موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
البابا فرنسيس مترئسًا قداس ليلة الميلاد: لننهض، ونقف لأن نورًا قد أضاء الليلة

فاتيكان نيوز :

 

ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة السابعة والنصف من مساء الجمعة قداس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القديس بطرس، وألقى عظة استهلها بالقول في الليلة أضاء نور، ظهر ملاك ومجد الرب غمر الرعاة وأخيرًا وصل الإعلان المُنتظر منذ قرون: "ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب". ولكن يدهشنا ما يضيفه الملاك إذ يشير إلى الرعاة كيف يجدون الله الذي أتى إلى الأرض: " وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمَّطا مضجعًا في مذود". هذه هي العلامة: طفل. هذا كل شيء: طفل مُضجع في فقر المذود المُدقع. لم يعد هناك المزيد من الأنوار، والبهاء، وأجواق الملائكة. وإنما طفل فقط ولا شيء آخر، كما تنبأ أشعيا: "ولِد لنا ولدٌ".

 

تابع: يصر الإنجيل على هذا التناقض. يخبرنا عن ولادة يسوع بدءًا من أوغسطس قيصر، الذي قام بإحصاء كل الأرض: فيظهر الإمبراطور الأول في عظمته. لكنه بعد ذلك مباشرة، يأخذنا إلى بيت لحم، حيث لا يوجد شيء كبير: مجرد طفل فقير مُقمّط، مع رعاة حوله. وهناك نجد الله في الصغر. هذه هي الرسالة: الله لا يعتلي العظمة، بل ينزل إلى الصغر. الصغر هو الدرب الذي اختاره لكي يصل إلينا، ويلمس قلوبنا، ويخلصنا، ويعيدنا إلى ما يهم. أيها الإخوة والأخوات، إذ نقف أمام المغارة، لننظر إلى المحور: لنذهب أبعد من الأنوار والزينة ولنتأمّل في الطفل. في صغره نجد الله كله، لنتعرف عليه: "أيها الطفل، أنت الله، الإله الطفل". لنسمح بأن تجتاحنا هذه الدهشة الفاضحة. إن الذي يحتضن الكون يحتاج إلى من يحمله بين ذراعيه. هو الذي خلق الشمس يحتاج لمن يُدفئه. والحنان بذاته يحتاج لمن يحنو عليه. إن الحب اللامتناهي يملك قلبًا صغيرًا، تنبعث منه دقات خفيفة. الكلمة الأزليّة هو رضيع، أي غير قادر على الكلام. وخبز الحياة يحتاج لمن يُطعمه. وخالق العالم قد بقي بلا مأوى. اليوم ينقلب كل شيء: يأتي الله إلى العالم صغيرًا. وعظمته تقدم نفسها في الصغر.

 

أضاف: ونحن -لنسأل أنفسنا- هل نعرف كيف نقبل درب الله هذه؟ إنه تحدي عيد الميلاد: الله يكشف عن نفسه، لكن البشر لا يفهمونه. هو يجعل نفسه صغيرًا في عيون العالم ونحن نواصل البحث عن العظمة بحسب العالم، وربما حتى باسمه. إن الله يتنازل ونحن نريد أن نصعد إلى مرتبة عالية. العلي يدل على التواضع ونحن نطالب بالظهور. إنّ الله يذهب بحثًا عن الرعاة وغير المرئيين. ونحن نبحث عن الظهور. وُلِد يسوع لكي يخدم ونحن نقضي سنوات في السعي وراء النجاح. إن الله لا يبحث عن القوة والسلطة، بل يطلب الحنان والصغر الداخلي. إليكم ما نطلبه من يسوع في عيد الميلاد: نعمة الصغر. "يا رب، علمنا أن نحب الصغر. ساعدنا لكي نفهم أنه الدرب نحو العظمة الحقيقية". لكن ماذا يعني قبول الصغر بشكل ملموس؟ أولاً أن نؤمن أن الله يريد أن يأتي في الأشياء الصغيرة في حياتنا، ويريد أن يقيم في حقائق الحياة اليومية، والتصرفات البسيطة التي نقوم بها في البيت، والعائلة، في المدرسة وفي العمل. هو يريد أن يُحقق في حياتنا العادية أشياء غير عادية. وهذه رسالة رجاء كبير: يدعونا يسوع لكي نُقدِّر الأشياء الصغيرة في الحياة ونعيد اكتشافها. وإذا كان هو معنا، فماذا ينقصنا؟ لنترك خلفنا الأسف على العظمة التي لا نملكها، ولنتخلّى عن التذمر والشكاوى والجشع الذي يتركنا غير راضين ومستائين!

 

تابع: ولكن هناك المزيد. إنَّ يسوع لا يريد أن يأتي فقط في الأمور الصغيرة في حياتنا، وإنما أيضًا في صغرنا: في شعورنا بالضعف، والهشاشة، وعدم الكفاءة، وربما حتى بالخطأ. أيتها الأخت وأيها الأخ، إذا أحاط بك، كما في بيت لحم، ظلام الليل، أو شعرت بلامبالاة باردة من حولك، وإذا صرخت الجراح التي تحملها في داخلك: "أنت لا تساوي شيئًا، ولن يُحبَّكَ أحدٌ كما تريد"، يجيبك الله الليلة ويقول لك: "أحبك هكذا كما أنت. صغرك لا يخيفني، وضعفك لا يقلقني. لقد جعلت نفسي صغيرًا من أجلك. ولكي أكون إلهك صرت أخوك. أيها الأخ الحبيب وأيتها الأخت الحبيبة لا تخف مني، بل جد مجدّدًا عظمتك فيّ. أنا قريب منك وأطلب منك فقط: ثق بي وافتح لي قلبك".

 

أضاف: قبول الصغر يعني أيضًا أن نعانق يسوع في صغار اليوم. أي أن نحبه، في الأخيرين ونخدمه في الفقراء. إنهم الأكثر تشبهًا بيسوع، الذي ولد فقيرًا، والذي يريد أن يُكرَّم فيهم. في ليلة الحب هذه، يعترينا خوف واحد: أن نجرح محبة الله، وذلك من خلال ازدراء الفقراء بلامبالاتنا. إنهم محبوبو يسوع، الذين سيستقبلوننا يومًا ما في السماء. كتبت إحدى الشاعرات: "من لم يجد السماء هنا على الأرض سيفتقدها فوق أيضًا". لا نغفلنَّ عن السماء، ولنعتني بيسوع الآن، ولنحبّه في المعوزين، لأنه تشبّه بهم. لننظر مجدّدًا إلى المغارة وسنرى أن يسوع عند ولادته كان محاطًا بالصغار والفقراء. من هم؟ الرعاة. لقد كانوا الأبسط والأقرب إلى الرب. ووجدوه لأنّهم كانوا "يَبيتونَ في البَرِّيَّة، ويَتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم". كانوا هناك لكي يعملوا، لأنهم كانوا فقراء ولم يكن لحياتهم جداول زمنية، لكنها كانت تعتمد على القطيع. لم يكن بإمكانهم أن يعيشوا كما وحيث يريدون ولكنهم كانوا ينظِّمون أمورهم لاحتياجات الأغنام التي كانوا يعتنون بها. وهناك ولد يسوع، بالقرب منهم، بالقرب من الضواحي المنسية. جاء حيث توضعُ كرامة الإنسان على المحك. جاء لكي يرفع المهمّشين وكشف عن نفسه لهم أولاً: ليس للشخصيات المثقفة والمهمة، وإنما للفقراء الذين كانوا يعملون. يأتي الله هذه الليلة ليملأ قساوة العمل بالكرامة. وليذكرنا بمدى أهمية أن نعطي الكرامة للإنسان بالعمل، وإنما أيضًا بأن نعطي كرامة لعمل الإنسان، لأن الإنسان هو سيد العمل وليس عبدًا له. وبالتالي لنكرّر في يوم الحياة: كفى أمواتًا في سياق العمل! ولنلتزم من أجل ذلك.

 

تابع: لننظر إلى المغارة للمرة الأخيرة، ونوسع أنظارنا إلى حدودها، حيث يمكننا أن نرى المجوس المنطلقين في مسيرة حجٍّ لكي يعبدوا الرب. ننظر ونفهم أن كل شيء حول يسوع يُصاغ مُجدّدًا في الوحدة: ليس هناك الأخيرين وحسب أي الرعاة، وإنما العلماء والأغنياء أي المجوس. في بيت لحم، يتواجد الفقراء والأغنياء معًا، الذين يعبدون مثل المجوس والذين يعملون مثل الرعاة. كل شيء يُصاغ مُجدّدًا عندما يكون يسوع في المحور: لا أفكارنا حول يسوع، بل هو، الحي. لذلك، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لنعد إلى بيت لحم، لنعد إلى الأصول: إلى جوهر الإيمان، إلى الحب الأول، إلى العبادة والمحبة. لننظر إلى المجوس الذين ينطلقون في مسيرة حج، وككنيسة سينودسيّة تسير، لنذهب إلى بيت لحم، حيث هناك الله في الإنسان والإنسان في الله؛ وحيث يكون الرب في المقام الأول ويُعبد، وحيث يحتل الأخيرين المكان الأقرب إليه؛ وحيث يقف الرعاة والمجوس معًا في أخوة أقوى من أي تصنيف. ليمنحنا الله أن نكون كنيسة عبادة فقيرة وأخوية. هذا هو الأساس. لنعد إلى بيت لحم.

 

وختم البابا فرنسيس عظته بالقول: سيفيدنا أن نذهب إلى هناك، بالطاعة لإنجيل الميلاد، الذي يقدم العائلة المقدسة والرعاة والمجوس: جميع الناس في مسيرة. أيها الإخوة والأخوات، لننطلق في السير، لأن الحياة هي حج. لننهض، ونقف لأن نورًا قد أضاء الليلة، إنه نور لطيف ويذكرنا أننا في صغرنا نحن أبناء محبوبون، أبناء النور. ولنبتهج معًا، لأنه لن يطفئ أحد أبدًا هذا النور، نور يسوع، الذي ومنذ هذه الليلة يسطع في العالم.