موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢١ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

وذهب كعادته إلى المجمع

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
وذهب كعادته إلى المجمع

وذهب كعادته إلى المجمع

 

الأحد الثالث من السنة (لوقا 1: 1-4 ثم 4: 14-21)

 

عندما يقع كتاب جديد بين يدي، أوّل ما أقرأ منه بعض السطور المقتضبة على المُغلَّف، فهي توضح لي بالاختصار، ما موضوع الكتاب وما محتواه. إنجيل لوقا، هو الكتاب الجديد الذي وقع في أيدينا هذه السنة لنستعمل نصوصه ومحتواه لقداديس هذه السنة. بالاختصار هو موجّه إلى تلميذ اسمه تيوفيلوس. وكلمة تيوفيلوس تعني محبوب الله. وهذا يعني، بما أنّنا جميعنا أبناءُ الله، فهذا الكتاب، بفصوله الأربعٍ وعشرين، والواقعة في 1149 جملة، مُوجَّهٌ لنا جميعاً، حتى نعيش حسب تعليماته وإرشاداته.

 

الأحد هو يوم مهم للكنيسة، إذ هي تعلن رسميّا عن علاقتها الأسبوعية الرسميّة، أوّلا مع الله مؤسِّسها، ثمَّ مع جميع أعضائها. وبالتالي تُسمعنا نصوص هذا الإنجيلي الأساسية، التي منها نطّلع على أبعاد قصة ميلاد يسوع وأهمِّيّتِها لنا. لوقا لا يترك فينا أيَّ شكٍّ، بأنَّ هذا الطفل هو ابنُ الله المخلِّصُ المنتظر، كما أعلن عنه الرّوح يوم عمّاده. لذا فكلُّ ما يقول ويعمل، هو صالح ويستحق الاقتداء به. إذ الدّيانة المسيحية ليست قائمة على إتمام تعليمات ووصايا حرفية، مثل في القرآن، ولكن على شخص: اقتدوا بي فأنا وديع ومتواضع القلب. فيه تتحقّق كلّ أقوالُ الأنبياء، خاصة نبوات أشعيا، وبالتّالي يدعو إلى سنة رحمة للجميع. بإنجيل اليوم تبدأ حياة يسوع العلنية، بقيادة الروح القدس له إلى الهيكل، لإتمام الواجبات نحو الله الآب، أوَّلُها الصلاة، ويإيعازِ من رئيس المحفل، يقرأ النص الّذي هو علّق عليه بعد قراءته: اليوم تمت هذه النّبوءة (لو 21:4). كلمات يسوع هذه سارية المفعول، ليس فقط لسامعيه في ذلك الزّمان بل ولنا أيضا في القرن الحادي والعشرين، إذ هو المخلّصً الوحيد، وليس بغير اسمه يحصل إنسان على الخلاص (أعمال 12:4)

 

إنّنا في كلِّ الدّيانات، لا نجد شخصيّة مثل يسوع، يقبل بالبشر كما هم، كما ويقدِّم الخلاص للجميع، دون محاباة وجوه، لأنه يرى في كلِّ وجهٍ صورته هو، إذ نحن مخلوقون على صورته، فيقول لكل واحدٍ "أنت ابني الحبيب". نحن لا نزال في بداية سنة جديدة، حتى وإن كنّا لا نعلم ما سيحدث لنا فيها، ‘لاّ أنّنا متكلون ومتأكِّدون أنَّ الله معنا وهو رفيق حياتنا، حتى وإن تَرَكَنا كلُّ البشر من حولِنا، فإنَّ اللهَ لا يترُكًنا، إذ هو الوحيد الّذي لا يُخَيِّبُ أمل أحد. ولا يُميّزُ أحداً عن أحد. أنا معكم كلَّ الأيّام. حيثما حلَّ في حياته، كان يعمل الخير. فهو يتابع هذا النّمط ويصنع لنا خيرا في كلِّ زمانٍ ومكان.

 

فيا حبّذا بالتّالي، لو عندنا إحصائيات أسبوعية ثابتة، مثل إحصائيات المُصابين بالكورونا اليومّيّة، عن عدد الّذين يزورون قداس الأحد في رعاياهم. لكنّا أيضا بدون إحصائيات، نلاحظ التّراجع الكبير ليس في رعية واحدة أو بلد واحد، بل هذا هو الحال اليوم في كلِّ أنحاء العالم. الكنيسة تفقد يوميا، عدداً لا يُستهان به من أعضائها، الّذين لسبب أو لآخر، يتركون الكنيسة، ويعلنون عن التّخلّي عن عضويتهم فيها، كما يشاؤون. هذا هو مرض العصر، إذ ما عاد الآحد يوم الرّب، مثلما نقرأ في كتاب التكوين: " وبارك الرّبُّ يوم السبت وقدّسه"(2 موسى 20. 8-11) وما عاد الدّين بتعاليمه ووصاياه، مُسيِّرَ حياة البشر. الشعب الإسرائيلي كان يعدُّ نفسه من سعد شعوب العالم، لأنه كان يشعر أنّه بالوصايا العشرة مرتبط بإلهه رباطا متينا، لا يمكنه التخلّي عنه.

 

العائلات قديما، كان همُّها الوحيد، كلَّ آخر أسبوع، ألّا يغيب عضوٌ منها عن حضور القداس. فما كان من موعد أهمَّ من هذا الموعد. هذا وقد عِشتُ أنا شخصيّا هذه العادة، فكانت والدتنا تعتني بنا جميعاً، إذ كنّا 8 إخوان، فكان حضور القداس هو الأمر المهم، لها ولنا، في ذلك الزمان الّذي ما هو بعيد. وأما اليوم، فقد اختلفت الآية، بحيث أنَّ أتفه موعد، صار أهم من موعد الذهاب إلى القداس، ولو أن الدُّول المسيحيّة، لها قوانينَها العريقة، الّتي تحمي قدسيّة هذا اليوم، وما يجوز أو لا يجوز العمل فيه. لكن الواقع ما من يوم في الأسبوع، يُسيءُ النّاس استعمالَه، مثل هذا اليوم. فلقد صار يوم الحفلات الشعبيّة والرّياضية والتّجارية والتّسويقية المُريّحة، وبذلك فإنّه قد فقد هدفه وغايته الأولى، أي تسميتَه بيوم الرّب. وما هي إلا القَلَّةُ القليلة، التي لا تزال تعتبره يوم الأسبوع المُقدٍّس، وتعطيه حقّه بالذّهاب إلى القداس.

 

الآن نحن أمام مشكلة رئيسية، خاصة في أوروبا المسيحية. فإن تزعزع الإيمان فيها، فله عواقبه السّلبيّة، ليس فقط على مسيحيّي أوروبا، بل وأيضا على كلِّ من لهم علاقة مع أوروبا، سواء سياسية أو اقتصاديّة أو ثقافية أو أدبيّة، إذ للدّين المسيحي، الّذي كانت تقوم عليه علاقة أوروبا مع غيرها من الدّول، دور قيادي هام، في بناء ثقافة عالميّةٍ عامة وسياسية سلمية، كانت كل فخرها أمام التيارّات الأُخرى. "اغفروا لمن أساءّ إليكم. سلامي أُعطيكم. ليس كما يُعطيكم العالم أُعطيكم أنا...للآسف، بعد الحرب العالمية الثانية، تشتّت أوروبا وانقسمت على نفسها. فما عاد لها من أساس واحد يربطها ببعضها وترجع إلى وحدتها السابقة، فهذا سياسيٌّ يريد توحيدها سياسيا، وذاك اقتصاديّاً. لكن لا هذا ولا ذاك من هذين القُطبين، استطاع حتى اليوم، الوصول إلى توحيد الشّعوب أو البلاد، كما كانت. لأنَّ أيّة وحدة، إن لم تكن وحدة إيمان ومحبّة وتسامح، لا يمكن أن تنجّح،  إذ عبثا يبني البنّاؤون، إنْ لم يبنِ ربُّ البيت معهم. نعم الإيمان وحده قادرٌ أن يصبح من جديد أساساً للمنظّمة الأوروبية المُوحَّدة.

 

الإيمان يُوحِّد ويساعد على الوقوف جنبا إلى جنب، وذلك للدفاع عن مبدأْ أو قضية عادلة، كالدّفاع عن قدسيّة الأحد وحقوق الله والإنسان. فبكتاب التعليم المسيحي القديم، كان الحديث عن قدسية الأحد، وذلك عن عدم القيام بأعمال تجارية ومرابح يوم الأحد. حتى ولو كان الفقر والجوع منتشرين، فلا تجوز التجارة وكسب المال يوم الأحد، هذا وكان الجميع قابلا بهذا القانون دون أية مُعارضة أو احتجاج، بعكس اليوم، حيث الرفاهية والكماليات كلُّها موجودة، لكن كثرت الأسواق التجارية في مناسبات عديدة لكسب المال الأكثر: مثلا استعراضات رياضيّة، أو بازارات دائمة أو معارِض تجارية قبل عيد الميلاد أو أيضا عيد الفصح. فأنا أتساءل، هل الأحد هو اليوم المناسب لحلِّ المشاكل الاقتصادية؟ فهذه أهداف لا صلة لها بقدسيّة الأحد. "إنَّ السبت هو للإنسان لا الإنسان للسبت". إنّ النشاطَ العمليَّ المحض أو النشاطات الاجتماعية المحضة، يوم الأحد، تُنسي الإنسان هدف حياته وتُقسّي قلبه تجاه الله خالقه. بهذا نُعرِّض الأحد لفقدان قداسته، فإن زعزعنا أساسه، فكيف بوسعه أن يبقى قائماً، بل ماذا يبقى لنا من مسيحيَّتِنا، بدون قداس الأحد واجتماع المؤمنين لإكرام الله؟ ألا نعلم أنّه بدون الصّلاة، تتلاشى محبّة الله فينا؟  اليوم إن أنتم سمعتم صوته فلا تُقسّوا قلوبكم. فبدون الإيمان والمحبّة، أين نجد الأخلاق؟ وماذا يبقى من تأثيرٍ لتعليم يسوع ،والالتزام بالعيش بحسبه في الحياة العامة؟ وما هو الأحد بدون تذكار قيامة يسوع. ماذا يعني الأحد بدون القربان في وسط جماعة المؤمنين؟ كيف نتذكّر أفعال الله لنا، دون التّحدّث عنها، بل دون إحيائها بيننا؟ وعن احتياجنا لنعمته، كيف نجد السّلام؟ أين هو المكان أو الزّمان الذي يُذكِّرنا بارتباطنا بالله وببعضنا البعض، إن لم يكن يوم الأحد وفي بيت الله؟ الأحد يُذكِّرنا بكل حقائق الإيمان، فلا تجوز عولمته، أي ملؤُه بأشغال دنيوية تمنعنا من تأدية الواجب الدّيني فيه.

 

نعم هذه التجمُّعات الدينية، هي الوحيدة، التي تجعلنا نعيش ونلمس قرب الله لنا، إذ هو قال "حيث اثنان أو ثلاثة يجتمعون باسمي، فأنا أكون بينهم" (متى 20:8). يسوع كان يختلي يوميا مع أبيه وما كان بحاجة لزيارة المَجْمع، ولكنّه حيث كان يوم السبت، كان يزور بيوت الصّلاة ويجلس مع المُصلين، واليوم يقوم ويقرأ التوراة ويفسّرُها لسامعيه، بحيث يُبيِّن لهم أن الله محبٌّ رحيم، إذ قد أتمّ الأزمان وأرسل لهم عبده، الّذي سيبشِّرُهم بأوقات أحسن، ممّا وضع فيهم أملاً كبيراً." قولوا للناس، قد اقترب منكم ملكوت الله"، فأعجبهم جميعاً. أمَا هذه مثل لنا، يجب أن نقتدي به؟ " وذهب كعادته إلى المجمع".