موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان: ميلاد المسيح هو ميلاد الحب والسلام
الأب انطونيوس مقار إبراهيم

الأب انطونيوس مقار إبراهيم

الأب انطونيوس مقار إبراهيم :

 

باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين

 

ميلاد المسيح هو كسهم نارٍ ينفذُ في قلب التاريخ شاطرًا إيّاه إلى نصفين، ما قبل الميلاد وما بعده.

 

المسيح هو نور العالم "أنا هو نور العالم.. سيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام.. والله نور وساكن في النور.. والمؤمنون يضيئون بنوره.. يستمدّون منه نورَهم، فكلّ مؤمن يحمل نور الله في داخله قلبًا وضميرًا.. وهو مدعوٌّ الى أن ينشر نور الحق.. والمحبّة والسلام والحريّة في العالم.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد كثيرًا من البشر ممّن لا يحبّون النور ويفضّلون الظلمة عليه جاعلين الظلام مكانهم، فيه يسترون شرورهم وآثامهم.. هكذا يقول الإنجيل بحسب يوحنّا إنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة.  فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور ولا يُقبِلُ إِليه لِئَلاَّ تُفتضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتَظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله (يو3/ 19-21).

 

في كلّ مرّةٍ ونحن نحتفل بالميلاد، نستعدّ بوضع الزينة الخاصة وتنشط المراسلات وتبادل التهاني سواء كانت عبر البريد العادي أو الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعيّ المتعدّدة لتحمل تعابير المحبّة والمودّة والسلام للآخر.. ويحاول كُلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا أن يملأّ الجوّ البارد بدفء المحبّة وحرارة الكلمات الحلوة، ولا ننسينَّ أنّ الملائكة ترنّموا في تلك الليلة البهيجة بترنيمة المجد والسلام: "الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ ولِلنَّاسِ المسّرة". ولا شكّ أيضًا في أنّ الطبيعة على اختلاف مواقعها الجغرافيّة تعبّر بطريقتها عن فرحها بهذا الحدث الفريد.

 

يأتي إلينا العيد هذه السنة ونحن نمرّ بأصعب الأوقات بسبب أزماتٍ تَعصف بلبنان وبكثير من البلدان نتيجة الأوضاع الصحيّة وتفشّي وباء الكورونا ومتحوّراتها وإنن صح التعبير وأولادها، ونحن نأسف شديد الأسف على ما يمرّ به لبنان، على وجه الخصوص، من أزمات مختلفة معقّدة، أدّت به الى تدهور أوضاعه الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

 

لكن دعونا نتأمّل في ميلاد المسيح بيننا نحن بني البشر كواحد منّا يدعونا الى الحريّة.. الحريّة التي لا مثيل لها، فهي أوّلاً حريّة من عبوديّة الخطيئة، وحريّة تحترم حريّات الآخرين.. وحريّة تدفعنا الى فعل الخير... وقد جاء في الكتاب المقدَّس "فإن حرَّرَكم الابن فبالحقيقة تصيرون أحرارًا"..

 

في ظلّ هذه الظروف التي نمرّ بها علينا ألّا نيأس أبداً، ولنعلم جيّدا أّن عيد الميلاد لا يقوم على الزينة الخارجيّة والموائد الزاخرة بالأطعمة والهدايا مهما كانت قيمتها، فهذه الأمور كلّها هي قشور تخفي عنّا المعنى الحقيقيّ والجوهر الأساسيّ لهذا العيد، أيّ جّسد ربّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح "الكلمة صار جسداً وسكن بيننا"، هو الربّ الملك والله الذي ترك مجده وملكوته ونزَل إلينا واتّخذ صورتنا، صورة الإنسان ليخلّص الإنسان.

 

يجب علينا نحن وسط هذه الصعوبات والأزمات ألّا نهتمّ بالقشور التي أبعدتنا عن الجوهر الذي من دونه لا يمكننا أن نشعر بالسعادة. إنّ الآباء القدّيسين اختبروا في حياتهم حلاوة العلاقة مع المسيح فهذا القدّيس شربل مثلًا يقول "يسوع المسيح وحده هو القادر على أن يعطيكم السعادة الحقيقيّة" وهذه القدّيسة تريزا الطفل يسوع تقول متوجّهةً بكلامها إلى يسوع، ما معناه: "سعادتي أن أحبّك".

 

يقوم جوهر العيد أيضًا على عيش العطاء وممارسة المحبّة والدعوة الى السلام "سالموا جميع الناس إن أمكن" على ما قال بولس الرسول.

 

لا تظنّوا أنّ ما نقوم به من مظاهر خارجيّة للاحتفال بالعيد هو أمرٌ كافٍ، فلا الاجتماعات ولا الملابس الفاخرة والموائد المتخمة تحمل معنى العيد في طيّاتها، إنمّا يكمن المعنى في ما نقدّمه للناس ولا سيّما الفقير منهم والمحتاج؛ أولم يقل يسوع موضحًا معيار دينونتنا: "كُنت عرياناً فكسوتموني، وجائعًا فأطعمتموني..." هذه المشاركة الحقّة التي نقوم بها تعطينا معنى الاحتفال بحدث الميلاد وإمكانيّة عيشه لحظة بلحظة والواقع أنّنا في كل مرّة نفعل هذا إنّما نحيا الميلاد.

 

إنّ أفضل طعام يمكن أن نتذوّقه في هذا اليوم وفي كلّ يوم هو طعام القربان المقدّس؛ جسد الربّ ودمه المُعطى لخلاصنا، بهذا السرّ نكون قد عشنا دور العذراء القدّيسة مريم وجسّدناه في حياتنا، فكما حلَّ ابن الله في أحشائها بالجسد الذي اتّخذه منها لخلاصنا هكذا يحلُّ فينا بجسده أينما وُجِدنا وعلينا أن نتّصف بما اتّصفت به العذراء مريم التي ظلّت أمينة على الوديعة المقدَّسة ونكون بدورنا مخلصين لهذه الوديعة بابتعادنا عن كلّ حقد وبغض وخطيئة، مسامحين بعضُنا بعضًا لننعم بغفران الله لنا.

 

علينا أحبّائي أيضًا أن نحافظ على يسوع المولود في داخلنا بالمحبّة لجميع الناس وأن نسيرَ في وصاياه، ولا ننسى الرعاة الساهرين على قطعانهم والفقراء الشاهدين على ميلاد يسوع فهؤلاء، مع المجوس، تركوا كلّ شيء وجاؤوا ليروا الطفل الإلهيّ المخلِّص وعادوا الى مواضعهم وهم يسبّحون ويمجّدون ويفرحون لأنّ يسوع جاء للجميع: للفقراء، للأغنياء، للملوك، للعظماء، للرعاة، للمجوس، للعلماء. جاء ليقدّم للجميع شيئين أساسيّين هما مغفرة الخطايا وإمكانيّة مشاركة الثالوث القدّوس في حياته الأبديّة. لم يأتِ ليدين أحدًا أو ليُهلك أحدًا، فهكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد فلا يهلك أحد وكم يعظم سرور الآب بخلاص الخاطئ فكأنّنا بالله بارئنا جميعًا، يقرع باب قلبنا ليشحذ منّا الحبّ.

 

نرفع صلاتنا إلى الله الحاضر معنا وبيننا، من أجل بلداننا وأوطاننا، ومن أجل أن يعمَّ السلام والوئام في العالم أجمع وخصوصًا في منطقتنا، وأن تبتعد عنّا أشباح الحروب والفتن والظلم والحقد والبغض والأمراض والأزمات كافّة... لأنّ الله محبّة وقادرٌ على كلّ شيء ولا مستحيل عليه ولكن، على الرغم من فرط حبّه لنا فهو عاجزٌ، إن أمكننا استعمال هذه الكلمة، ألله عاجزٌ عن أن يولد في قلوب يملاؤها الحقد والكراهية والانتقام ورفض الآخر لأنّه يحترم حريّتنا وقراراتنا، إنّما يولد اللهُ في قلوب نقيّة وطاهرة على مثال قلبه. ولنعلم أنّ السلام هو وديعة الله للبشر، "سلامي أعطيكم، سلامي أستودعكم"، وبشارة الملائكة لأبناء الأرض يتردّد صداها في سمائنا، فهي تحيّة الناس للناس وأنشودةُ تواصلٍ مستمرّة مدى الأجيال.

 

السلام الذي أتانا به يسوع المسيح ملك السلام، دائمُ الحضور فينا، إنّه عيدنا وفرحنا وسعادتنا وراحة ضميرنا، وبالاستمرار معه نعبر العقود والقرون ونلتقي بالآخر في ساحة تسقط أمامها الصعوبات والحواجز والأزمات كلّها.

 

السلام هو نعمة من الله لا بدّ منها لمتابعة طريق البشريّة في التاريخ ولا بدّ من صيانتها وتحصينها عاملين على نموِّها وتصويب مسيرتها من أجل حياة الإنسان وكرامته ومستقبله.

 

نحن نؤمن، يا أبانا أنّ حياة كلٍّ منّا ورحلة البشريّة بكاملها توجّهها حكمتك ومحبّتك، فزدنا إيمانًا واقرن إيماننا هذا بالثبات والثقة والأمانة.

 

نتطلّع إلى سنة 2022 التي نرجو، على الرغم من العوامل والتطوّرات الخارجية، أن تكون للجميع سنة خلاص، وذلك لأنّ حركة التاريخ في خلالها هي أيضًا بتوجيه المسيح الذي يحبّ البشر ويهتمّ بكل شيء، الذي "يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ يُقبلون" (1 تي 2، 4).

 

أعاد الله علينا أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة المباركة بالخير واليمن والبركات، منتظرين عودة السلام والاطمئنان والاستقرار الى ربوع بلادنا التي عاش فيها وباركها ملك السلام يسوع المسيح. ليعطيكم السلام ربُّ السلام.