موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٩ فبراير / شباط ٢٠١٨
تأمّلات المطران بيتسابالا للأحد السادس من الزمن العادي

:

(مرقس 1، 29-39)

نعود اليوم أيضاً إلى كلمات يسوع الأولى، الّتي يُعلن فيها، في بداية خدمته، البشرى السارّة وهي أنّ الربّ جعل نفسه قريباً (مرقس 1، 14).

وتوضيحاً لما يعنيه قرب الربّ من الإنسان، يعترض طريق يسوع شخص أبرص. وكان الأبرص في ذلك الزمان شخصًا يُمنع الاقتراب منه، إذ قضت شريعة موسى بأن يكون خارج نطاق وعمل نعمة الربّ، أي خارج العهد، وخارج المجتمع.

هو شخص لا يستطيع أحد الدنو منه ولا حتّى لمسه.

ويتبادر إلى أذهاننا فوراً السؤال التالي: هل ملكوت الإله قريب من هذا الأبرص ايضاً؟ وكيف يمكن أنّ تكون البشرى السارّة حقّاً سارّةً، إن لم تصل إلى الجميع، حتّى إلى أولئك الّذين يُعتبرون بعيدين؟ وماذا إذا بقي أحدٌ ما مُستبعدا ومستثنى؟ إنّ الّذي يجرؤ على الدنوّ من يسوع هو الأبرص نفسه، من خلال توسّل يُعبّر عن ثقة كاملة: "إن شئت فأنت قادر على أن تُبرئني" (مرقس 1، 40).

ولا يتراجع يسوع الى الوراء، بل يترك الأبرص يقترب منه، ويلمس معاناته: "أشفق عليه" (مرقس 1، 41). والشفقة موجودة في المشهد وتُعبّر عن ارادة يسوع في التفاعل مع قصّة هذا الرجل، والترحيب به وهدم المسافة القاتلة بينهما. هذا هو ما يريده يسوع (مرقس 1، 41).

وها إنّ رد فعل يسوع تفوق كلّ التوقّعات. كان بإمكانه أن يشفي الأبرص مع بقائه بعيداً عنه، كما فعل أليشاع مع نعمان السوري (2 ملوك 5، 1-14)؛ وكان بإمكانه أن يكتفي بتلفّظ كلمات بركة وشفاء عليه، وبالتأكيد سيكون هذا كافياً لشفائه. وبدلاً من ذلك، فإنّ يسوع يذهب إلى ما هو أبعد. يمدّ يده ويضعها عليه ويلمسه (مرقس 1، 41). بهذا يفعل ما لم يكن مسموحاً به ولا يجوز القيام به.

لماذا يفعل ذلك؟

يفعل ذلك كي يعطي الأبرص اليقين بأنّه الاقتراب منه ولمسه لم يعودا ممنوعين، وأنه لم يعد بعيداً ممبوذا: هذا هو الشفاء الحقيقي الّذي كان الأبرص بحاجة إليه. يفعل يسوع ذلك كي يُعطي الأبرص اليقين بأنّ الرب يريد أن يصل حيث الإنسان الضائع، وحيث يغيب الرجاء، ويبدو أن للمصائب الكلمة الأخيرة. وهناك الربّ أيضاً يجعل نفسه قريباً.

عندئذ فقط تكون البشرى السارّة حقّاً سارّة، لأنّها حقّ للجميع. البشرى هي أن الربّ يبذل ذاته من أجل الإنسان الضائع، ويصل إلى حيث تمّ ضياعه، ويرتبط به.

ولكن هذا هو الجزء الأوّل فقط من المقطع الإنجيلي لهذا اليوم.

في الجزء الثاني، هناك غرابة، لأن يسوع يصرف الأبرص المعافى بلهجة حادّة، ويأمره بأن يعرض نفسه على الكاهن وأن يُقرّب التقدمة المفروضة وأن لا يُخبر أحدا بما قد جرى له (مرقس 1، 43-44). ونعرف من النصّ الإنجيلي أنّ الأبرص لا يفعل أيّ شيء ممّا أمر به، بل أنه لا يتوقف عن "إعلان ما حدث". ويُركّز الإنجيل بشكل خاص على عواقب هذا العصيان، الّذي بسببه "صار يسوع لا يستطيع أن يدخل مدينة علانيّة، بل كان يُقيم في ظاهرها في أماكن مقفرة" (مرقس 1، 45).

وندرك منذ بداية رسالة يسوع، بانّ قربه من الإنسان الخاطئ له ثمن. أنّه يتماهى مع البشرية، ويضع نفسه مكانها، بحيث يُصبح، هو نفسه، مرفوضا ومنبوذاً. وبدوره لا يُسمح الإقتراب منها، ويجب عليه البقاء خارجا وبعيداً عنها.

كل هذا يحمل نتائج وخيمة على يسوع. سنراه في مسيرة الزمن الأربعيني، الّذي يبدأ في غضون الأيّام القليلة القادمة: في ذروة هذه المسيرة، وفي ذروة عمله الخلاصي، سيقوده تضامنه مع الإنسان إلى "مشاركته العقاب ذاته" (لوقا 23، 40)، كما قال أحد المجرميْن، الّذي اقترب من الملكوت إلى حدّ أنّه استطاع دخوله فوراً، وفي ذات اليوم؛ وبالتالي فإنّ مكان الضياع أصبح مكان الخلاص، وكذلك أصبح ضعف الإنسان ومرضه وشرّه المكان الّذي يكشف الربّ فيه عن ذاته، وبالتحديد عن حبه المحيّر لكل انسان دون استثناء.

يدعونا كلّ من الأبرص واللص اليوم إلى طلب هذا الخلاص بجرأة: إنّ كلّ ما كان مطلوباً منهما هو كلمات قليلة تنبع من أعماق ألمهما. وبعدها تتلاشى المسافة بين الانسان والله.