موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٣ مايو / أيار ٢٠٢٢

وصيّة جديدة أُعطيكم: أحبّوا بعضكم بعضًا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الخامس للفصح (يو 13: 31-35)

 

كلّ ديانة تقوم على تعليم مؤسِّسها من جهة، ومن جهة أخرى على كيف يُمارس أتباعها هذا التعليم. إذن نظري وعملي. النّظري في ديانتنا هو حقائق الإيمان، التي جمّعها آباء الكنيسة واللاهوتيّون والمشتركون في المجامع المسكونية الأولى في الصلاة المعروفة تحت إسم قانون الإيمان، هذه الحقائق كلٌّها وحي، أي مضمونها موحى من الله، وهي موجودة مبعثرة في الكتاب المُقدّس. أما الناحية العملية، فهي ما يَصْدُر منّا نحن، أتباعُ هذه الدّيانة، أي تصرّفاتُنا، حسب المقولة المعروفة: أعطِ للإنجيل وجهاُ. بكلمة هي وصيّة يسوع، التي سمعناها قبل قليل، وهي المحبّة: أحبّوا بعضكم بعضا، كما أنا أحببتكم. المحبّة هي حجر الزّاوية في ديانتنا المسيحيّة. وهي تكملة لما كان سابقا قال: أحبب الربَّ إلهَك وأحبب قريبّك كنفسِك. هذي هي وصايا يسوع لنا. إنَّ المسيحي ليس بحاجة لوصايا وأوامر كثيرة. وصيّة واحدة تسدُّ عن الكل، وهي وصيّة المحبّة، فيها يكتمل النّاموس والشريعة (روم 16:13). بهذا المعنى، قال القديس أغسطين: أحبب وأعمل ما تريد، إذ هو متأكّد، أنّ من يحب، لا يعمل ما يُعاكس المحبّة. فهو لا يقدر في الوقت نفسه أن يُحبَّ ويبغُض. وصيّة جديدة أُعطيكم: أن يحبَّ بعضكم بعضاً. المحبة هي المفتاح الرّئيسي الّذي يفتح كلَّ قلب.

 

نحن نعرف أن هذه الوصية قد مرّت في ثلاث مراحل. مرحلة الغاب، حيث ما كان الإنسان يُحبّ غيرَ نفسه، أي القوي يقتل الضعيف. خلفتها مرحلة الدّيانة اليهودية، والتي أخذتها لاحقاً الديانة الإسلامية حرفيا، وهي العين بالعين والسّن بالسّن. إلى أن جاءت وصيّة الوحي الجديدة، أي المرحلة الثّالثة: وهي أحبب قريبك كنفسك. عليها بنى يسوع ديانته منذ ألفي سنة وهي صامدة، رغم الاضطهادات والمعاكسات. فهي ليست نُمرة كنمرة السيّارة مُعلّقة على ظهرنا ويمكن نزعها في كلِّ وقت. بل هي ختمٌ في قلبنا نُترجمه إلى الواقع بأعمالنا. هذه المحبّة هي فوق الإيمان. فمثلا إيمانُنا يفرض علينا حضور القداس يوم الأحد، ولكن إن دعت الحاجة وكان عندنا مريض، فيَبْطُل مفعولُ الإيمان وتأخذ المحبّة مكانه، لنبقى في خدمة مريضِنا. فهذي هي هويّة المحبّة: خدمة القريب. الحساب النهائي لن يكون على أفعال الإيمان لكن على أعمال المحبة. مهما عملتم لاحد هؤلاء الصّغار، فلي فعلتموه.

 

الشيْ الوحيد الأكيد، لكلِّ واحد منّا، هو الموت، إذ ما نحن إلا ضيوف على الأرض وبإقامة مؤقّتة، تنتهي بالموت، هذا سيأتي كاللص، في ساعة لا تعلمونها. من هنا، ومحاشاةً للمفاجآت، ضرورة كتابة الوصية الأخيرة قبل الوقت. نعم كتابة الوصية الأخيرة للعمر مهمّة جدّا فهي، وإن لم تكن إجبارية، كما في الكثير من البلدان المتقدِّمة، إلا أنَّ وجودها ضروري، وذلك لمحاشاة المشاكل بعد موت صاحبها. هذا ويُحاول الأهل فتح الوصية بأسرع ما يمكن، ليُنفِّذوا ما جاء فيها، دون اللجوء إلى المحاكم.

 

فالوصية هي إرادة المُتوفي، التي لا جدال عليها. هو أراد كذا، ذكر فلان وفلان فليكن هكذا.

 

يسوع، كان يعرف أنَّ ساعته قد أتت، لذا جمع تلاميذه لعشاء الوداع، وهنا أسمعهم وصيّته الأخيرة، وإذا بها: أحبّوا بعضكم بعضاً، كما أنا أحببتكم. بهذه الوصيّة هو ما نسى إنساناً، ولا حرم أحداً، بل حمّل جميع أتباعه، وفي كلِّ الأزمنة، مسؤوليّةَ تنفيذِها. فنحن منفّذو وصيّةِ يسوع وورثتُه، التي فيها ألزمنا لنحمل مسؤولية التنفيذ. فكيف نتصرّف مع بعضنا ومع باقي البشر، يعرف العالم إن كنّا تلاميذه، أم لا. فكيف نمارس إيمانَنا في الحياة اليوميّة، وهل نشمل به جميع النّاس؟ إنَّ كلمة المحبّة هي كلمة السّر في هذه الدّيانة، فإن حرَمْنا منها ولو شخصاً واحداً، فنحن نتصرّف عكس إرادته ووصيَّتِهِ، ولسنا أهلا أن نٌسمّي أنفسنا، أبناءَ الله أو ورثَتَه.

 

إنَّ يسوع، عندما أعلن هذه الوصيّة، كحجر أساس لديانته، قد أعلن عن أعزّ كنزٍ، حوى عليه قلبُه، وهو المحور الدائم والسّاري المفعول، الّذي يدورُ حولَه تعليمُه في كلِّ حياة. أحبّوا بعضَكم بعضاً مثلما أنا أحببتكم. هذا ولانَّ الله محبة، فقد جعل أيضاً المحبّةَ محور تعليمِه وحياتِه ووصيّتِه. فهذا ما يُميِّز ديانتَه عن غيرِها من الدِّيانات. فكما نعرف، إنّ محور الديانة اليهودية، مثلما ذكرت أعلاه هو: العين بالعين، والسّنُّ بالسّن. كما ومحور الدِّيانة الإسلامية هو الانتقام قبل التّسامح. فالفرقُ إذن شاسع، إذ لا مكان لا لمحبّة العدوّ ولا للغريب في تعليم باقي الدّيانات. فديانة لا مكان فيها، لا لمحبّة الله ولا للقريب، هي ليست ديانة. إذ كما قال يسوع للذي سأله: يا معلِّم! ما أعظم الوصايا؟ قال: الوصيّة الأولى، أحبب الرّب إلهك بكلِّ عقلك وقلبك، والثانية، التي تشبهها: أحبب قريبَك كنفسك! في هاتين الوصيّتين يتعلّق كلُّ النّاموس والشّريعة! بمُمارسةِ المحبّة، يعرف العالمُ أنّكم تلاميذي! وأكمل الشرح يعقوب الرسول بقوله: من لا يُحبًّ قريبَه الّذي يراه، فكيف سيحب الله الّذي لا يراه؟

 

مشكلة يسوع كانت، كيف يتعرّف العالم، بين الألوف المُؤلَّفة، بل بين الملايين والمليارات الآخرين، على أتباعه؟ ليس بأي مظهر خارجي، لكن بصفة ظاهرة تجعلهم مقبولين، كالنّور الّذي يوضع على المنارة، ليُضيء عتمة الطّريق للجالسين في الظلمة. فـبرز لهم هذا الختم العبقري، أي ختم المحبّة، الّتي لا تعرف لا الحقد ولا البغض ولا الانتقام، وقال: كما أحببتكم أنا، أحبّوا أنتم أيضا، حتّى أعداءَكم. بهذا المعنى قال بولس: "البسوا كمختاريّ الله المحبوبين، أحشاء الرحمة واللّطف والتّواضع والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعصا، إن كان لأحد منكم شكوى على آخر، واغفروا كما غفر لكم المسيح، هكذا أنتم أيضا" (كولسي 12:2). المحبة هي السّر، الّتي تبرهن عن المسيحي الحقيقي والكاذب. لذا يقول بولس مُجدّدا: "لو نطقت بكلِّ لغات العالم والملائكة ولم تكن فيَّ المحبّة، فما أنا إلا نحاس يدنّ أو صنجٌ يرن" (1 كوز 1:13). فتصرُّفُنا مع النّاس وطريقةُ معاملتِنا لهم، يعطيهم فكرةً عن محتوى تعليم يسوع، ولنقل عن ديانته. هذا ونعرف نحن أيضاً، إن كنّا متمسّكين بوصيّتِه الأخيرة، أي أحبّوا بعضكم بعضاً، كما أنا أحببتكم، وهذا في جميع أنحاء العالم ولأجل جميع المسيحيين. فالمسيحيّون بطريقة حياتهم ومعاملتهم للنّاس، هم منفّذو هذه الوصية الكبيرة وورثته المعنيّين. علماً بأنّه إلى جانب الالتزام هناك أيضاً مسؤوليّة في تنفيذ هذه الوصيّة. فطريقةُ التنّفيذ هي الّتي تدلّ، إن كُنّا تلاميذ يسوع أم لا؟ والسّؤال هو: هل تصرّفنا مع الآخرين نابع من إيماننا، باعتبارنا ملزمون بالتسامح والمساعدة حيث تحتاجنا الظّروف اليومية؟ سؤال مظروح يوميا علينا، فما هو جوابُنا عليه؟