موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ يونيو / حزيران ٢٠١٨
تقديم كتاب ’الأب يوسف دوسيتي: رجل مقاومة وسياسة وناسك‘ في رام الله
رام الله - أبونا :

تم في القاعة الرعوية التابعة لكنيسة ’العائلة المقدسة‘ في مدينة رام الله، تقديم كتاب "الأب يوسف دوسيتي: رجل مقاومة وسياسة ونساك"، بحضور المترجميْن البطريرك ميشيل صباح والأب رائد أبو ساحلية، والدكتور حنا عيسى.

وشارك في حفل التقديم كاهن الرعية الأب جمال خضر، وراعي كنيسة الروم الأرثوذكس في المدينة، ولفيف من رهبان وراهبات ’عائلة البشارة الصغيرة‘في بلدة عين عريك، وهي الجمعية الرهبانية التي أسسها الراحل الأب دوسيتي، إضافة إلى حضور راهبات الوردية ومار يوسف، ولفيف من أبناء الرعية ومهتمين.

وفيما يلي النص الكامل لمقدمة الترجمة العربيَّة:

هذه سيرة رجل، إنسان مستقيم استطاع أن يوحِّد حياته أمام الله وأمام الناس، وقد شملت مجالات مختلفة متناقضة ومتكاملة في الوقت نفسه. فهو رجل مقاومة، ورجل سياسة وباني دولة، ورجل دين وناسك. عاش كلَّ ذلك معًا في شخصيّة واحدة منسجمة. لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى، لم يحصل فيه ارتدار وتوبة ثم تحوُّل من حال إلى حال. بل كان في كلّ مراحل حياته وفي كلّ مجالات عمله في الوقت نفسه، إنسانًا واحدًا: رجل مقاومة، ورجل دولة، وناسكًا باحثًا عن الله وعن خير الإنسان، إلى أن غلب عليه النزوع إلى النسك الكامل، في آخر مرحلة من حياته، ليحقّق ذاته في حضور دائم أمام الله. ولمـَّا جعل حياته حضورًا أمام الله، لم ينقطع عن الناس وعن همومهم وعن العالم وقضاياه الكبرى، وعن صراع الشعوب. بل ظلّ رفيقًا للناس، وصوتًا لخير الناس، صلاته شفاعة وكلمته كلمة نبيّ.

هذا هو الإنسان المستقيم الذي ترجمنا سيرته من الإيطاليّة إلى العربيّة، لنقدّم نموذجًا لإنسان روحانيّ، ناسك زاهد، انضمّ والنسك في روحه إلى صفوف المقاومة، ثم إلى بُناة أوروبا الحديثة بعد الحرب. اسمه الأب يوسف دوسيتي (1913-1996).

ولد ونشأ في بلدة في شمال إيطاليا وفي عائلة مؤمنة وملتزمة الحياة السياسيّة وحياة البلدة العامّة حيث كان قد بدأ النزاع بين الإيمان والمثاليّات الاشتراكية. أخذ الإيمان عن أهله، ورأى في الوقت نفسه طبقة العمّال والمحرومين في عمّال بلدته. وظلّ مخلصًا لكليهما. بالرغم من التطوّرات الأيديولوجيّة وتناقضاتها وصراعاتها، ظل سياسيًّا مؤمنًا بالله وبالإنسان.

عاش أهوال الحرب العالميّة الثانية (1939-1945) مثل كلّ أهل بلده، وعاش مشاركًا فيها ولكن في صفوف المقاومة، مقاومة أنظمة الاستبداد الوثنيّة الجديدة آنذاك في أوروبا، الفاشيّة الإيطاليّة والنازيّة الألمانيّة. وبعد الحرب ساير ولادة أوروبا الجديدة وبنى مع رجال الدولة الذين بنوا أوروبا الجديدة بعد الحرب. كان رجل سياسة مع أكبر رجال السياسة في إيطاليا. وكان عضوًا فاعلًا في لجنة صياغة الدستور الإيطاليّ الجديد. وكان معارضًا لبعض المحافظين أو الرجعيّين في صفوف الحزب الديمقراطي المسيحي الذي عمل معه، أو حتى بين بعض رجال الكنيسة وقاوم رؤية كنسيّة لدى البعض أصبحت بالية وبحاجة إلى تجديد. وضع للدستور أسسًا مبنية على كرامة الفرد والجماعات وضرورة انصياع الدستور لمصلحة الفرد والجماعة.

من زملائه في صنع إيطاليا من رجال السياسة دي جاسبري وفانفاني وألدو مورو وغيرهم الذين تابعوا مسيرتهم في عالم السياسة، بينما توقَّف هو بعد أن أدّى دوره في الخدمة ليحقِّق ذاته في الله خالقه، وفي التأمّل في كلمته في الكتاب المقدس، وفي صلاة المائدة المقدّسة، مائدة الإفخارستيا. حتى بلغ به مساره الروحيّ إلى أن سيم كاهنًا، ثم مؤسِّسًا لرهبنة مع رجال ونساء علماء في السياسة واللاهوت أحاطوا به منذ البداية في فترة المقاومة ثم السياسة، ثم وجدوا أنفسهم في المسار نفسه عائلة تصلّي وتتأمّل في كلمة الله وتجد غذاءها وقوّة الروح فيها في المائدة المقدسة، مائدة الإفخارستِيّا. وأصبحوا جمعيّة رهبانيّة. وتسمَّوْا باسم "عائلة البشارة الصغيرة".

ولمـّا عقد المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1963، دعي ليكون أحد الخبراء فيه، وكانت له فيه مساهمات لاهوتيّة مهمّة. ظلَّ في كل مراحل حياته إنسانًا يبحث عن كمال ذاته، في صلته بالله، وبكلمة الله في الكتاب المقدس، وفي سرّ المائدة المقدّسة في الإفخارستيا، ورأى تحقيق كمال ذاته في بذل نفسه في سبيل الجماعة.

ثم انتقل إلى الشرق، وفي روحه رغبة في معرفة وعيش حياة الشرق كلّه، الأقصى والأوسط. رأى في الشرق رافدًا رئيسيًّا للغرب بحضاراته ودياناته وتعاليمه العريقة، مع بقائه متأصِّلا في إنجيل يسوع المسيح المتأصِّل في الشرق الأوسط. سافر إلى الهند والصين، وأرسل بعض الإخوة والأخوات من جمعيّته الرهبانية الناشئة لمزيد من الدراسة في الصين والهند، فتعلَّموا اللغات واطّلعوا على الكتب السانسكريتية وعاشوا مع الناس، لا "ليعطوهم باستعلاء بل ليأخذوا من حضارتهم بتواضع الإنسان المحتاج، لا بكبرياء الغربيّ المدَّعي السيطرة على العالم".
سفره إلى الشرق لم يكن محض انتقال من مكان إلى آخر، بل كان خروجًا من ذاته ومن بيئته الأوروبيّة، حتى من الرؤية المسيحيّة المحصورة في الغرب، إلى رؤية عالميّة أرحب. واستقرّ أخيرًا في الشرق الأوسط، في الأردن وفلسطين. استقر أوّلًا في أريحا والقدس، ثم في ماعين في الأردن، وفي عين عريك، في فلسطين، في إطار البطريركيّة اللاتينيّة. وما زالت "عائلة البشارة الصغيرة" في مقرِّها حتى اليوم في ماعين وفي عين عريك، تحاول أن تجد نعمة الله حيث هي، في المكان الذي تعيش فيه بتواضع وزهد، باقية، حيث هي، "العائلة الصغيرة"، حاملة نور يسوع المسيح حيثما وجدت.

أصبح الأب دوسيتي، بقامته الإنسانيّة، المقاوِمة والسياسيّة والناسكة، جزءًا من تراث الأردن وفلسطين. أصبح فكرًا وصلاة ومثالًا، في أوقات عصيبة تحتاج إلى بناء حرية وسلام، وتحتاج إلى مقاومة، ومع المقاومة فكر وصلاة وزهد. لذلك نرى بأنه نموذج رائع لا بل مثال يحتذى، وكم نحن بحاجة لأمثاله في عالمنا وبلادنا وكنيستنا.