موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٢

وأرى نفسه للتلاميذ من جديد

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
وأرى نفسه للتلاميذ من جديد

وأرى نفسه للتلاميذ من جديد

 

الأحد الثالث بعد الفصح (الإنجيل يو 21: 1-14)

 

قيامة يسوع تتكرّر في الأناجيل الأربعة، لكن أيضًا بتنويعات مختلفة، إمّا في الأمكنة التي يظهر فيها، أو في الأشخاص الّذين يظهر لهم. وهذا فقط لإثبات هذه الحقيقة الأساسية في ديانتنا. أما الكلمة التي تتردّد، فهي: أرى نفسه، وكان ذلك هنا وهناك بينما هم في العلية، أو وهم يصطادون، ثمّ يأتي ذكر أي ظهور: الثاني، الثالث... وهذا يعني أنّ القيامة حقيقة رغم شك الأعداء بها. على الرغم من أنّ حفلة دفنه كانت واضحة للجميع وكانت تستحق توثيقها بفيلم طويل، لو كانت هناك كاميرات مثل اليوم.

 

وصل سكان العالم اليوم أكثر من 7 مليارات ونصف. لكن الإحصائية تقول: إن الذين يعرفون المسيح، ويعد ألفي سنة، هم أقلُّ من ثلث هذا العدد الكامل. لكن لنتصوّر عالمًا كاملاً، بدون يسوع هذا، بدون تعليمه، بدون نوره، وبدون تأثيره على حياة البشر، بدون كنيسته والعاملين فيها، بدون أديرة ورهبانها، بدون مبشّريها، بدون مدارسها ومستشفياتها وملاجئ العجزة والأطفال بل والمعوّقين فيها. فمن كان سيعتني بكلّ هؤلاء؟ من كان سيفتكر بكل هذه المشاريع الإنسانية؟ فكم نحن شكورين لوجود المسيح والمسيحيّة في هذا العالم.

 

بهذا الصّدد يراودنا السّؤال: كيف يأتي الإنسان إلى الإيمان، أما راودكم هذا السّؤال أيضًا ويراودُ الكثيرين؟ كبف أنني أنا وُلِدت في هذه الدّيانة؟ الدّيانة لا تُباع ولا تُشترى، بل هي نعمة بل عطيّة مجّانبّة من الله، وإلا كيف نُفسّر المناقضات بهذا الصدد. هذا يولد في بيتٍ مسيحي، وذاك مسلم أو بوذي، أو كما نقول وثني! إذن ليس لنا في ذلك أيِّ ناقةٍ أو جمل. فما لي حق أن أفتخر، بل أشكر الله على هذه العطيّة المُميّزة.

 

أمّا لتنمية الإيمان، فهناك طرقٌ كثيرة، منها أوّلا التربية الدّينيّة البيتيّة، التي عليها تقع مسؤولية غرس الإيمان بالدرجة الأولى في قلب الطفل. فالأهل مسؤولون ليس فقط عن توفير الأكل والشرب والملبس، بل وأيضا عن غرس بذرة الإيمان منذ الصغر في أبنائهم، لأنه، كما قال المثل: العلم في الصّغر كالنقش على الحجر. فإن أهمل الأهل هذه المسؤوليّة، سيبقى صعباً أن تصبح حبّة الخردل شجرة كبيرة فيهم. يلحقُ دورَ الأهل دورُ المربّين في الرّوضة والمدرسة، فعليهم أن يسعوا أن يُعطوا للإنجيل وجها حيّاً، إذ المعلّم والمُربّي هو أحسن كتاب تعليم. هذا ويلحق متأخِّرا دورُ الكنيسة. فهذه سلسلة عوامل مترابطة، إن نقصت سلسلة منها، ستٌحْدِثُ فجوة كبيرة، من الصّعب تعويضُها لاحقاً.

 

قال بولس الرسول: الإيمان يأتي من السماع. فمن هنا يلعب المبشِّرون دورا كبيراً، بجلب الإيمان إلى المناطق النّائية، التي تُرسِلُها الكنيسة لهم، إذ هذه هي مُهمَّةُ الكنيسة الأولى: "كما أنَّ الأب أرسلني، أُرسلكم أنا أيضا لتأتوا بثمار" (21:20). اذهبوا وبشروا جميع البشر. فكلّ مسيحي، لكونه مسيحي، هو أيضا مبشّر في جميع المجالات الاجتماعية، وذلك بأقواله وأفعاله. ألا نذكر ما قال بطرس لرئيس المحفل، الذي كان منعهم أن يُبشّروا؟ نحن لا نقدر أن نصمت، فإنَّ الله أحقُّ من البشر أن يُطاع. محور تبشير الرّسل هو ليس الجدال حول إثبات القيامة، لكن بعد ظهور يسوع لهم، نشر حقيقة هذا الحدث والتشديد على أنّ مخطّط الله الخلاصي هو وسيبقى ساري المفعول، أي أن يؤمن به آخر مولود في هذا العالم. وهذا سيطول، لان الإنسان مُخيّر لا مُسيّر، فسيمتدّ نشر الإيمان به ببطء. هو نفسه، أي يسوع القائم من الموت، سيظهر بحوادث التّاريخ، لِيُثبت صحّة وجوده على أنّه هو مُسيِّرُ ورئيسُ هذا العالم. إنجيل اليوم قال: وأرى نفسه للتلاميذ من جديد.

 

مبدئياً كان إنجيل يوحنا قد انتهى بظهور القائم من الموت لتوما في الأحد الماضي. لكن يبدو أنّ احد تلاميذه، قد أضاف عليه ظهور اليوم للتلاميذ على شطِّ بحيرة طبريا، في نفس المكان الذي كان قابلهم فيه لأول مرّة ودعاهم ليتبعوه، فتكون حياة يسوع العلنية الأرضية، قد ابتدأت بظهوره وانتهت بظهوره في نفس المكان. فهل لهذا من تفسير؟ مِنَ الممكن أن يكون هذا: حيث كان لا يزال آخرون يشكّون في قيامته، فقد أراد هذا التلميذ طرد الشّك من تلك العقول، كما وتقوية الإيمان، مُشدِّداُ على ظهوره الحي، ليقوِّي إيمان الضعفاء، "لانهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب، أنّه ينبغي أن يقوم من الأموات" (يو 9:20) ومن ناحية ثانية، أراد هذا التلميذ أن يدعم الأقوياء في إيمانهم، حيث يشهدون "لقد رأينا الرّب"، كما كتب يوحنا في رسالته: "الذي كان من البدء، الّذي سمعناه الّذي رأيناه بعيوننا، الّذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحق، نشهد له وبه نبشّركم" (1 يو 1:1).

 

حياة يسوع على الأرض كانت محدودة، وقد تنبّأ ثلاث مرّات عن موته، وهذا يعني إن الكثيرين لم يروه ولم يعرفوه. فالمقابلة مع توما، كانت حلا لكلَّ هؤلاء. الطوبى لمن يؤمن وهو لا يرى. في هذه الجملة عزاءٌ لمؤمني العالم قاطبة، الّذين من آلاف السنين يؤمنون به، وهم لا يروه. لقد قال القديس غريغوريوس الكبير: لقد انتفعنا بقلّة إيمان توما، أكثر من انتفاعنا بكثرة إيمان التّلاميذ. الطوبى لمن يؤمن وهو لا يرى. ما أعذب هذه الكلمة على مسامعنا اليوم، نحن الذين آمنا بقيامة المسيح، ولم نرَ من القيامة شيئًا. آمنا ولم نضع لإيماننا شرطاً، ولم نلمس بيسوع جرحًا. فالطوبى لنا!

 

إنّه قد قام. فلنتصوّر لو تحدث قيامة يسوع في أيامنا، كيف سيكون هذا الخبر؟ أوّلا لَن يحدث هذا سرّاً، بل الإنجيل يقول: إنّ القبر كان محروساً، فلا بدّ أنه لكانت عشرات الكاميرات أيضاً مع مئات الصحفيّين بجميع أجهزة السوشيال ميديا على كل الأبعاد تراقبه، ولنتشر بأسرع من البرق، ولكثرت المقابلات والأوصاف الّدقيقة، فلا يبقى إنسان لا يعرف ذلك، بعكس ما حدث معه آنذاك، فقد تمّت قيامته بكل صمت، وما عرف بها إنسان، بل هو الذي، بعد ما قام، أظهر نفسه لبعض الأشخاص، وليس للعموم في ساحة الهيكل، التي كانت تعم بالناس، الّذين جاؤوا من كلٍّ حدبٍ وصوب، لحضور عيد خروجهم من مصر (أي التحرير من عبودية فرعونا). إنّه فضّل الظهور لقومٍ قليل من أحبّائه وأتباعه، وخاصة الرسل، وهؤلاء بعدما رأوه وتحدّثوا معه، وتحقّقوا من صحّة الخبر، أشاعوه في محيطهم، بل إنَّ قيامته أخذت المقام الأول في حديثهم وتبشيرهم إذ هو لو لم يقم، لانتهت قضيّتُه، وصارت في خبر الكانَا، ولمتنا نحن في خطايانا، يقول بولس.

 

والسّؤال الآن: لمَ يظهر لهم، أي هذه الأقلية، وليس للجماهير، الّتي حضرت موته الشنيع يوم الجمعة؟ أما كان الأصح أن يصفّقوا ويُطبِّلوا له، فلكان خبر قيامته قد انتشر علناً وعلى أوسع نطاق، وبمدّة قصيرة. لكن يسوع ما كان يحب الدّعايات والمظاهر. ظهوره لأقربائه وتلاميذه، كان بمثابة تعزية لهم، إذ كلّهم كانوا حزانى على موته، واحتاروا كيف ستكون الحياة بعده، بل كثيرون فقدوا الأمل، كما في قصة تلميذي عمّاوس (لو 24) فقد عبّرا فيها، عمّا كان يجول في حياة وخاطر الكثيرين. فبكلّ مجرى القصّة، من انضمام الضيف إليهما إلى آخر القصة، لعبت التعزية دورا كبيراً، إذ كلُّ الّذين شاهدوا موته ونهاية حياته بهذا الشكل، قد فقدوا الشجاعة والأمل، أنّه هو كان المخلِّص المُنتظر: "نحن كنا نرجو أنّه هو المُزمع أن يفدي إسرائيل". هؤلاء كانوا بحاجة الى العزاء. لذا فهو لم يتوانَ أن أظهر لهم نفسه، بأنّه هو بالذّات، الواقف أمامهم: ما بالكم مضطربين؟ لماذا تتركوا تلك الأفكار تشغلكم. أنظروا، أنا هو، الروح لا لحم له مثلما تشاهدون فيَّ. وبالتالي، لمّا ظهر لهم وتوما كان معهم: أعطاهم أحسن البراهين: هات يدك وضعها في جنبي.... التي أنهاها بالجملة: الطوبى لمن يؤمن وهو لا يرى". وهذه آخر طوبى في الإنجيل، والأولى في يوحنا. الإيمان ليس بالرؤية لكن بالشهادة والتصديق. ثم ظهر لهم مرّة ثانية: ليرسلهم كما الأب أرسله ليبشّروا ويجعلوا كل البشر تلاميذ له. وأخرى ليعطيهم السلطان على مغفرة الخطايا (يو 23:20)

 

فالقيامة إذن هي عمود الإيمان. فإن كانت حقيقية، وهي كذلك، فهي تعني أن ملكوت الله دائم وقضيته ستبقى سائرة، ومحبّته لنا وللعالم دائمة، وهذا يعني بالتالي أنه يريد خلاصنا.

 

لقد ابتدأ ظهوراته بعد قيامته، بعبارة: السلام لكم! فما أحوجنا اليوم للسلام، وهل من شيء أبدى من السلام لعالمنا المضطرب؟ آخر ظهورٍ له لتلاميذه، كان على شطِّ بحيرة طبريا، نعم إنّ يسوع واقف دائما على شط حياتنا، ليسألنا كما سأل بطرس: هل تحبُّني؟ فهل نحن على استعداد، في وسط أتعابنا وأحزاننا وأمراضنا ومضايقاتنا، بل في وسط الحروب والمناوشات الدّائرة، أن نجيب، كما أجابه بطرس: نعم، أنت تعرف أني أُحبُّك. لأني عارف بمن آمنت! آمين!