موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

لمّا تمّ الزمان أرسل الله ابنه

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
لمّا تمّ الزمان أرسل الله ابنه

لمّا تمّ الزمان أرسل الله ابنه

 

عيد الميلاد (لو 2: 1-14)

 

لأي شخصيّةٍ أخرى تمّت تحضيرات شاملة كاملة وافية، مثلما تمّ لميلاد يسوع. بعد 100 سنة من الحروب الأهلية الطاحنة، كانت الأحزاب والشّعوب قد انحلّت، وأصبحت كأنها شعب واحد بجنسية واحدة، هي الرّومانية، وكل العالم، من تركيّا إلى اسبانيا، ومن مصر إلى إنجلترا،  يتكلّم إمّا اللاتيني أو اليوناني. نعم  كلُّ العالم المعروف آنذاك، كان خاضعا للحكم الرّوماني، برئيس واحد، إسمه أغسطس قيصر، فنستطيع أن نقول: لمّا تمّ الزمان، لبس فقط سياسيًّا، بل ودينيًّا، كان الناس متحضّرين لاستقبال بشارة جديدة. عندها أرسل الله ابنه: الكلمة صارُّ جسدًا وسكن بيننا (يو 14:1). السّؤال لماذا؟ كل ذلك تمّ محبةً بنا. فهل نفهم ذلك؟ نحن هنا اليوم لنعيّد هذا الحدث الفريد، الّذي تمّ قبل أكثر من ألفي سنة.

 

لكن أولا لا في الإنجيل ولا على لسان الرّسل ولا في كتب اللاهوتيّين ولا في كتب التّاريخ، مذكور أن يسوع وُلِد في هذا التاريخ، أي 25 ديسّمبر. كما ولا سنة ميلاد يسوع  هي معروفة بالضبط،. لكنْ شيئاً واحداً ثابت ومعروف: أن يسوع وُلد على أرضنا هذه، وفي مدينة بيت لحم، مدينة أجداده. إذن التاريخ غير معروف، لكن الحدث معروف ومُؤكّد. لكن نسأل من جديد: لماذا تعيّد الكنيسة الكاثوليكيّة، هذا العيد المُهم، في يوم غير معروف ولا مذكور؟ أقول من جديد، المهم هو ليس اليوم، لكن صحّة الحدث. ولهذا عدّة تفسيرات، تُبرِّر احتفالنا اليوم واحتفال أغلب الكنائس المسيحية في العالم، لهذا الحدث التاريخي. الشّواذ هي بعض الكنائس الأرثوذكسية، لا عن حق، ولكن لعدم فهم القوانين، التي اعتمدت عليها الكنيسة الكاثوليكية في تعيين هذا التّاريخ. تفسيرها كالتّالي:

 

لمّا انتهى عصر اضطهادات نيرون والقياصرة من بعده إلى سنة ارتداد القيصر قسطنطين واعتماده بل واعترافه بالديانة المسيحية وإعطاءها كامل الحرّية في التبشير في جميع المستعمرات الرّومانية، ابتدأت الكنيسة عصرها الدّهبي، بحيث لم تلجأ إلى أسلوب الإنتقام، بل كديانة سلميّة، ولكي تُقنِع وتجذب الأوثان إليها، ما ألغت الأعياد الوطنية والشّعبيّة. المعروفة عندهم، بل تركتهم يجتفلون بها، لكنَّها عمّدتها، أي غيّرت معناها. وهذا أهم ما قامت به، فأنست الأوثان أسماء أعيادهم، بوضعها مكانها أعياداً دينيّة. وهذا ما يُفسِّرُ لنا تاريخ عيد اليوم، أي يوم 25 ديسّمبر. فهذا اليوم كان معروفاَ عند الرّومان ، تحت اسم عيد الشمس، أي عيد النّور الّذي لا يُقهر (sol invictus)، ويعتبرونه، أكبر وأهم أعيادِهم، يمضونه بالأكل والشرب والملاهي. هذا اليوم كان عيد مهرجان انتهاء شمس البرد الشّتوي، ويوم بداية فصل النّور القويّ في العالم. ومن هو هذا النّورألذي لا يعلو هليه تور ولا يُقهَر، إن لم يكن هو ذاك الّذي قال عن نفسه: أنا نور العالم. وهكذا احتلّ عيد الشمس المسيحية، الإحتفال بعيد انتهاء الظلام قبل ميلاد المسيح، وبداية ظهور النّور الجديد في العالم. هذا هوأصل تاريخ عيد الميلاد، لنا نحن المسيحيين. أمّا أين وكيف جرى هذا العيد، فقد سمعناه في نص إنجيل اليوم على لسان الإنجيلي لوقا، اّلذي قال. عيد ميلاد يسوع الأول جرى في بيت لحم.

 

كلُّ جواز سفر، فيه فسحة يُذكر فيها مكان الولادة، وهكذا نعرف من أي بلد في العالم نأتي. وكل واحد فخور بجنسية بلاده، فهو غير مجهول الهوية، مثلما يقول المثل. يسوع حمل جواز سفره من بلدية بيت لحم، التي تمَّ فيها اكتتاب يوسف ومريم "وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغيرة  في أرض نافتلي، لآنه فيك وُلِد مخلِّص العالم(متى 6:2). ميلاد شخصيّة كبيرة في بلدٍ صغير، يجعله مشهورا. على أيِّ حال، كانت بيت لحم مشهورة قبل ولادة يسوع فيها، إذ فيها كان ولد قبل ميلاد يسوع بألف سنة، الملك داؤد، أحد أجداد يسوع. هذا  وجتّى يلد يسوع في بيت لحم، حدث العجز المالي في حكومة المستعمِر الرّوماني، الذي أمر بإحصاء الشعب، كلّاً في مسقط رأسه الأصلي، وجمع الضرائب منه. وهكذا رجع يوسف ومريم إلى بيت لحم. وأثناء إقامتهما هناك تمّت النّبوءة وولد يسوع في بيت لحم.، قي نفس المكان الّذي نُصِّب فيه داؤد ملكا على الشعب. مكان النجمة الحالي في مغارة بيت لحم.

 

الإنجيلي متى هو الوجيد، الّذي ذكر لنا في بداية إنجيله شجرةَ عائلة يسوع، مع ذِكْر أجداده وأقرباءِ دمه، وهذا فخر، لأَن يعرف الإنسان من أين ينحدر. وهذا يبرهن لنا أن هذا المولود، الذي نحتفل به، هو ليس فقط إلها نزل من السماء، بل وإنسانا كاملا، بدمٍ ولحمٍ، مثل دمنا ولحمنا، أخذهما من الإمرأة الوحيدة، مريم المذكورة  على لائحة شجرة العائلة، التي لا تحمل إلا أسماء الذّكور، كما كانت العادة. هذا الحدث العظيم نعيّده، حينما نقول: عيد الميلاد. يسوع صار واحداً منا، إنساناً مشابهاً لنا في كلِّ شيْ، ما عدا الخطيئة. والنتيجة بفضله سنلبس الطبيعة الإلهية، حتى يعود لنا شَبَهُنا به، الّذي ضاع منا، بل فقدناه بالخطيئة. الكلمة صار جسداً وسكن بيننا. حالا بعد سقوط آدم وحواء في الخطيئة ،وعد الله مُخلصاً، سيلد أيضا من إمرأة.

 

عيد الميلاد هو للصغير والكبير، إذ كلُّ واحدٍ يجدُ فيه سبب فرحه، هو العيد الوحيد، الّذي يفهمه الصّغير قبل الكبير، لأنّه عيد للقلب، بعكس عيد الفصح، فهو للكبير قبل الصّغير، لأنه عيد العقل. الصغير يفهم ولادة طفل، خاصّة إن كان له إخوة أصغر منه سنّاً. بينما هو لا يفهم موت كبير على الصّليب. فلكي نُفرّحَ قلوب ملايين الأولاد في العالم، يجب أن نُعيِّد هذا العيد. عيد الميلاد هو ليس يوما أو عيدا إعتياديّاً، بل هو عيد انتظرته  كلُّ الأمم، لأنَّ المولود ليس طفلا اعتياديّاً، بل هو ابنُ الله، والمُخلِّص الموعود. فمن يريد الاحتفال بعيد الميلاد، له علاقة بالله، إذ هو عيد السّلام والمحبّة.

 

ماذا ينتظر مِن الله، ذاك الإنسان الذي يتهيّأ للإحتفال بعيد الميلاد؟ فهذا السؤال هو صلب ومِحوَرُ العيد، إذ عيد الميلاد هو عيد الإنتظارات التي يحقِّقها الله وحده لنا. فما كان إنسان في أورشلييم إلا وينتظر من الله التدخّل في هذه الزاوية المنسيّة، المسيطر عليها المستعمر الرّوماني، ويطردهم منها. نعم كلُّهم كانوا يُعلِّقون آمالا كثيرة على هذا المخلِّص المنتظر، بما يخصُّ الإستعمار، بل كثيرون من اليهود كان لهم رؤيتهم الخيالية، فقد كانوا صاروا رأوا هذه المخلِّص، قادماً ليعيد تأسيس مملكة داؤد الكبيرة. هذا رأيُهم. لكنّ مطلبهم قد باءَ بالفشل، لأنه لا صلة له بهدف ميلاد المخلِّص. بميلاد هذا الطفل، يقول بولس: لقد ظهرت نعمة الله، يسوع الخلاص لجميع البشر (تيطس 11:2). ولأنَّ الخلاص، الذي عناه الله منذ بداية العالم، لا صلة له بحرب ضد أي استعمار، فسيكون لجميع البشر، وليس لشعبٍ خاص، حتّى ولو كان شعبه الخاص. فالخلاص الذي يريده الله، هو من طبقة أُخرى، لا علاقة له باستعمال القوة والسّلاح، وهو قدير وفعّال، حتى للبشر، الرّازحين تحت الإستعمار. فكلُّ إنسانٍ، عندما يسمع بهذا الخبر، بوسعه أن يفرح ويقول مع مريم: تُعظِّم نفسي الرّب وتبتهج روحي بالله مخلّصي، وذلك لأنَّ القدير، صنع بي عظائم!

 

لمّا تمَّ الزمان، وكان الشعب قد ذاق الأمرَّين، ولم يستطع أن يُخلِّص نفسه، لا من الخطيئة ولا من عبوديات الشعوب الغريبة له، أرسل الله ابنَه، مولوداً من إمرأة،  كآخر واسطة. أشعيا يقول: لما تساءل الله مع نفسه: ماذا أعمل لِيَخْلَصَ شعبي؟ تقدّم يسوع أمامه وقال: ها أنا فأرسلني! وفعلا نجحت مُوآمرة الله على البشر.

 

بعد الحرب العالمية الثانية عام 1950: كانت مدينة نابولي الإيطالية لا توصف: لم يكن فيها بيت صالح للسكن، وأكثر من 200.000 عاطل عن العمل، أكثرهم من الشبيبة، التي كانت تعيش من السرقات وبيع الحشيش والمُخدِّرات والمسكرات، تقدّم راهب بالطلب إلى رئيسه، أن يسمح له بأن يترك حياة الدير، ليعيش بين تلك الشبيبة، كواحد منهم، ليغيِّر حياتهم. وبعد تردّدٍ، سمح له رئيسه. وللحال ترك الثوب الرهباني، وأبدله بلباس مُمزّق ككثيرين منهم، وراح يتجوّل في تلك الأوساط، واضعاً في فمه نصف سيجاريلّو مُطفأَة، يعيش من الشحذة أيضا، ويقاسم الجوعانين خبزته. يجلس مع هذا ويتحدّث مع ذلك بلطف غير محدود، حتى صارت الشبيبة تتجمّع  حوله وتُصغي إليه بفرح لما تسمع منه، وحبثما وَجَدَ مأوى، كان يٌنادي الّذين لا مأوى  لهم، ويسكنون معه. فما مضى مُدّة حتى كسب قلوب الشبيبة المُتمرِّدة، التي شعرت بأنّ هذا الإنسان، حتى وإن كان واحداً منهم، إلا أنّه كان يُظهِر لكلِّ واحدٍ شيئا، ما كان أحد يُظهِرُه لهم، وهو المحبّة.

 

فهل نفهم الآن، لماذا أصبح الله إنسانا؟ لماذا صار واحداً منّا؟ لأنه يريد خلاصنا. نعم لأنّه يُحبُّنا. نعم ميلاده هو تأكيد لمحبّتِهِ لنا، فهو ما تركنا بل معنا دائماً. هو أبٌ غير حقود على أولاده، وإلا لما عمل معنا ما عمل. وقت إهانته من آدم وحواء، لم ينتقم، بل وعد بمخلِّص. وعندما تمَّ الزّمان، ترك السّماء وسكن بيننا. جعل من أرضنا أرضاً مُقدّسة. فهل تعرف يا إنسان ما هي قيمتك عند الله؟. إذ لا يوجد إنسان واحد من السبع مليارات ونصف على وجه الأرض، محروم من محبّة الله، بل هو يحبُّ الجميع، ولخلاص الجميع وُلد على هذه الأرض، وسكن مع البشر، وباللغة العبريّة هذا يعني أنَّه نصب خيمته في وسطنا، تماما كما كان الشعب ينصب خيمة لبرج العاج ، وكانت رمزا لوجود الله بين شعبه. فهذه هي رسالة الميلاد، الأولى والآخيرة. محبّة الله الفائقة لخليقته الإنسان. في الإنسان تجلّى الشر والظلام والخطيئة، بينما في تجسّد الله، فالمحبّة والمغفرة والسّلام والنور الجديد. بكلمة: الخلاص!

 

علماء الفلك يقولون: ملايين النجوم والكواكب تُضيءُ ذاتَها بذاتها، إذ كلُّ واحدة منها مُجهَّزةٌ بخزّان نور فيها مستفل، إلا الأرض، لا ضؤ لها، فهي مُظلمة، وتحتاج ضؤَ الشمس.  يوري جاجارين، عالِم الفلك الرّوسي الأول، الذي طاف عام 1962 مدّة 108 دقائق بمركبته الفضائية حول القمر، قال بعد هبوطه: ما وجدت الله في أي مكان. نعم الله لم يلد على أي فلك، لكن على أرضنا المعتمة، كي ينيرها بنوره. هذا الفلك المُظلم بالضبط، إختاره الله ليلد فيه، فيضيئه من نوره، هو نور العالم. فأرضنا إذن محظوظة، إذ ما حدث لها، لم يحدث لأي فلك آخر. لذا نعيّد على الآرض كلِّها هذا العيد ونفرح فيه بل ونُفرِّح غيرنا بشتى الطّرق المعروفة: مثل العزائم او الهدايا. اليوم قد تمّ الخلاص لهذا البيت، قال يسوع لمّا دخل بيت زكّا العشّار. فاليوم نعم اليوم، قد تمّ!َ الخلاص على أرضنا، إذ الله دخلها بيسوع يوم ميلاده، وفيه تجلّت رحمة الله لنا. عمانوئيل إسمه، أي الله معنا، ومن لا يحتاج إلى حضور الله الدائم في حياته؟. فإن كان الله معنا، فمن علينا؟ في بيت لحم لم يجد موضعاً لائقا ليد فيه. فإن وُلِدَ يسوع في كلِّ مكان، ولم يلد في قلبنا، فهو بعد لم يولد. فلنفتح له قلبنا. فهذا أحسن مكان له. آمين.