موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢١ أغسطس / آب ٢٠١٥
مخاوف في بداية سنة دراسيّة جديدة

الأب د. بيتر مدروس :

يزيد من همومنا خصوصًا هموم الوالدين والهيئات الدينية المعنيّة بدء سنة دراسية جديدة في فلسطين وفي بلاد أخرى منها سورية والعراق. ويدرك المرء ضيقة الأهالي في قطاع غزّة وصعوبات عائلات كثيرة لاجئة من زمن النكبة والنكسة وسواهما في الضفة الغربية للاردن والشرقيّة، والمشقات التي تعاني منها اسر كثيرة في الأردن وسورية، ناهيكم عن اللاجئين المتدفقين إليهما... وفي أراضي سنة 1948 خوف كبير من عدم افتتاح العام الدراسي في يافا وحيفا وسائر الجليل لدى المدارس المسيحيّة التي كانت قد نالت من المعونات الحكومية المخصصة لها نسبة 34 بالمئة فقط. وتساءل قدس الأب الفرنسيسكاني عبد المسيح فهيم: "هل الهدف من هذه الإجراءات إغلاق مدارسنا أم تركيعها لكي نسلّمها إلى الدوائر الحكومية ممّا يجعلنا نتخلّى عن رسالتنا السماوية السامية التي نحملها منذ قرون من الزمان؟" وسبب هذا السؤال إجراءات في اتّجاهين أوّلهما أنّ هذه المعاملة استهدفت فقط المدارس المسيحية وما "طالت" مدارس "خاصّة" أخرى، ثانيًا أنّ وزارة المعارف إضافة إلى تقليصها مخصصات المدارس المسيحيّة حدّدت الأقساط التي ممكن أن تجنيها من أهالي الطلبة (من تقرير المطران بولس جاشنتو ماركوتسو).

نظرة سريعة إلى تاريخ المدارس الكاثوليكيّة في فلسطين

يكتفي هذا المقال بالمدارس الكاثوليكيّة لا تجاهلاً للآخرين ولا تقليلاً من قدرهم بل لضيق المقام من جهة، لدى هذا المنبر الأغرّ، ولعدم توفّر المعلومات الدقيقة عن الكنائس الأخرى في هذا المضمار وبفترة من الوقت قصيرة، من جهة أخرى. لذا، يورد المرء على سبيل المثال لا الحصر، مدارس "تراسنطا" أي "الأرض المقدّسة" التي أسسها الآباء الفرنسيسكان حرّاس الاراضي والأماكن المقدسة (رسميًّا منذ القرن الرابع عشر). أول إشارة إلى مدرسة اسسها الرهبان الفرنسيسكان وردت سنة 1598 لدى الكاتب جوفاني كوتويك الذي ذكرَ: "قبل نحو خمسين سنة (أي عام 1548 م) بقرب كنيسة المهد أسّس الفرنسيسكان (اي رهبان القديس فرنسيس الأسيزي وكانوا حاضرين في فلسطين منذ مطلع القرن الثالث عشر) مدرسة لأبناء المسيحيين، ليس فقط اللاتين (الكاثوليك) بل ايضًا الأرثوذكس. وكان الهدف تثقيفهم مجّانًا في الأمور الدينية والدنيوية". ويشهد الراهب اليسوعي "ناو" سنة 1674 أنّ مدارس الرهبان للأطفال كانت مجّانيّة، وكذلك الفارس الفرنسي "دارنيو" سنة 1600. ونقرأ أنّ مدارس الرهبان كانت تقدّم أيضًا وجبة طعام مجّانيّة لطلاّبها. وهكذا كان للآباء الفرنسيسكان قبل سنة 1645 (وهو عام انعقاد مجمع لهم في "طليطة" إسبانيا شدّد على ضرورة المدارس) عشرون مدرسة: ستّة في فلسطين خصوصًا في القدس وبيت لحم والناصرة ويافا، وسواها في كلّ من سورية ومصر وقبرص وتركيا. أمّا البطريركية اللاتينية فكان أحياناً تأسيس المدرسة عندها يسبق بناء دير الكاهن (منذ سنة 1847). وهكذا بسرعة منذ القرن السابع عشر لدى الآباء الفرنسيسكان ومنذ إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية في القرن التاسع عشر كانت مدرسة راعوية رهبانية بقرب كل دير فرنسيسكاني وبقرب كل كنيسة راعوية.

مشكلة المال!

حتى منتصف القرن العشرين كانت معظم المدارس الكنسية مجّانيّة وذلك بسبب عدد الرهبان والراهبات الذين كانوا يخدمونها ويديرونها، ومعروف أن الرهبان ينذرون الفقر ولا يتقاضون أي راتب. وإن حصلوا على أموال أو ورثوا شيئا يقدّمونه للدير. ومع الوقت زاد المعلمون والمدراء العلمانيون بسبب نقص في عدد الرهبان. والعلمانيون بحاجة إلى رواتب يعيشون منها، وإن كانت أحيانًا زهيدة. ومن ناحية أخرى، في كل البلاد، زادت مطالب وزارات التربية والتعليم في شتّى البلاد وصارت تطلب شهادات متخصصة وكفايات علمية وأدبية وموادّا جديدة ما كان للرهبان فيها إلمام. فارتفعت بشكل كبير نفقات المدارس الكنسية والرهبانيّة واضطرّ بعضها للإغلاق، وحافظت أخرى على كيانها بتضحيات جسيمة بحيث بلغ عجز مدارس إحدى الأبرشيات أكثر من اربعة ملايين دولار أمريكي سنويًّا.

قضيّة المناهج

الدنيا في تطوّر مستمرّ بحيث تدعو الضرورة إلى تطوير المناهج وتجديدها لتلائم العصر، من غير تغيير في المبادىء الدينية والأخلاقيّة، ومع مراعاة المحبة والاحترام. وفي شأن مناهج التعليم المسيحيّ نصادف مشكلة بمعنى أنّ معظم طلاّبنا بعد خروجهم من المدرسة لا يطالعون مطبوعات دينيّة بحيث أنّ المواضيع التي لا يتعلمون عنها في المدرسة ستبقى عندهم مجهولة وعليهم خفيّة، مثلاً المجموعات الدينية الحديثة وأهدافها وأفكارها. لذا يجب إقامة دورات تأهيلية مستمرة لمربي التربية الدينية المسيحية لاطلاعهم على المستجدات ولمواجهة التحديات ولاسيّما المعاصرة.

خاتمة
في حين لا يأبه المتحاربون المتناحرون بمصير أجيال كاملة لن تتعلّم بسبب معاركهم الطّاحنة، في حين يسعى قوم إلى تدمير مدارس وإغلاقها بشتّى الوسائل، مع أنّ "من يفتح مدرسة يغلق سجنًا"، يأمل المرء أن يغلب الخير قوى الشّرّ ويسود السلام بدل الحروب ويسطع العلم مع التقوى ومكارم الأخلاق وتسمو الفضيلة على طلب المال والخير العامّ على المصالح الفرديّة والسياسات القمعيّة. ولنلبينّ نداء أطفالنا: "أعطونا الطّفولة"، "علّمونا وربّونا، كما تعلّمتم أنتم وتربّيتم. إجعلونا ننهل من ينابيع الخلاص والعلم والإيمان والآداب". وهكذا نتمم كلمات السيّد المسيح: "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت السماوات". ونحقّق دعوة صاحب المزامير: "هلمّوا ايها البنون واستمعوا لي، فأعلّمكم مخافة الرب!".