موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

عن سؤال الأخلاق وانهيار الحضارات

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

إميل أمين :

 

حين تظهر هذه الكلمات للنور، سيكون عيد الفطر المبارك قد حل على عالمنا العربي والإسلامي، لهذا فضلنا التأمل في هذا التساؤل بعيدا عن قضايا السياسة والصراعات المزعجة. هل غياب الأخلاق بداية أفول الامبراطوريات والحضارات عبر التاريخ؟

 

ربما يتعين علينا بداية الأمر أن نعود قليلا إلى الوراء، مع انطلاق الثورة الصناعية، تلك التي مكنت الأفراد من زيادة الاعتماد على الذات وليس على القبيلة أو الأسرة في توفير متطلبات الحياة. في تلك الآونة لم يعد على الشباب الثائر أن يرضخ لقيود ومراقبة القرية، صار بإمكانه أن يخفي خطاياه وهويته في زحام المدينة وكثافة سكانها. لقد رفع العلم التجريبي بتقدمه سلطة الأوراق البحثية على سلطة النصوص الدينية، وبدا الاعتماد على الآلات وميكنة الصناعة والاقتصاد يشير إلى الفلسفات المادية، وصار التعليم يولد شكوكا دينية، وفُقدت الأكواد الأخلاقية الغيبية شيئا فشيئا، وبدأ الكود الأخلاقي الزراعي يحتضر. كيف يمكن إذا أن يكون مصير الأخلاق في اللحظة الآنية عبر عالمنا المعاصر، حيث ثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات والعقول الإلكترونية جاوزت المدى؟ لا يمكن تقديم جواب من غير التوقف أمام عجلة الحروب التي تدور مؤخرا ومن جديد بأشكال متباينة، حروب اقتصادية، حروب ثقافية، حروب إيكولوجية، وصولا إلى الحروب العسكرية التي باتت اليوم سيفا مسلطا على رقاب البشرية. في السياق التاريخي لمنتصف القرن الماضي وبعد حربين عالميتين، نجد مقاربة شديدة مع ما جرت به المقادير في زمن سقراط (399 قبل الميلاد)، وفي زمن أغسطس قيصر (14 ميلاديا)، فقد أضيفت الحروب للأسباب التي أدت إلى التراخي الأخلاقي. بعد الحرب البيلوبونيسية والاضطراب الاجتماعي الشديد الذي سببته، لم يشعر "ألكيبيادس"، رجل السياسة والخطيب والقائد العسكري الإغريقي البارز من أثينا القديمة، بالحرج في أن يستهين بكود أجداده الأخلاقي، كما لم يتورع "ثيراسيماخوس" السفسطائي الإغريقي أن يعلن أن صاحب القوة هو الذي يحدد ما هو الصواب.

 

يمثل غياب الأخلاق انعدام الوازع الماورائي، ولهذا انتشرت في أوروبا وأميركا في خمسينات وستينات القرن المنصرم الحركات الإلحادية تارة، والأدرية تارة أخرى، وأخضع كل شيء لمنطق العقل والتجريب، وتوارت قضايا الروحانيات والإيمانيات وراء مخاوف من مواجهة نووية مع الاتحاد السوفيتي، أي أن قسما غالبا من المجتمعات فضل الهروب من فكرة الكود الأخلاقي الذي يمثل عبئا على كاهل من يحمله.

 

بعد نحو سبعة عقود من التفلت الأخلاقي وتحت أجنحة العولمة، تبدو الحضارة الإنسانية المعاصرة أمام مشاهد مشابهة لما حدث في زمن الامبراطورية الرومانية، لا سيما ما أسماه المؤرخ الأميركي الشهير "بول كيندي"، فرط الامتداد الامبراطوري، أي التوسع الإمبريالي المرتكز على القوة العسكرية فقط، ومن غير أي رؤى أخلاقية داعمة أو مساندة.

 

ثم وهذا ما نعيشه في حاضرات أيامنا، أي التدهور البيئي والمناخي، وليس سرا أن الأزمة الإيكولوجية المعاصرة والتغيرات المناخية باتت تهدد الكرة الأرضية بما هو أخطر من اندلاع الحرب النووية.

 

ولعل السبب الرئيس وراء التهديد الإيكولوجي هو غياب إلى درجة اضمحلال الطرح الأخلاقي، ذلك أن السعي وراء مراكمة رؤوس الأموال وتعظيم الأرباح، هو ما يدفع في طريق استخدام أدوات الطاقة المهلكة للبيئة، لرخص ثمنها وسهولة الحصول عليها.

 

أما التفاوت الطبقي وازدياد الفجوات بين الأثرياء والفقراء، فمرده أخلاقي ووازعه الجشع والطمع، وعنوانه اللاعدالة في توزيع الثروات، وجميعها تنتج عن غياب الرؤية الأخلاقية الإنسانوية، حتى إن كانت مجردة عن التوجهات الدينية والعقائدية.

 

وتشير البيانات الإحصائية اليوم إلى أن واحدا في المئة من سكان العالم في العقد الذي يكاد ينصرم، يمتلكون 20 في المئة من إجمالي الدخل العالمي، وقد زاد نصيبهم من ثروات العالم من 25 في المئة في الثمانينات من القرن الماضي إلى 40 في المئة في عام 2016، هذا بخلاف الأموال التي يهربها الأثرياء إلى الملاذات الضريبية.

 

ماذا يعني ذلك؟

 

بلا شك تعميق مشاعر الحقد الطبقي والكراهية الشعبية بين شعوب العالم، ما يعجل بمواجهات وحروب أهلية، بين الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء.

 

عند الفيلسوف الإسباني الأصل الأميركي الجنسية "جورج سنتيانا": "الذين لا يقرأون التاريخ كفيلون بأن يكرروا أخطاءه".

 

هل من صحوة أخلاقية قبل انهيار الحضارة الإنسانية المعاصرة؟

 

(البلاد)