنود القانونيّة، التي تحاول فضّ الخلافات والنزاعات بين الزوجين، قبل تقديم الدعاوى لدى المحاكم الروحيّة؛ وذلك عملاً بتعاليم السيّد المسيح والكنيسة. “على جميع المؤمنين، لا سيّما الأساقفة، أن يسعوا جهدهم، مع صيانة العدالة، لتجنّب الخصومات بين شعب الله، ما أمكن ذلك، أو لحلّها سلمًا بأسرع وقت”. تأخذ راعويّة الزواج والعائلة، مضمون هذا القانون، بجدّية، وتعمل على أساسه، للمساهمة في الوساطة الراعويّة، والتي هي مطلب مُلحّ وأساسيّ وجوهريّ، في عمليّة الإصلاح، والتقارب بين الزوجين، من أجل تدعيم التصدّع، وإعادة اللحمة فيما بينهما، بمساهمة المُصلحين، التي تنتدبهم الراعويّة. تتلقّف الوساطة الراعويّة، دعوة السيّد المسيح لكلّ مؤمن، لأن يصالح أخاه قبل تقديم قربانه (متى 5: 24)؛ كما إلى إرضاء الخصم “سارع إلى إرضاء خصمك ما دمتَ معه في الطريق لئلاّ يُسلمُكَ الخصم إلى القاضي والقاضي إلى الشرطيّ، فتُلقى في السجن” (متى 5: 25 ولو 12: 58-59). تهدف الوساطة الراعويّة، إلى مصالحة المتخاصمين في رعاية العدل، أي أنّه يجب التدخل بصورة مباشرة، من خلال الإصغاء، والحوار والمنطق، والإقناع، دون الضغط والإكراه والترغيب والترهيب، لأنّ الوساطة، لا تبغي مصالحة تسوية على حساب فريق دون آخر، أو استغلال ضعف شخصيّة أحد المتخاصمين، أو فرض المصالحة بالإكراه، أو سوء استعمال القوانين والشرائع؛ فهذا حتمًا، يتحوّل إلى ظلمٍ وهضمٍ للحقوق، كما إلى استغلال المحبّة والغفران والتوبة والندامة.

4- القوانين في خدمة المصالحة

تستفيد الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، كما ذكرنا سابقًا، من القوانين الكنسيّة؛ لتقوم بدورها الرسوليّ والإنجيليّ، في هدم الهوّة بين المتخاصمين، وإعادة السّلام بينهما، إذا أمكن. وينصّ القانون الكنسيّ على أن يساهم القاضي في عمليّة الوساطة القانونيّة، مع مساندة الوساطة الراعويّة “على القاضي، في بدء الخصومة أو في وقت آخر يلوح فيه أمل بإيجاد مخرج صالح، أن لا يُهمل حثّ الخصمين ومساعدتهما على العمل معًا للبحث عن حلٍّ عادلٍ للخصومة، وإرشادهما إلى الطرق الملائمة للوصول إلى مثل هذا الحلّ، مستعينًا بوساطة أُناسٍ رصينين”.

تحاول الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أن توضّح وتشرح للرجل والمرأة، في حالة النزاع والخلاف والخصومة الحادة، “وساطتها” أو “تدّخلها” المباشر، من أجل تنظيم المصالحة أو تنظيم الخلاف، بأقلّ ضررٍ ممكن عليهما، وعلى أفراد عائلتهما. من هنا، المصالحة هي مسألة مبدأ. بالمطلق لا يوجد أحد مذنبٌ تمامًا، أو بريء تمامًا، لأنّ الحياة الزوجيّة، هي شراكة في كلّ شيء، حتّى في الأخطاء والنجاحات بطريقة غير مباشرة؛ لذا على الرجل والمرأة، أن يعرفا التمييز لمجمل أمور حياتهما، لا سيّما للتناقضات والاختلافات، التي غالبًا تؤدّي إلى الآلام والجروحات والأحزان والظلم، لا للغنى والتكامل.

تتطلّب الوساطة الراعويّة العمل البراغماتي، والمتابعة والمرافقة، والقدرات العلميّة، والحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ، والعمق الروحيّ. ترفض الوساطة الراعويّة التعدّي على حقوق الآخرين، كما الظلم والعنف والكراهية والانتقام، بل تبحث جاهدة إلى خلق ذهنيّة سلام بين المتزوّجين، وإلى اعتماد عمليّة استباقيّة ووقائيّة على التربية على الحبّ والمبادئ. وهي تحاول معالجة الأمور المعقّدة، التي تؤدّي وتسبّب النزاعات. تستفيد الوساطة الراعويّة من مكاتب الإصغاء في الأبرشيّات والرعايا، لمعالجة النزاعات في بداياتها من خلال اللقاءات الشخصيّة بين العاملين في مكاتب الإصغاء والمتزوّجين. وُجدت مكاتب الإصغاء لاستقبال العائلات التي تمرّ بصعوبة أو المجروحة. وبهذا الخصوص يشدّد البابا فرنسيس على “ضرورة إيجاد راعويّة المصالحة والوساطة من خلال مراكز استشارات متخصّصة في الأبرشيّات”؛ ويتابع قوله “سيكون من الضروريّ لذلك أن تتوفّر، بالنسبة للأشخاص المنفصلين، وللأزواج الذين يعانون الأزمات، خدمة مركز معلومات واستشارات ووساطة مرتبطة بالرعويّة العائليّة والتي تستقبل أيضًا الأشخاص في أثناء إجراءات التحقيقات الأوّليّة”. ويؤكّد البابا على ضرورة إنشاء تلك المراكز بقوله “ينبغي أن يُصبح مكتب الرعيّة قادرًا على أن يستقبل العائلات بترحاب وبحرارة وأن يعالج حالات الطوارئ العائليّة أو أن يوجّه الأزواج إلى مَن يستطيع مساعدتهم”.

5- فاعليّة الوساطة الراعويّة

يتطلّب من الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، المؤهلات والمقدرات والوسائل، التي تؤدّي إلى المصالحة، أو إلى تنظيم الخلاف والنزاع (في حال الفشل)، والذهاب إلى التحكيم، من خلال الدعاوى ، بأقلّ ضررٍ وغضب وحقد وانتقام وحزن واضطراب. ومن بعض المؤهلات المطلوبة: فنّ التواصل والحوار والاتّصال والمتابعة. يقول المزمور “إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم”. يحاول الوسطاء أوّلاً، تدريب المتنازعين على معرفة الإصغاء إلى كلمة الله، لكي لا تتصلّب قلوبهم؛ لأنّه عندما ينقطع الحوار والإصغاء، لبعضهم البعض، تُصبح قلوبهم قاسية، وتنغلق على ذاتها، وتُصبح غير قادرة على سماع كلام الله، وحتّى إلى مشاعر وأفراح وآلام الآخرين.

تركّز الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، على أهميّة الإصغاء وضرورته، كما على الحوار المباشر، من أجل إيجاد بعض الحلول الملموسة والواقعيّة. “غالبًا ما لا يكون أحد الزوجين بحاجة إلى حلّ لمشاكله، إنّما إلى الإصغاء إليه. يريد أن يشعر بأنّه قد تمّ الإصغاء إلى معاناته، إلى خيبة أمله، إلى خوفه، إلى سخطه، إلى رجائه، إلى حلمه”.

تواجه الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، كمًّا من الصعوبات والتحدّيات، التي عليها مواجهتها، أمام الأزمات، وحالات الإحباط واليأس، والاشمئزاز والخوف، والاضطرابات المستمرّة، بشأن الارتباط المقدّس، الذي قام به الرجل والمرأة. تحدّثنا آنفًا عن أهميّة نتيجة الوساطة الراعويّة في المصالحة والغفران والندامة، “فبعض العائلات تتهاوى حين يتبادل الزوجان الّلوم، لكن تُبيّن التجربة أنّه مع مساعدة مناسبة، ومع فعل نعمة المصالحة، فإنّ نسبة كبيرة من أزمات الزواج يتمّ التغلّب عليها بطريقة مَرضية. فمعرفة مَنح الغفران والإحساس بأنّه تمّ فعلاً هي تجربة أساسيّة في الحياة العائليّة. إنّ فنّ المصالحة الشاق، والذي يحتاج إلى دعم النّعمة، هو بحاجة إلى تعاون الأقارب والأصدقاء بسخاء، وأحيانًا إلى مساعدة متخصّصة من الخارج. تُدرك الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أنّ قوّة الإصغاء وقدرته، تَكمن في جذور المصالحة، التي تؤدّي إلى الوفاق والسّلام. من هنا، تزرع تلك الوساطة، الرجاء والأمل، في تحقيق النجاحات، وتؤمن أيضًا ب”غير المتوقّع”.

يتطلّب من الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أكثر من أي وقت مضى، بسبب كثرة النزاعات والخلافات، والعوامل الداخليّة والخارجيّة، التي تؤثّر سلبًا، على حياة الثنائيّ؛ الشجاعة والمجازفة، في متابعة مسيرة الوساطة، لاستقبال العائلات بتفانٍ ومجّانيّة، وحبّ كبير، لا سيّما التي تعاني من تجارب المحن، والخصومة، والهجر، وتقديم الدعاوى لدى المحاكم الروحيّة. تذكّرنا الوساطة الراعويّة بالراعي الذي يذهب يفتش عن الخروف الضال.

تعاني مجتمعاتنا من أزمات أخلاقيّة، وروحيّة واقتصاديّة، واجتماعيّة وعلائقيّة ونفسيّة، ممّا يؤثّر سلبًا على الحياة الزوجيّة، فينتشر العنف الأُسريّ، والتفكّك العائليّ، فيختار الثنائيّ الهجر أو الانفصال، عند أوّل أزمة تمرّ أو تحدٍّ يواجهه. تعود تلك الأمور إلى أسباب شتّى، لا سيّما روح العالم الداعية إلى الأنانيّة والفرديّة، وعدم النّضج والوعيّ، بعيدًا عن كلّ استعداد للتضحية وللتنازل والمغفرة، متجاهلين أو جاهلين، أهميّة وقوّة ونعمة سرّ الزواج، وديمومته كعهدٍ مقدّس، أراده الله الخالق للزوجين، لعيش دعوة الحبّ والقداسة.

بعد هذا العرض، لا بدّ من تذكير: ينبغي على راعويّة الزواج والعائلة، أن تأخذ على عاتقها مع الأبرشيات، برامج الإعداد للزواج وتفعيلها على جميع الصُّعُد. الإعداد لسرّ الزواج، بمراحله البعيد والقريب والمباشر، يسهّل حياة الرجل والمرأة، ممّا يخفّف الصعوبات والمشاكل، مع إمكانيّة وجود بعض الحلول. “ولكي ينجح هذا الإعداد، يجب تحديد أهداف كلّ مرحلة ليحصل الخاطبان على تدريب كامل ومعمّق وليستثمروا إمكاناتهم البشريّة بذكاء ]…[ الإعداد للزواج له تأثيرٌ على نجاح أُسر المستقبل التي لا يمكنُ ارتجال أساسِها ]…[ الإعداد أمرٌ ضروريٌّ لأنّه يوفّرُ معلوماتٍ وتدريبًا للأزواج المستقبليّين من أجل إكمال نضوجهم ]…[ يساعدهم على الحوار فيما بينهم ]…[ ينيرُ دربهم قبل البدء، ممّا يساعدهم على أن يكونوا أكثر تطوّرًا واستعدادًا لمواجهة الصعوبات والمشاكل التي تنتظرهم ]…[ يساعد على التخفيف من الخوف من الحياة الزوجيّة والبدء بالمستقبل استنادًا إلى أسس متينة وواضحة، بهدف العيش بسعادة”.

6- مراكز الإصغاء مراكز رجاء

تعمل راعويّة الزواج والعائلة، على إنشاء مراكز إصغاء، من أجل وساطة ومصالحة ومرافقة الأزواج. وكما ذكرنا سابقًا، ضرورة وأهميّة الإصغاء والمرافقة والمتابعة للمتزوّجين، حتّى لو لم يكن هناك حالات من الخلاف والتشرذم، بل من أجل الوقاية والمتابعة وتدعيم الحياة المشتركة. نعم، إنّ مكاتب الإصغاء، تهدف إلى الإصغاء إلى مشاكل الأزواج والعائلات ومصالحتهم، من خلال أخصّائيّين مؤهّلين، لتقديم الإرشادات النفسيّة والعلائقيّة والروحيّة وحتّى القانونيّة. تُسهم الوساطة الرّاعويّة من خلال مراكز الإصغاء إلى التوصّل في بعض الأحيان، مع العائلات المتخاصمة، إلى اتّفاق فيما بينهم، كالنفقة والحراسة، والحضانة والمشاهدة والاصطحاب. من هنا، تعمل الوساطة الراعويّة، على حسن "إدارة النزاع"، في حال فشل المصالحة، قبل إحالة الدعوى إلى المحكمة الروحيّة، عبر توقيع اتّفاق خطّي بين الزوجين، وضمّه إلى ملف الدعوى. كما تعمل الوساطة الراعويّة، على متابعة الزوجين المتخاصمين، خلال الدعوى، وبعد الحكم.

تؤكّد تلك المعطيات، أهمية وضرورة وجود مراكز الإصغاء، من خلال تفرّغ متخصّصين محترفين، ذوي خبرة، يتمتّعون بكفاءات علميّة، ومؤهّلات إنسانيّة وأخلاقيّة، وبروحانيّة مسيحيّة، تؤمن بقدسيّة العائلة، وبسرّ الزواج المقدّس، وتعاليم الكنيسة. ومن أحد أدوار مراكز الإصغاء، مرافقة العائلات، خاصةً في السنوات الأولى، من الحياة الزوجيّة، وحثّ الزوجين على ضرورة اعتماد فنّ الاتّصال والتواصل، والحوار وحلّ أيّ خلاف بينهما.

تتواصل مراكز الإصغاء، من خلال الوساطة الراعويّة، مع المحاكم الروحيّة، من أجل تنسيق ومتابعة عمل نجاح الوساطة والمصالحة. من هنا، ضرورة التواصل مع الأسقف وكاهن الرعيّة، لإنجاح المهمّة الصعبة؛ ألا وهي إعادة السلام، والطمأنينة، إلى حياة المتخاصمين. تتبنّى عادةً، مراكز الإصغاء مقاربة شاملة لحياة الزوجين، التي تساعد على حلّ مشاكلهما العائليّة كافة. كما تستعين بالجماعات العائليّة الرعويّة، المتواجدة في الرعايا، التي تُسهم في الوساطة والمصالحة، والمواكبة الروحيّة والعائليّة وحتّى الاجتماعيّة.

يدعو البابا فرنسيس، إلى المحافظة على العائلة، لأنّها خير للمجتمع "إنّ خير العائلات هو مصيريّ لمستقبل العائلة والعالم والكنيسة". ويتابع قوله "فالعائلة هي خير لا يستطيع المجتمع أن يتخطّاه، إنّما بحاجة إلى أن يُحافظ عليها". يترافق هذا الكلام، في خانة القانون الكنسيّ، حيث يحضّ الرّعاة، على المحافظة والسهر على العائلات، لأنّها طريق الكنيسة، والمدعوّة للقداسة والحبّ، وإلى حبٍّ حرّ من دون حواجز ولا حدود، يبرهَن عنه بتقديم الذات حتّى الموت على الصليب. يقول القانون الكنسيّ بهذا الخصوص "بعد الاحتفال بالزواج، على رعاة النفوس أن يمدّوا المتزوّجين بعونهم...". من هنا، لا بدّ من المتابعة الراعويّة، ما بعد الاحتفال بسرّ الزواج، من أجل تذكير المتزّوجين، بضرورة المحافظة على قدسية الزواج، ونجاحه على جميع الصُّعُد، باستعمال الوسائل الضروريّة، والطرق العلميّة والعمليّة، من أجل تخطّي الحواجز. لا يقف مشروع الزواج ومسيرته، ولا ينتهي، عند مجرّد الاحتفال به كسرّ، وإنّما يستمرّ حتّى الموت.

تحاول الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أن تكتسب، وتختبر "فنّ الإصغاء" كما أن تُسهم في "فرح المصالحة". تستعمل الوساطة الراعويّة، أساليب وتقنيات حديثة ومتطوّرة، في مجال علم النفس، والاجتماع والاتّصال والحوار، ممّا يعزّز فرص النجاح، في التوصّل إلى حلّ الخلافات، وعيش "فرح المصالحة"، المبنيّة على اتّفاقات شفويّة ومكتوبة. يتطلّب الوصول إلى نجاحات ملموسة وواقعيّة، تطبيق بعض المبادئ العلميّة والعمليّة، في فنّ التفاوض، والالتزام بالنصائح وتطبيق الاتّفاقات، كما المتابعة الحثيثة والجدّية، من أجل إنجاح عمل الوساطة الراعويّة، بتحقيق الأهداف المرجوّة.

تستعمل الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، جميع الإمكانات والوسائل، من أجل تصحيح الخلل وتنقيته من الشوائب، من خلال الحوار المباشر مع المتخاصمين: عرض المشكلة من قبل الزوج والزوجة كلّ واحدٍ على انفراد، ومن ثمّ وجهًا لوجه لسماع الاعتراضات والادّعاءات والرأي الآخر المختلف. ومن ثمّ يتحوّل الأشخاص نحو الأخصّائيّين لمتابعة مسيرة التفاوض، من أجل الوصول إلى تسوية، أو إلى مصالحة، تنبع من الغفران والتوبة والندامة.
تتمّ هذه العمليّة، من خلال الرّعاة والأهل والأصدقاء ولا سيّما الأخصّائيّين (ضرورة الحياديّة، حفظ السرّ، التحلّي بالإصغاء وسماع الشكاوى، الإيحاء بالثقة، المهنيّة العالية، التأكّد من حريّة الأشخاص الداخليّة). تضع الوساطة الراعويّة فترة من الزمن، يتخلّلها الحوار المباشر، والدعوة إلى الصلاة، والرجوع إلى الذات وإلى الله، كما إلى القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، مع فحص ضمير يطال مسيرة حياة الثنائيّ. ويُستحسن العودة إلى دراسة وقراءة ماضي الثنائيّ وخبراته وخياراته للزواج ومفهومه للحبّ وللحياة الثنائيّة والعائليّة. بالتأكيد، تحافظ الوساطة الراعويّة على السريّة التامة لمسيرة المصالحة.

7- ويبقى أمل

تتوقّف في بعض الأحيان مسيرة المصالحة في نصف الطريق، وذلك لأسباب عدّة. يمكننا القول، أنّ الوساطة الراعويّة في حلّ الخلافات الزوجيّة، تخلق مساحة جديدة من الحوار والإصغاء، ممّا يساعد الأزواج على التعبير والإعلان عن مشاكلهم وصعوباتهم، وشكواهم وإدّعائهم. كما تمنح الفرصة للأزواج، بالبحث من خلال أنفسهم، وبفضل الحوار، عن مخارج واقعيّة وعلميّة وملموسة، لحالاتهم المتعثّرة والعصبيّة والمؤذية لهم، ولأفراد العائلة. تقدّم الوساطة الراعويّة للعائلات المجروحة دعمّا معنويًّا ونفسيًّا، من أجل تخطّي أغلب أزماتهم، وحملهم على المصالحة، وتجديد "العهد"، بالاستفادة من طرق جديدة وأساليب منوّعة، من أجل تحقيق غاية الزواج، والحياة العائليّة، ألا وهي السعادة "الممكنة والمعقولة". كما تعلّمهم الاتّكال على قيمة وضرورة وأهميّة، التواصل والحوار، فيما بينهم. كما تدفعهم، في حال فشل المصالحة، إلى التمسّك بدورهم كأهل ومربّين، من خلال التواصل فيما بينهم. كما تحذّرهم من إدخال الأولاد، في صراعاتهم العقيمة، بالطلب منهم حمايتهم، من مفاعيل خلافاتهم. كما تذكّرهم بحقوق الأولاد، بخلق أجواء مريحة، وتربية سليمة ومتابعة ومرافقة.

بالرغم من الصعوبات والمشاكل والخلافات الزوجيّة الحادّة، التي تطال عددًا من المتزوّجين، يبقى الأمل حالة نعوّل عليها، كما الرجاء نعيشه، لمساعدة الأزواج المتعثّرين، على أمل أن يجدوا الحلول لأزماتهم.

بالرغم من كلّ شيء، يبقى الأمل في تثبّت، أنّ الحبّ ممكن بين الرجل والمرأة، ونجاحه ضمن الحياة الزوجيّة والعائليّة، واقع لا بدّ من أن يحقّق الفرح والسعادة، والاستقرار والأمانة، إذا تمّ التحضير والاستعداد له، وامتلاك كلّ المؤهلات والمقدرات، واستعمال الطرق الصحيحة، وتطبيق المفاهيم والمبادئ بطريقة صحيحة، مبنيّة على معطيات علميّة ووسائل عمليّة، وأخذ القرار "بالبقاء معًا"، بالرغم من كلّ شيء.