موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٨ فبراير / شباط ٢٠٢٢

كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد السابع (الإنجيل لو 6: 27-38)

 

بلا شك، إنَّ البابا فرنسيس مُلهَم، إذ هو مُعجَب في خلق أعيادَ تذكاريّة جديدة في الكنيسة. فهو يغتنم المناسبات، حتى العالمية، لخلق عيدٍ ديني، يدعو الناس فيه للصلاة وطلب الرحمة. من هذه الإعياد ما أراده يوم الثامن من ديسمبر عام 2015، فهذا اليوم هو يوم عيد الحبل بمريم العذراء بلا دنس، ويُذكِّرُنا أيضا بتأسيس جمعية الكاريتاس في ألمانيا قبل مئة عام بعد الحرب العالمية الأُولى. فلنتصوّر ما قامت به هذه الجمعية للفقراء والمحتاجين منذ تأسيسها إلى اليوم. هذا وعلى مثالها أو تشجيع منها انتشر تأسيس جمعيات الكاريتاس تقريبا في كلِّ أنحاء العالم. فنحن ما عدنا نتصور الكنيسة بدون هذه الجمعيّة الخيرية العالميّة، ثمّ في نفس اليوم قبل 50 سنة، بانتهاء المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965، وفي نفس اليوم، وكان يوم الأربعاء، أعلن البابا في مقابلته مع المؤمنين، الأحد القادم، افتتاح سنة رحمة في العالم كله، افتتحها هو، وذلك بفتح باب كاتدرائية مار بطرس الاحتفالي بِطَرْقِ الباب بالصليب والدّخول الاحتفالي إلى الهيكل. ثم طلب من جميع أساقفة العالم أن يفتتحوا هم أيضا بداية سنة الرحمة في أبرشيّاتهم، وهكذا يشترك مسيحيّو العالم بالصلاة وطلب الرحمة، بقلب واحد، وصوت واحد. وبالمناسبة طلب البابا الاحتفاظ بهذا الأحد تحت اسم أحد الرّحمة. أمّا فتح أبواب الكاتدرائيات أو الكنائس الأسقية، فقال عنه البابا مُفسِّرا معناه، وهو: أبواب الكنائس الآن مفتوحة، فبقى علينا أن نفتح قلوبنا لرحمة الله ومحبّته، إذ الله بالذات فتح قلبه لنا، وبالأخص لكلِّ خاطئ. هو فتح لنا قلبه فيجب علينا نحن أن نفتح له قلوبنا. يجب أن يحدث فبنا تغيير، يجب أن يحدث رجوع إلى الله. هذه السنة أرادها البابا أن تتم مصالحتنا مع الله كي نسير على طريق القداسة. والتذكير به كل سنة، يريد منه تجديد التذكير برحمة الله الدّائمة.

 

إنَّ التوراة غالبًا ما تتطرّق لموضوع الرحمة، وتصف كيف أنَّ الله يتعامل مع التائبين، وهذا ما ذكره سلفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في منشوره عام 1985" الغني بالمراحم" تحضيرا لبداية الأُلفيّة الثالثة. إنه لَأكثر من واضح، أنَّ عالمنا، بسبب ما يحدث فيه من جرائم وحروب وبغض وخيانات ووو...بأمسّ الحاجة إلى رحمة الله. فكم من شُرورٍ تُقتَرف به، كأن الإنسان مخلوق فقط لعمل الشّر. فسنة الرحمة هي هديّة للكنيسة إجمالا. وهي أوّلا أمنية لإحياء وتقدير سرّ التوبة، وخاصة لقبول هذا السّر الشّخصي. هذا وقد اغتنم الأساقفة المناسبة وكتبوا العديد من التعليمات لأبرشيّاتهم، موصين فيها بضرورة التوبة والرجوع إلى الله: فلعبت كلمة يسوع: توبوا فقد اقترب ملكوت الله، دورا كبيرا في رسائلهم، إذ بدون التوبة لا تجديد لا في الحياة الخاصة ولا العامّة.  نعم، الكنيسة دعت للاحتفال بسنة توبة، وذلك للصلاة والطلب لحماية العالم من الشرور المنتشرة فيه، كفي مدينتي سدوما وعمور، حيث لم يكن فيهما ولا عشرة رجال صدّيقين، لينجيهما الله من الدّمار، وإذ ما كان فيهما هذا العدد الصغير، أي عشرة صدّيقين، فقد دُمِّرتا عن بكرة أبيهما. هذا وإنَّ الله لا يُغيِّر رأيه. فعشرة رجال صدّيقين في كل قرية أو مدينة أو لنقل في القارّة الواحدة، هم بمثابة مانعة الصّواعق، التي تمنع الصاعقة من التدمير والخراب بل والحريق. وإنَّ الأيدي المضمومة والمُوجَّهة إلى السّماء، هي بمثابة الغِطاء الجوّي الحامي من اختراق الجوّ.

 

إنَّ العالم ما كان أبداً قائما على قدّيسين، بل من البداية رزح تحت مفعول الشّر، هذا وقد عبّر بطرس في رسالته عن ذلك بقوله: "إنَّ إبليس خصمكم كأسد ضارٍ يجول ملتمساُ مَن يبتلعه. قاوموه راسخين في الإيمان"(1 بطر 8:5). فلعدم التّوبة، جاء الطوفان. ولعدم التوبة دمّر الله سدوم وعمور. ولعدم التوبة تكثر بل تزداد المناوشات بل والحروب في أيّامنا. العداوات بازدياد والانتقام بازدياد، والحروب بازدياد، والجرائم المتنوِّعة بازدياد، فما هو العلاج؟ بلا شك هو التّوجّه لِرحمة ربنا، فهي جهاز منظِّم خطوات القلب، لصاحب القلب المريض. إن أخطأ السّياسي يُطلب تجريدُه من وظيفته ومنصبه، ولا يعود الشعب يحترمه. كذلك من يرتكب جُرما، يُصبح مُحتَقَراً من الكل. وإن غضبت دولة على دولة أخرى، تُعلن عليها الحرب، كأنَّ الحرب والسّلاح هي الحلّ الوحيد. هذا في المجال العالمي، الذي لا يحوي قاموسه، لا على كلمة التسامح ولا الرحمة. وأمّا في المجال الدّيني، فالمسؤولة عنه الكنيسة، فهي لا تعرف إلاّ كلمة التسامح والغفران: إن دخلت الهيكل وتذكَرت أنَّك تشاجرت مع أخيك، فاترك الهيكل واذهب أوَّلا وصالح أخاك، ثمَّ تعال وقدِّم قربانك. إغفر لنا كما نحن نغفر!... لذا فلدى الكنيسة أيضاً حلولاً أُخرى غير الحرب والسّلاح. سلاحها هو الرّحمة والمحبّة، بدل الشّر ومسبِّباتِه: أحبّوا أعداءكم. فالسلاح الذي تستعمله الكنيسة لحلِّ مشاكِلِها، لا صلة له بالسّلاح الحربي، هو سلاح الصّلاة والالتجاء إلى رحمة الله ومحبّته. وأمّا السّلام الحقيقي فهو التوبة والنّدامة. كونوا رحماء كما أنّ أباكم السّماوي رحيم. رحمة الله هي بمعنى آخر بل الوجه الآخر لمحبّته. فلنكن على يقين، إنَّ رحمته قادرة أن تغفر كل معاصينا، إذ رحمته ومحبّته هي أُولى صفاته وما لهما من قياس.