موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٠ مارس / آذار ٢٠٢٢

وطننا بل مسكننا الحقيقي هو السماء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
وطننا بل مسكننا الحقيقي هو السماء

وطننا بل مسكننا الحقيقي هو السماء

 

الأحد الثاني من الصوم (الإنجيل لوقا 9: 28-36)

 

ساعة تجلي يسوع هي ساعة رحمانيّة، كما يقول المثل. لقد ابتدأ هذا النّهار طبيعيّاً، سواءٌ لبطرس أو أيضاً للأخوين يعقوب ويوحنا، يأخذهم يسوع اليوم على حدة معه، كما سيأخذهم هم أنفسَهم، عندما سيقيم ابنة القائد الرّوماني يائيروس (مر. 17:5) وعند نزاعه في بستان الجسمانية (مر 33:14). إذن هذا اليوم ابتدأ طبيعيا، لكنّه قد أصبح لهم يوما غير مسبوق ولا معهود، بحيث انفتحت فيه السّماء، وبرز لهم ظِلُّ ضوء الفصح مُسبقاً، إذ شاهدوا مجده الإلهي، الذي سيقول عنه بولس: لم ترهُ عينّ!

 

من لا يتذكّر أنّه قبل أسبوع بالضبط، كان يسوع تكلّم ثلاث مرّات، عن الاضطهادات وحمل الصّليب والألم والموت، الّذي سيحدث له في أُورشليم. هذا وكان نادى بِاتِّباعِه، وهذا لا يتم بدون الكفر بالذّات: "من أراد أن يكون لي تلميذاً، فليكفر بنفسه ويحمل كلَّ يومٍ صليبه ويتبعني" (لو 23:9). كما وكان حذّر من خسران الذّات: "من أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلِكها" (لو 24:9). فما ابتدأ في الجليل بفرح، سينتهي في أُورشليم بالحزن والموت: هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر سيُسلم لأيدي البشر فيقتلونه. هذا ولا يقف عند هذا الخبر، بل يُبشِّر رأسا بخبر القيامة المُفرح في اليوم الثالث. هو يتكلّم عن خسارة الحياة، لكنَّه يُتابع: من أهلك نفسه من أجلي، فهو يُخلِّصها" (لو 24:9). وبالتّالي يُنبِئ بظهور المُرسل من الله أمام أبيه وملائكته (لو 26:9). فبين هذا وذاك، يضع لوقا حادث التّجلي.

 

حدث ذلك على جبل، حسب التقليد اسمه جبل الطّابور، الذي يقع على بعد عشرة كيلومترات شرق مدينة النّاصرة. هذا وتلعب الجبال في كل الدّيانات موقفا هامَا. فهي حسب التقليد مكان سكنى الآلهة (اليونان كان عندهم 12 آلهة، أبوهم الأكبر زيوس وأولاده ونساؤهم) على الأرض. فإن وَطِأَ الإنسان جبلا، فهذا يعني أنه صار قريبا من الله. فها إبراهيم يُضحي بابنه إسحق على جبل موريا في أورشليم. موسى يصعد إلى جبل سيناء، ليتسلّم لوحة العشر وصايا. النبي إيليّا يسمع صوت الله على جبل حريب. يسوع بالذّات، ليلتقي مع أبيه، كما ذكر الإنجيليّون مراراً، كان ينزوي دائماً على جبل ليصلّي. وها إنجيل اليوم يذكر: صعد يسوع الجبل ليُصلّي. وبينما هو يُصلِّي، تبدّلَ منظرُ وجهِه، وصارت ثيابه بيضاء كالثلج. فلنتصور هذا التّبدل بشباك كنيسة ملوّن حينما تشع الشمس عليه ، كيف أن نور الكنيسة يتبدّل يشكل لا يوصف. هذا ما شاهده الثلاثة تلاميذ بلحظات، كادت لا تنتهي، أبهرتهم حتى دخلوا، كفي حلم، سباتاً بهذيان: فلنبنِ ثلاث خيم هنا!

 

 بالصلاة يلتقي يسوع وجهاً لوجه مع الله، فيشعَّ فيه نور وجهه، ويتبدّلُ منظرُه. نعم هذا هو مفعول الصّلاة، أي المقابلة مع الله. ولا يِعرف هذا التّبدُّل إلا الّذي يصلّي. نعم من يُصلّي تقع عليه سحابةٌ منيرة لتقول له هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا. الصلاة عون كبير للحياة. من يصلي تتولّد فيه صفات لا نجدها في غيره، وهي الاطمئنان، والأمن، والأمل بالحماية الربّانية.

 

يسوع يُشرك التّلاميذَ بحادث التّجلّي، فيرونه تحت وابل نورٍ جديد، ويكتشفون، فيه الله اللامنظور (من رآني فقد رأى الآب)، الساكن في نور لا يُدنى منه، والّذي لم يرهُ أحد من النّاس، ولا يقدر أن يراه، الّذي له الكرامة والقدرة الآتية (1 تيط. 16:6). لكنَّ هذا الاله ما هو إلا إِله إسرائيل، أي إله موسى والأنبياء وإيليا، ألّذي أراد أن يكون أقرب ما يمكن للإنسان، لا بأيِّة، طريقة، وإنّما بابنه هذا، الّذي سيموت على الصليب، ولكنّه في اليوم الثالث سيقوم. وهذا ما أكّده الصّوت الّذي جاء من وسط السّحابة: هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا. فهذا الصّوت هو لنا نحن أيضا. فها نحن ابتدأنا وقتاً، مُكرّساً للصوم والصّلاة وسماع صوت الله، الّذي يريد منا في هذه الفترة، أن نسلك سلوكا لائقا، وأن تنجح حياتنا.

 

له اسمعوا! فبإمكاننا في هذه الفترة أن نهتمَّ ونقف إلى جانب المحتاجين والمُعوزين، سواءٌ حاجة مادّية أو روحيّة. فالكنيسة تنصح في أخر الصّيام بأن نتبرّع بمبلغ من المال، كلٌّ بمقدوره، وذلك لدعم مشاريع الكنيسة الاجتماعية. في هذه الفترة الخلاصية تنصح الكنيسة أن نمتنع عن بعض المأكولات، فما نُوفِّرُه بهذا المجال، يا ليت بنا لو نُقدِّمه للفقراء. التوراة توصي بالصّدقة على كلِّ صفحاتها، وهي واحدة من أعمال الرحمة السبعة المقبولة عند الله، إذ هي مساعدة له شخصيّاً، هو المحتاج والجوعان والعطشان، في شخص القريب: "أقول لكم، كلَّ ما فعلتموه لاحد هؤلاء الصغار والمحتاجين، فلي فعلتموه". فما أجمل أن ننهي صيامنا بأعمال رحمة، وهكذا يفطن لنا الرّب يوم موته وقيامته. فكلُّ ما يُلهِمُنا الله لعمله في هذا الوقت المقدّس، سيؤول لمنفعتنا وخلاصنا. توصيات وتعليمات الآباء والقدّيسين كلُّها صالحة لوقتنا هذا، الذي كثرت لفيه الأنانية والانعزالية (عواميد وأساسات الكنيسة القديمة، تحملها أيادي المسيحيين الحديثين).