موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٤
عظة البطريرك بيتسابالا في عيد العذراء مريم والدة الإله ويوم السلام العالمي 2024

البطريركية اللاتينية :

 

ليكن سلام الرب معكم!

 

عادةً ما أبدأ عظتي بهذه التحية، التي تبدو مجرد إجراء شكلي، تقال دون تفكير، وينقصها بعض الإيمان أيضًا. إلا أن هذه التحية، تحمل حقيقة عظيمة، وهي أن السلام يأتي من الرب يسوع، وهو تعبير عن صلاحه. ليس هذا هو الوقت ولا المكان المناسبين لتقييم الوضع الذي نعيشه. لقد سمعنا بالفعل ما يكفي ولن تتغير مجرى الأحداث، وسنترك  كما كنا من قبل. وهنا، اليوم، يجب علينا أن نوجه أنظارنا نحو المسيح، ونستمد منه القوة اللازمة لتعزيز الثقة المجروحة بسبب الألم.

 

المسيح هو سلامنا. نحن نعرف ونؤمن بذلك. كما ونؤمن أنه مع عيد الميلاد تكونت طريقة جديدة للأحداث البشرية. نقول لأنفسنا هذا طوال الوقت، ومع ذلك، يبدو أن ما نختبره بعيد كل البعد عما نؤمن به حقًا. وقد قلتها مراراً تكراراً، كل شيء اليوم يشير إلى الانقسام والكراهية والاستياء وانعدام الثقة.

 

علينا أن ندرك أن الحرب وسياقها هما للأسف البيئة الطبيعية للإنسانية. منذ قايين وهابيل، لم يتحرر الإنسان أبدًا من مشاعر الغيرة والخوف والقلق على السلطة والانتقام والتملك. إن الحرب، سواء كانت شخصية أو عامة، هي تعبير عن المشاعر السلبية، وعن عدم القدرة على حل الصراعات دون المراوغة أو عنف. باختصار، منذ بداية التاريخ وحتى اليوم، يواجه الإنسان القرار الحر والمسؤول بشأن كيفية التعامل مع الآخرين، وكيف وعلى ماذا يبني وجوده. دعونا ندرك أن شريعة الله ليست مركز حياة الإنسان. فمن دون الله، أو عند استغلال اسم الله لتبرير أعمالنا السلطوية، فإن العالم يصبح بسهولة، تحت رحمة أولئك الذين يريدون تقسيم العالم وتدميره .

 

ووإن كان صحيحًا أن القلب البشري يميل إلى الشر والعنف، إلا أن في داخله رغبة للسلام والحياة أيضاً.

 

لذلك، فإن ميلاد المسيح لم يمحِ الشر، بل عبّر وأظهر مرة واحدة وإلى الأبد، تلك الرغبة في السلام والحياة، الموجودة في قلبنا وفي قلب كل إنسان. يقول القديس برناردو في إحدى خطاباته: "إلى متى تقول: سلام، سلام، ولا سلام؟ لكن الآن... أصبحت شهادة الله ذات مصداقية كاملة (مز 92: 5). هنا هو السلام: لا موعود به، بل مرسل؛ غير مؤجل بل معطى. لم يتنبأ بل حاضر."

 

لم يحل يسوع المشاكل الاجتماعية والسياسية في عصره، لكنه أشار إلى طريق لا يزال حتى اليوم الطريق الحقيقي للذين يريدون بناء ثقافة السلام، حتى هنا، في الشرق الأوسط المعذب: اللقاء، والتعزيز والبحث والبناء. في النهاية، إذا فكرنا في الأمر، فهذا يعني أن نعيش الإنجيل على محمل الجد، ونأخذه كمعيار أساسي لخيارات الحياة.

 

إن الرغبة الجادة في اللقاء ينطوي على ضرورة منح الثقة والقبول، وإفساح المجال لسماع صوت الآخر. وفي كثير من الأحيان، يتطلب الأمر التخلي عن ما يخصنا وأن نضعه جانبًا، مثل رؤية أو رأي أو توقع...

 

في سياقاتنا التي تتسم بالصراع الدائم تقريبا، حيث يختلط الدين والسياسة والهوية الوطنية باستمرار، يتطلب اللقاء شجاعة. في الواقع، تعزز الآراء المختلفة والمتعارضة بالشك المتبادل وانعدام الثقة بين أهل هذه الأرض، وتزرع في ضمائر الكثيرين مفاهيم العنف والنبذ لكل ما يخالفها. هذه الآراء تلوث قلوب الكثيرين، فيتعذر عليهم قبول أي لقاء، ويخلطون بشكل سريع بين السلام والنصر. وهو سوء فهم يحدث في كثير من الأحيان، وليس فقط في الشرق الأوسط.

 

فالسلام الحقيقي، المبني على الرغبة الصادقة في اللقاء والاستقبال والأخوة، يتطلب توبة. إنها قبل كل شيء مسألة تغيير لطريقة التفكير، وتحرير القلب من العنف والانتقام. نحن جميعًا بحاجة إلى توبة، لتنقية نظرتنا حول أحداث الحياة، وبناء ثقافة الجمال. لا يوجد سلام دون اهتداء. لا يمكننا أن نعيش ونتحدث عن السلام إذا لم يتجه قلبنا نحو الله، وإذا لم تكن حياتنا مملؤة بحضوره، وإذا لم نشعر بالحاجة إلى طلب غفرانه كل يوم. وإذا لم نكن قادرين على لفتات الحنان والثقة.

 

يتطلب السلام أيضًا قول الحقيقة في العلاقات، وأن ندرك الشر الذي حدث وآلامنا، وهو ليس بالأمر السهل. إن قول الحقيقة، وتحمل المسؤولية عن الشرور والأخطاء التي ترتكب على الفور أو في بعض الأحيان، لا يعتبر أمرًا مسلمًا به ويتطلب شجاعة كبيرة ومحبة صادقة. لكن الحقيقة تصبح كاملة عندما تقترن بالمغفرة. إن الحقيقة التي لا تنيرها الرغبة في المغفرة تتحول إلى اتهامات مضادة، وفرصة للصراع والإنعزال.

 

الإنسان وحده غير قادر على عيش هذا السمو، فهو غير قادر على الارتقاء إلى هذا النموذج من الحياة. إنها نعمة، إنها هبة، نتلقاها من عَلو. لأنه " ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ" (يو 3: 3)، ولهذا نحن هنا اليوم، لنطلب هذه النعمة، طالبين من الله أن يجعلنا قادرين على هذه النظرة، ألا نستسلم لمخاوفنا، تحت مخاوف الموت وشوكته (1قو15، 55).

 

إني مقتنع بشكل عميق أنه في هذا السياق المعقد، تبقى الدعوة والرسالة الرئيسية للجماعة المسيحية على وجه التحديد هي: بالرغبة في اللقاء، وتعزيز الحرية، والتغلب على الحدود العرقية والدينية والهوية بمختلف أنواعها، وخاصة المكتوبة بشكل متحجّر في عقول الشعوب. لا يتعلق الأمر بترك ممتلكاتنا الجيدة والضرورية، والتي يبنى عليها أسس الحياة المتينة والمشتركة، ولكن ألا نجعلها مجرد قلاع منيعة، ومعاقل لا يمكن الوصول إليها ويجب الدفاع عنها.

 

هناك العديد من الرجال والنساء من كل الأديان الذين حتى اليوم، حتى هنا في أرضنا المعذبة، قادرون على تقديم هذه الشهادة. ولكننا نحتاج أيضًا إلى مجتمع يعرف كيف يعيش هذه الحرية الداخلية قبل كل شيء، وضمن سياقات مفتوحة ومشتركة. ويمكن لمجتمعنا المسيحي أن يحدث هذا الفرق. إنه حلمي وهذا ما أردت مشاركته مع كنيسة القدس العزيزة على قلبي.

 

في الواقع، وكما قلت في سياقات أخرى، إن اختلافنا كمسيحيين لا يكمن في نقاط قوتنا، أو خصائصنا، أو هيبتنا،  بل في خياراتنا المتاحة للمصالحة والحوار والخدمة والقُرب والسلام. فالآخر بالنسبة لنا ليس منافسًا، بل أخاً. بالنسبة لنا، الهوية المسيحية ليست حصنًا ندافع عنها، بل بيتًا مضيافًا وبابًا مفتوحًا على سرّ الله والإنسان حيث نُرحب بالجميع. نحن مع المسيح من أجل الجميع.

 

نسأل العذراء، والدة الإله وأمنا، أن تعطف علينا بنظرتها الأمومية، وتسترنا بظل حمايتها، وتجعلنا في هذا العام الجديد، رجالاً ساعين للسلام في أرضنا المقدسة.