موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ ابريل / نيسان ٢٠٢٢
رسالة المطران جورج أبو خازن بمناسبة عيد القيامة 2022
فما يلي الرسالة الفصحيّة التي وجّهها المطران جورج أبو خازن بعنوان: "إنّه يسبقكم إلى الجليل".
النائب الرسولي للاتين في سورية المطران جورج أبو خاز

النائب الرسولي للاتين في سورية المطران جورج أبو خاز

أبونا :

 

يصعب عليّ، أنا الأسقف، أن أتجاهل هذه الأوقات الصعبة التي نمرّ بها في سورية ولبنان والعراق وبلدانٍ أخرى. كما يصعب عليَّ أن أقول في رسالة القيامة هذه كلامًا يصلح لكلّ زمانٍ ومكان. فأنا لا أكفّ عن سماع صرخات المعانات، وأصوات الاستغاثة، وعبارات اليأس، التي من شأنها أن تخيّب كلّ أمل، وتزيل كلّ تفاؤل، لكنّها لا تستطيع أن تتغلّب على ما فينا من رجاء. «فكونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء» (1 بط 3: 10).

 

في هذه الظروف الصعبة، لا أطلب منكم أن تتجاهلوا ما تعانوه أو تستخفّوا به، أو تزدروه، بل أدعوكم إلى الابتعاد عنه مسافة «رمية حجر» كي لا تغرقوا فيه فيبتعلكم. إنّها المسافة التي يدعونا المسيح القائم من بين الأموات إلى أن نجعلها بيننا وبين الظروف التي نعيشها.

 

فقد أوصانا البابا فرنسيس في رسالة الصوم هذه السنة وقال: «أمام خيبة الأمل المريرة للعديد من الأحلام المحطّمة، وأمام القلق الناجم عن التّحدّيات الكثيرة الطارئة، وأمام الإحباط بسبب النقص في إمكانيّاتنا، فإنّ التّجربة هي انغلاقنا على أنانيّتنا الفرديّة. "الفِتْيانُ يَتعَبونَ ويُعيَون. والشُّبَّانُ يَعثُرونَ عِثارًا" (أش 40: 30). ولكن الله "يُؤْتي التَّعِبَ قُوَّةً، ولِفاقِدِ القُدرَةِ يُكثِرُ الحَول. [...] الرَّاجونَ لِلرَّبّ، فيَتَجَدَّدونَ قُوَّةً، يَرتَفِعونَ بِأَجنِحَةٍ كالعِقْبان، يَعْدونَ ولا يُعْيَون، يَسيرونَ ولا يَتعَبون" (أش 40: 29، 31).

 

ما الذي نفعله حين نبتعد مسافة رمية الحجر هذه؟ نعود إلى الجليل! إنّها العبارة التي قالها الملاك للنسوة بعد القيامة  كي ينقلنها إلى التلاميذ: «إنّه يسبقكم إلى الجليل» (مت 28: 7؛ مر 16: 7). ولماذا الجليل؟ لأنّ التلاميذ اليائسين، الذين استولى عليهم الحزن وخيبة الألم، الذين كانوا يعيشون ظروفًا تشبه ظروفنا، فلا يرون فيها أملًا، عاشوا في الجليل خبراتٍ إيجابيّة: عاشوا الفرح، واختبروا السعادة، وشهدوا كيف ينتصر الخير على الشرّ. في الجليل، كانوا قريبين جدًّا من الربّ.

 

الأزمة التي نعيشها ليست أزمة اقتصاديّة أو سياسيّة وحسب، بل أزمة روحيّة أيضًا. وفي أوقات الأزمات الروحيّة، حسنٌ لنا أن نتبع نصيحة المسيح القائم من بين الأموات: «ارجعوا إلى الجليل». ارجعوا إلى الأوقات السعيدة التي عشتموها في الماضي؛ فهناك ستجدون الربّ. إنّه سيسبقكم إليها وينتظركم، وبتذكّرها سيلتقي بكم مرّةً أخرى.

 

عندما يحدث خلاف بين المحبّين، ويريدون أن يجتمعوا مرّة ثانية، تراهم يتفادون الحديث أو حتّى تذكّر أوقات الخلاف،بل يتحدّثون ويتذكّرون الأوقات السعيدة التي أمضوها معًا في الماضي. وفي أيّام السبي، أيّام الظلام والصعوبات وفقدان الأمل، كان الله يذكّر العبرانيّين باستمرارٍ، من خلال أنبيائه، بشهر العسل الذي قضاه مع شعبه عندما أخرجهم من مصر، وجعلهم يعبرون البحر الأحمر، وقادهم في الصحراء، وذلّل أمامهم الصعوبات.

 

فليعُد كلّ واحدٍ بمخيّلته إلى ذكرى اختبر فيها صلاح الله ومحبّته له... فليتذكّر كيف أظهر له الربّ أنّه يحبّه، وليبقَ معه ويستمتع بمحبّته مرّة أخرى. أو، ليَعُدْ إلى حدثٍ شعرَ فيه بأنّه قريب جدًّا من الله؛ أو شعر بفرح روحيّ شديدٍ وتعزية.

 

حين نفعل ذلك، حين نسترجع الحدث ونعيشه ثانيةً بمخيّلتنا، ستعود تلك المشاعر إلينا، وستُنعش أنفسنا المرهقة، وتجدِّد قوانا، وتساعدنا لننهض ثانيةً ونتابع مسيرتنا. كان الآباء الروحيّون يوصون بأن يترك المصلّي أثرًا مكتوبًا بعد كلّ فترة تأمّل. إنّه نوع من المذكّرات أو الخواطر. ويشرح القدّيس إغناطيوس إحدى فوائد هذه الكتابة ويقول: حين ينتاب نَفس المؤمن انقباض، أو يشعر بيأسٍ أو حزنٍ أو ما شابه ذلك من المشاعر السلبيّة، فإنّ قراءة ما دوّنه في أوقات الانبساط، والفرح، والسعادة، سيعيد إلى ذهنه ذكرى اللحظات الحلوة تلك، وهذه الذكرى ستشجّعه وتدعمه وترفع معنويّاته.

 

أعزّائي. من مآسي ذواكرنا أنّها انتقائيّة. ولكلّ أسف، تنتقي ذواكر غالبيّة الناس الذكريات السلبيّة، فتبثّ في النفس مشاعر هدّامة. «عودوا إلى الجليل». عودوا إلى ما هو إيجابيّ ومفرح في ماضيكم. فإن لم تسعفكم ذاكرتكم، وخيِّلَ إليكم أنّ كلّ شيء في حياتكم كان مظلمًا، ظلّوا منتظرين، اطلبوا معونة الروح القدس، «فالروح القدس... يذكّركم» (يو 14: 26).

 

لن تغيّر «العودة إلى الجليل» ظروفكم، أعرف ذلك. لكنّها ستغيّركم من الداخل. إنّها ستجعلكم أقوى في مواجهة الصعوبات، وستحيي فيكم الرجاء، وتساعدكم على أن تروا الشقاء الذي أنتم فيه بحجمه الطبيعيّ الحقيقيّ بدون المبالغة المتولّدة من القلق والخوف حينها، يبدأ نور القيامة يشعّ في قلوبكم، فتنسحب الظلمة عنها، وتستيقظ أحلامكم وآمالكم التي غفَت متمنّيةً ساعة الموت. «فأينَ يا موتُ نَصرُكَ؟  وأينَ يا موتُ شَوكَتُكَ؟» (1 كو 15: 55). لقد غلبك المسيح، وقام من القبر، ووطئ الموت بالموت، وها هو يسبقنا إلى الجليل، وسوف نلحق به، ونسمع كلامه ثانيةً، فتتّقد قلوبنا في صدورنا حين يكلّمنا (راجع لو 24: 32)، وينقلب حزننا فرحًا ولا ينتزعه أحدٌ منّا (راجع يو 16: 20، 22).

 

أجل، لقد قام المسيح.

 

ونحن، في خضمّ بؤسنا ومآسينا، سنكون شهودًا على ذلك، ونعلن للملأ:

 

المسيح قام... حقًّا قام.

 

وكل عام وأنتم بخير.