موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ فبراير / شباط ٢٠٢٢

هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى؟

هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى؟

 

الأحد الثامن من زمن السنة (الإنجيل لو 6: 39-45)

 

أعمى ومعوّق كانا في نزهة في غاب، حيث هبّت نار من حولهما، وإذ ما عرفا أين الاتجاه الصحيح لينجوا من الحريق، اقترح الأعمى على المُعوّق أن يجلس على أكتافه ومن فوق يدلّه على الطريق وكذا نجيا. أما صدق يسوع بقوله: أعمى لا يقدر أن يقود أعمى؟ مثل من أفريقيا فيه أيضا حكمة، يقول: 4 عيون ترى أكثر من اثنتين، لذلك يتزوّج الإنسان.

 

لماذا ترى القذى في عين أخيك، ولا ترى الخشبة في عينك أنت؟ نادرا ما يحتوي نصٌّ من نصوص العهد الجديد، أمثالا شعبيّة، مثل الّتي سمعناها في نصّ إنجيل اليوم. فمَن مثلا يتكلّم عن سماع خبر سار، ولا يستعمل كلمة يسوع: اللسان يتكلّم بما يفيض فيه القلب. أو الشجرة الجيّدة تُثمر ثمرا جيّداً، أو الأعمى لا يستطيع أن يقود أعمى. فهذا جعل بعض عبارات يسوع شائعة ومعروفة في الحياة العامة. لكن الخطر، هو أن مَن يستعملها، يستعملها لمصلحته. فإمّا أنّه يُسيء استعمالها أو يأخذ فقط المقطع الذي يعجبه ويترك الجانب السلبي منها، مثل شهود يهوى.

 

لقد سمعنا مقطعاَ من فصل وخطاب التّطويبات الطّويل ليسوع. والخطاب هو عادة مُوجّه لفئة من النّاس. هذا الخطاب ألقاه يسوع أمام تلاميذه. وما من مانع من أن نسمّي أنفسنا تلاميذه، ونصبح أيضا من سامعيه اللاحقين، بعد أكثر من ألفي سنة. فأقوالُه هذه وأمثالُه تحمل في طياتها عِبَراً مفيدةً لنا نحن، وللعالم أجمع طبعاً. هذا وهي بشارة خاصة، من إله المحبّة والرحمة، يجب أن تَظهر عمليّاً في حياة البشر، وتصرُّفِاتهم مع بعضهم البعض، كما يوصي يسوع. وقبل كلِّ شيء هو يحذّرنا من أن نُصبِح قادةَ عُميان. أعمى لا يستطيع أن يُري الطريق لأعمى، وهذا يعني أيضاً، الابتعاد عن الادّعاء، أنّنا نعرف أكثر من غيرنا، فنجرَّه للوقوع في خطأ. هذا يعني لنا، أن نظهر كما نحن، لا رياء فينا ولا فَرّيسيّة.

 

ثانيا يُحذِّرنا يسوع من رؤية الخطأ عند قريبنا فقط وتضخيمَه، ولو كان صغيرا، لكنّنا لا نرى الخطأ الجسيم فينا: يا مُرائي! أخرِج الخشبة أوّلا من عينك! من لا يذكر بهذ الصّدد، المثل الّذي أورده لنا القديس فرنسيس حيث قال: كي يُبرِّر الإنسان نفسه، بل كي يُخفي وجهه، كما في وقت الكرنفال، ولا يظهر على حقيقته، فهو يحمل كيس(خُرُجَ) حمار. له مخزن كبير، يضعه من الأمام، يبقى نظره مصوَّبا إلى محتواه، يضع فيه كل عيوب قريبه فيجعلها كبيرة في عيني حاله. هذا وللخرج فتحة صغيرة من الخلف، يضع فيها مخالفاتِه هو فيراها صغيرة مهما كانت كبيرة. فالمراء آت إذن واضحة وهي أكبر عدوّ للرّحمة والتسامح. لذا يحذّرنا يسوع منها اليوم. قال المثل الدّارج: من يحكم على قريبه، يمكنه أن يُخطئ، وأمّا مَن يسامحه فلا يُخطئ.

 

رغم القوانين التي تمنع الإضرار بسمعة القريب، بل توصي بحماية حياته الشخصية، فقد ازداد التجريح بسمعته عن طريق السوشيال ميديا، التي ما عادت تحترم الخصوصيّات الشّخصيّة. بل عاد التشريح والإضرار بالسّمعة، هو القاعدة، وما عاد من خفيٍّ، أو سِرّيٍّ إلا وانكشف، إذ الفرد عاد يتجسّس على المجموعة، والمجموعة تتجسّس على الفرد. أي تهميش بتهميش. لقد ضاع احترام القيم الشخصية وما عاد الصغير يُقدِّرُ الكبير، لا ولا الكبيرُ الصّغير. هذا وما عاد من آثر للمحبّة المسيحيّة في حياتنا اليوميّة، وما عُدنا رحماءَ لبعضنا البعض، بل صرنا أنانيّين، لا نحبُّ سوى أنفسِنا. لقد فاتنا أنّ مَن لا يُمارس الرّحمة مع قريبه، لا يعرف ما هي المحبّة المسيحيّة، ومن لا يُمارس المحبّة المسيحيّة، يكون قد أضاع الثّقة بقريبه، وما عاد يرى فيه إلا أسداً ضارياً يتجوّل حوله ليبتلعه، أو كلباً شرساً لا مناص من أسنانه الماضية. لكن لكم هذه القصة بهذا الصّدد: بينما خرج أحدهم للتنزّه، إذا بكلب كبير يقف أمامه في نصف الطّريق، فلرؤيته علق لسانه بحلقه، إذ ما عرف كيف يتصرّف مع هذا الكلب. وفي حيرته هذه خرج طفل من البيت المقابل وركض إلى الكلب، فحذّره المُتَنزِّه قائلا: لا تقترب! فهذا كلب شرس! لكن الطفل ما اكترث لكلامه بل اقترب من الكلب وراح يداعبه ويحتضنه قائلا: هذا الكلب لطيف وليس شرساً، ويجب فقط محبّته ومداعبته. فاكتسب المُتنزِّه بذلك درسا مُفيداً لحياته!

 

أليس في هذه القصة عِبرةٌ لمن يريد أن يعتبر. فكم وكم نقابل أُناساً، أخَذْنا عنهم فكرة خاطئة ولا نريد أن نربط معهم أيّة علاقة ودّيّة، بل نتحاشى مخالطتَهم أو مقابلتهم على طريقنا. فلو حاولنا مرّة محبّتّهم أو أقلَّه مُلاطفتهم، لكنّا اكتشفنا، أنّهم لا يتحلّون بالشراسة كالكلب المذكور أعلاه، مُكشِّرين عن أنيابهم لِعَضّنا أو افتراسنا. بل هم في الحقيقة، غيرُ ما نفتكر. وإن أحببناهم، قال الطّفل، فهم لا يكشفون عن أسنانهم الضارية ولا يعضّون

 

لقد نسينا أنَّ مّن يُريد تحسين العالم مِن حولِه، عليه أن يبدأ بتحسين نفسه أوّلا. فالحكم على الغير بسب منظره، يجب أن يكون غريبا عن حياتنا. هذا وبما أننا جميعنا أعضاء جسد الله الواحد، فلا يجوز الاعتقاد، أنّ واحداً منّا، أعلى أو أفضل من الآخر. وبالرّغم من ذلك، فمن يدّعي أنّه أهمّ وأفضل من قريبه، فهو مُراءٍ ودجّال.

 

وبالتّالي يقول يسوع، إن أردتَّ أن تعرف من أنت، فراقب ما هي ثمارُ حياتِكَ. أما قال هو: من ثمارهم تعرفونهم! الشجرة الجيّدة تُثمر ثمراً طيّباً. والرّديئة تثمر ثمراً رديئاً، فتُقطَع وتُلقى في النّار. وآخَرا لا آخِراٌ، يقول يسوع: الفم يتكلّم بما في القلب، إذ من الدّاخل، من القلب تأتي النّيات والأعمال، التي تُجمِّل حياتنا أو تُخزيها. فنرجو أن يملا روحُ الله قلوبنا، كي لا تصدر عنها إلا الأفكار والأقوال السارّة.

 

من المؤكّد أنَّ يسوع ما كتب حرفا من هذه الأمثال، لكنّه علّمها وعاشها كلَّها. وقد أكَّد لنا أنَّ الحياة الناجحة، رغم ما يحيط فيها من صعوبات ومخاطر، ممكِنة. فلنحاول ألا تبقى هذه الأقوال حبرا على ورق، بل أن نجسِّدها في أعمالنا وعلاقاتنا اليومية، مع أنفسنا ومع قريبنا، فلا تبقى أمثال يسوع أمثالا فارغة. بل تملؤها حياتنا بالحياة.

 

الفنّانون يفهمون الحياة بطريقتهم الخاصّة. فأي كلمة أو مشهد أو قصّة تؤثِّر فيهم يُخلِّدونها بصورة على مزاجهم. فها أحدُهُم مثلا، قد قدّم يوحنا المعمدان، الّذي أشار على يسوع بكلمته المشهورة: هوذا حمل الله، بإصبع طويل يصل إلى يسوع، الواقف أمام الجماهير. وها آخر قدّم بطرس برجلين طويلتين، لا نِسْبَةَ لهما بمقارنتهما مع جسمه، وذلك بعد قول يسوع للتلاميذ: اذهبوا وبشّروا. وها آخَرُ قد قدّم الصبي صامويل في الهيكل بعد سماعه صوت يهوى يناديه، وجوابه: ها أنذا فتكلم! بعيون شاخصة إلى العلى، ويدين واسعتين خلف أذنين كبيرتين، مُصغيا للصّوت السّماوي!

 

فإنجيل اليوم، الّذي سمعناه قبل قليل، بأقواله وعباراته، يصلُح بل يُقدِّم أرضيّةً لِصُورٍ عديدة ذات معنى. فلنتخيّل مثلا صور الفنّانين كيف ستكون حول الخشبة والقذى في العين، أو كلمة: اللسان يتكلّم بما يفيض فيه القلب، أو الشجرة الغير صالحة، مُقارنة بالإنسان الغير صالح! الإنجيلي يوحنا مِن قَبْلنا وقبل فنّانينا، قارن الشّر بالظّلمة، بينما الخير فبشعاع منيرٍ مضيء. وهذا ما كان قاله يسوع عن تلاميذه وعنّا: أنتم نور العالم! فهذا هو المسيحي، أي حامل نور الله في ظلمة هذا العالم. هذا النّور يجب أن يُضيء من الدّاخِل إلى الخارج. وذلك كاللمبة الكهربائيّة، فهي تضيء من داخل بروازها القزازي، وتضيء لمن حولها.

 

لمّا ابتدأ يسوع رسالته العلنيّة، وباشر بتجميع عمّال حواليه، باشر أيضاَ بوضع بعض الشروط، للذين أرادوا أن يتبعوه. قال: من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه كلَّ يومٍ ويتبعني. واليوم هو الأحد الثالث على التوالي، تسمِعنا الكنيسة نصوص خطاب يسوع الطويل، والذي يُعلن فيه عن الخطوط العريضة لهذا الملكوت وعمّاله. وأمّا الخطوط العريضة في رسالة التبشير، فهي ليست فقط بثّ الفرح، بل وتحتوي على وصف لما قرّر الله أن يفعله، كي يُخلِّصنا، فهو سيسمح بموت ابنه، كضحِيَّةٍ عن خطايانا، بل وتُوَضّح ما على الإنسان أن يفعل من جانبه، كي يخلص. فها هو يعطينا في إنجيل اليوم، نصائح كيف نتصرّف مع بعضنا البعض، كما سمعنا.

 

إن كثيرين لا يعرفون ما صنع الله من عظائم لأجلنا. أما وكيف نجعلهم يكتشفون هذه العظائم، فعلينا أن نجعلهم يُحبّون التّوراة ويقرؤونها، إذ فيها وحدها يمكن اكتشاف كلِّ ما قدّمه الله محبّةَ بنا ولخلاصنا. وهذا ما تسعى الكنيسة في تعليمها، تفهيمه وشرحه للناس. آمين.