موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٢٤ أغسطس / آب ٢٠١٥
أغصان الكرمة… المسيحيون العرب

عمران القيسي :

يصمت، يرتشفُ، رحيق الزمن، حيث الكنيسة الحجرية في تلك الشعاب المعشوشبة قرب تلكيف وباطنايا وألقوش وغيرها، من القرى العراقية النصرانية، التي لم تكن تحلم إلاّ ببعض من رسائل الاغتراب، ورشفة من النبيذ المعتّق. آباء عرفناهم، أدباء، ومثقفين، ومتباهين بالميراث الصوفي الإسلامي المسيحي، أليس طريق النسّاك واحد يلمّ خطوات الجميع، مسيحيين ومسلمين؟

المسيحيون في العراق بالذات هم الخميرة، التي يستوي وينضج من رائحتها عجين الحضارة الرافدينية، لذلك من حق هذا المفكر عبد الحسين شعبان -أدام الله قلبه نابضاً- أن يُعلن هذه المطالعة الرائعة عن «أغصان الكرمة - المسيحيون العرب» وينشرها في كتاب.

ففي الكتاب الصادر عن مركز حمورابي يدخل شعبان عبر بوابة التأريخ المشرقي في حضرة الحضور المسيحي في دنيا المشرق العربي. إنهم الأقدم، بل الأعمق جذوراً في هذه التربة الخصبة التي انزرع فيها الإسلام في ما بعد.. ألم يولد السيد المسيح في بيت لحم؟ ويأتي الإسلام في ما بعد معلناً إمكانات التآزر والتكامل، مكرّساً في القرآن آيات كثيرة في ذكر المسيح عيسى بن مريم، وقربه من الله ومعجزاته الربانية؟ ثم وفي عز انتعاش «الدولة الإسلامية»، ألم يكن للمفكرين المسيحيين الدور الأكبر في بناء وتأسيس الحضارة المشرقية التي سبقت النهضة الحضارية في أوروبا عقوداً كثيرة؟

ينطلق الباحث عبد الحسين شعبان من منطلق حسّي، قوامه أن الثقافة المسيحية ومنذ أكثر من ألف عام كُتبت باللغة العربية، وهذا هو الاختيار الأعم بجميع التوجّهات النصرانية العربية. ويستند هنا البحث إلى ما استند إليه المطران جورج خضر من بحوث للباحث الألماني «غراف» عبر كتابه «تأريخ الأدب المسيحي العربي»، ويذكر هذا الكتاب العديد من المؤلفات القبطية والسوريانية والنسطورية والمارونية التي كتبت باللغة العربية.

لذلك يستحيل تصوّر موطن السيد المسيح ومسقط رأسه (فلسطين) والعالم العربي كلّه بلا مسيحيين. وسوف يتحوّل الأمر إلى كارثة بسبب ارتفاع معدلات الهجرة وارتفاع موجة التكفير والارهاب والاضطهاد ضد المسيحيين. إن ما يسميه شعبان بالحملة الإسلاموية- الصهيونية ضد المسيحيين، سوف تؤدي إلى قتل ذلك الغنى الذي تضفيه النكهة المسيحية على الوجود الإنساني في هذه البقعة من الدنيا، لأنهم الشفيع الحضاري لكل هذا العالم المشرقي.

يعترف الباحث، وهذا أول اعتراف خطير لكاتب عربي مسلم: بأن منطق الغلبة الإسلاموية، وبعض اتجاهات الحركات الإسلامية، استهدف المسيحيين في السودان ومصر ولبنان والعراق وسوريا. وإن التشريعات الدستورية والقانونية لبعض البلدان العربية أدّت إلى مثل هذا الاستهداف، فالنص الذي يقول: إن الإسلام دين الدولة الرسمي، من دون أن يشير إلى حقوق المسيحيين، إنما يقدّم نفياً حقوقياً للحقوق الشرعية والوجودية للمسيحيين في هذه البلدان، لذلك كان إصرار الحركات التقدمية في العديد من البلدان العربية بأن يقرّ تشريع دستوري مدني يؤكد على أن الدين لله، والوطن للجميع، وأن المساواة هي القاعدة في المجتمع الحضاري العربي والدولة المنشودة، فلا فرق بين مسيحي ومسلم في الحقوق والواجبات. بالطبع يذهب الباحث إلى الحدث الآني، فيركز على الأوضاع القائمة في سوريا منذ 15 آذار 2011 وفي العراق منذ الاحتلال وبشكل خاص عام 2013 وبروز «داعش» على مسرح الحدث الاضطهادي بكل هذه الوحشية والرعب، لاسيّما عقب احتلالها الموصل في 10 حزيران 2014 وتمدّدها في محافظات صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى. أما في لبنان فإنه يراجع مساوئ وتداعيات تلك الحرب اللعينة التي اندلعت عام 1975. لذلك ينادي الباحث بضرورة ارتفاع الأصوات الإسلامية والمدنية العلمانية التي تدين الأعمال الإجرامية ضد المسيحيين، ولا بدّ من وضع حدّ لها لكي لا تخسر المنطقة بتهجيرها إحدى ثرواتها وكنوزها التي لا يمكن تعويضها، لاسيّما تنوّعها الثقافي وتعدّديتها الدينية.

إن خدمة مجانية تقدّم اليوم لإسرائيل عبر اضطهاد وتهجير المسيحيين العرب. لأنها سترى في ذلك مبرّراً لكيانها اليهودي «الصافي»، فهذا العالم العربي الذي لا يطيق المسيحيين العرب، كيف يتجانس مع الديانات الأخرى؟ وهو الذي يشكّل حالة النفي المطلق لوجود أي طرف آخر. إن الصراع الديني- الديني هو ما تسعى إليه إسرائيل، لأنه سيكون صراعاً إلغائياً تناحرياً.. وعندها ستزعم بأنها واليهود سيكونون ضحايا مقابل الغلبة (المسلمة) ولعلّ تصرف «داعش» وسلوكها ضد المسيحيين بشكل خاص يعطي مثل هذا الانطباع الذي تريده إسرائيل.

«إن ما تعرّض له المسيحيون العرب أمرٌ يستحق الوقوف عنده من جانب الجميع مسلمين ومسيحيين، متديّنين وعلمانيين، يمينيين ويساريين، لأنه يتعلق بالتعايش وبصميم العلاقات والحقوق الإنسانية، خصوصاً أنه ليس المسيحيون وحدهم من يدفع الثمن باهظاً…». كما جاء في كتاب أغصان الكرمة.

أما القسم الأول من الكتاب وقد حمل عنوان «المسيحيون وموسم الهجرة إلى الشمال»، فهو استعراض للحالة الراهنة للوضع المسيحي في العراق وسوريا وفلسطين ومصر ولبنان. إزاء موجة التطرّف والتعصّب والتكفير التي ضربت المنطقة. وهنا يركز الباحث على نظرية الإقصاء وفكرة الدولة الإسلامية الصافية، حسب سلوك «داعش» الذي هو التنفيذ البشع لهذه النصوص العدوانية، لكن ذلك ليس بعيداً عن السياسة الصهيونية التي أصابت بالعدوى بعض أقطاب الحركة الإسلاموية. إن التفسير الذي يورده الباحث لمعنى المسيحيين العرب سوف يوصلنا إلى جزئين متلازمين: ديني وقومي. وإذا أوغلنا في الجانب العربي القومي، فإن المسيحية العربية كانت العمود الفقري لأغلب العشائر العربية. فالتغالبة وصلوا إلى تنصير العرب جميعهم تقريباً.

وهنا يورد الباحث مؤكداً «إذا كانت الدولة في عهد الرسول والخلافة الراشدة أقرب إلى دولة دينية بتوجهات مدنية، فإن الدولة الأموية وبعدها الدولة العباسية، بدت كدولة أقرب إلى المدنية بمرجعيات إسلامية. وأصبح الحكم فيها ملكياً وراثياً بعد أن كان بالشورى. وبعد فتح القسطنطينية عام 1453 حصل المسيحيون على إقرار بالحرية في ديانتهم وطقوسهم، وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم، استمراراً لدستور المدينة الذي كان بداية الاعتراف بالتعددية الدينية والاجتماعية، والعهدة العمرية العام 10 هجرية، وهي التي أعطاها الخليفة عمر إلى المطران صفرينيوس لضمان حق المسيحيين في القدس في ممارسة شعائرهم وحماية أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم.

إن دراسة الباحث الدكتور عبد الحسين شعبان لمسألة التغيير وإشكاليات التنوّع الثقافي، جعله يلج الموضوع من مدخل الأقليات، والربيع العربي، مناقشاً بذلك مخاطر صعود التيارات الإسلامية التي نظرت إلى الغرب وديمقراطيته بقدر من الريبة. وهذا ما انعكس أيضاً على العديد من الأحزاب العلمانية، بل والتيارات المسيحية، التي جوبهت بموجة من الريبة والشك. ويستحضر الباحث، الأب أنستاس الكرملي، ذلك الذي كان له حضوره اللغوي والفكري والأدبي في النهضة الثقافية في المشرق العربي كلّه. إنه المقارنة المثيرة بين شروط «داعش» على مسيحيي الموصل، وشروط حضورهم الثقافي الذي فرض نفسه على الفكر الموسوعي العربي برمته. لكن الفصل الأهم الذي يناقشه الباحث هو ذلك الذي يفصل بين الإرهاب والجهاد، فالذي يجري الآن هو الإرهاب بكل مواصفاته، وهو بعيدٌ كل البعد عن الجهاد، الذي هو كما قال رسول الله «كلمة الحق أمام سلطان جائر».

إن كتاب عبد الحسين شعبان، هو الضرورة التي نحتاج إليها اليوم، وهو كلمة الحق التي تقال في آوانها، لذلك فإن الدفاع عن المسيحية العربية، هو دفاع عن الإسلام العربي المعاصر، هذا إذا كنا نسعى فعلاً إلى تأسيس الدولة الحديثة المعاصرة التي تضاهي العالم كلّه.

والكتاب يقع في 256 صفحة، وهو مكوّن من أبواب وأقسام عديدة، أغنت البحث وقدمته كوثيقة دفاعية جريئة نحتاج إليها في المكتبة العربية والعالمية.