موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٤ مارس / آذار ٢٠٢٢

قاده الرّوح إلى الصحراء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
قاده الرّوح إلى الصحراء

قاده الرّوح إلى الصحراء

 

الأحد الأول من الصوم (الإنجيل لو 4 :1-13)

 

كان يسوع يعيش حياة بسيطة، لا يتميّز خارجيّاً بشيء عن باقي البشر، إلى يوم عمّاده. فهنا، وما أن خرج من قدّام يوحنا من النهر حتى انفتحت السّماء وأعلنت من هو هذا الشخص: هذا هو ابني الحبيب. إذن هو ابن الله! أعني المُخلِّص المُنتظر، الّذي أشار إليه يوحنا قائلا هوذا حمل الله! هوذا الحامل خطايا العالم!

 

نبدأ المجيء بالدعاء المتواصل، تعال أيها الرّبُّ تعال. نحن كنا ننتظر ظهوره قدّامنا. وأمّا اليوم، في بداية الصوم، فإن الله نفسه هو الذي يشتاق لنا وينادينا: توبوا وآمنوا!.. لا تقسّوا قلوبكم! فقد اقترب ملكوت الله.

 

صلاة قدّاس الأحد الأول من الصيام اليوم تقول: أوْلِنا طوال هذا الزّمن الأربعيني السّنوي، ان نَجُدَّ في الإدراك، لعمق سرِّ المسيح، وأن نشهد له بسيرةٍ فاضلة. وهذا يعني، أننا مستعدّون الآن، ومن بداية الصوم، أن نقوم بما يريده الله منّا، في هذا الوقت المقدّس، الّذي هو هديّة منه، لنصلح ماضينا ونتقوّى بعمل الخير أمامنا. فالسُّؤال إذن واضح: لماذا يهدينا الله هذا الزمن السنوي؟ - لكي نتوسّع في معرفتنا له. وبالتالي، لتظهر فينا قوّةُ خلاص يسوع. فنحن لا نقصد بممارسة الصوم أن نُصبح لفترة ما، مُؤمنين أتقياء. إذ الحياة المسيحية هي ليست لفترة، بل "من أراد أن يكون لي تلميذاً، فليكفر بنفسه كلَّ يومٍ ويتبعني"، ولكن أن نُجري تعديلا شاملا على حياتنا وسلوكنا، أن نضع يسوع ووصاياه نُصْب أعيُنِنا، وهكذا نخطِّطُ لمستقبلٍ أفضلَ مِن الماضي. هذا ليس بالهيّن، حتى ليسوع نفسه. فكما سمعنا، هناك قِوى معاكسة، تُحاول كلَّ حين، أن تستعبِدنا وتُغرينا بالتجارب القويّة الدّائمة، التي تَعرَّضَ لها يسوع في بداية حياته العلنية. من تجاربه الثلاثة يمكننا أن نتعلّم:

 

أوّلا التجربة الأولى: تعطينا فكرةً غير الّتي في رأسنا عن إبليس، خاصّة وأنّه اليوم يظهر كمنافس ليسوع، فيستغلَ الظرف، ليُجرّده من مساواته بالله أبيه، من بعد ما اكتشف فيه ذاك الّذي سيُقلِّص سلطته على العالم والبشر. لذا فهو يُجاول من البداية أن يقف بوجه يسوع، الّذي كان لتوِّه قد خرج من صوم طويل، فلا بدَّ أنّه بسبب الجوع، سيستغلُّ سلطته، بتحويل الحجارة إلى خبز، فيفرح إبليس بأنّه نجح من أوَّل تجرِبة، بإغراء الجسد، ويكتشفُ أوّل نقطة ضعف في إرادة يسوع، فيتسلّط عليه. بتحويل الحجارة إلى خبز، هو سيرتفع شأنه بين الجماهير الجائعة الفقيرة، كما بعد أعجولة تكثير الخبز، فهم سينادون به ملكاً مستقلا. لكنَّ يسوع ما كان ذاك الطفل، الذي يتلوّى جوعاً ولا يَسكُت حتّى يَسْكُتَ الجوعُ في معدته. جواب يسوع يُبرهن أنَّ الجوع الجسدي ليس بشيء، قدام الجوع الرّوحي، إذ ليس بالخبز وجده يحي الإنسان، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله! ومن لا يتذكّر بهذا المجال، ما شعر به الملايين من البشر، أثناء فترة الكورونا، خاصة الجوع إلى الحياة الاجتماعية، والتّوقف عن إشباع جوع الثقافة الروحيّة الأدبية، فلا مسارح أدبية ولا موسيقية ولا محاضرات علميّة، وهذا خسارة كبيرة في وسط الحضارة، إذ الإنسان جسم وروح، وكلاهما يجوع إلى غذائه الخاص به. لكن من جواب يسوع نفهم أن الغذاء الرّوحي، له أهمّيّةٌ أكثر من الغذاء الجسدي، إذ كما نعلم من الحكمة اليونانية: الجسم السّليم في العقل السّليم. الخبز، ولو كان ضروريّاً، لكنّه ليس كلَّ شيء، إذ الحياة الحقيقيّة تحتاج أكثر من الخبز. لكن من يفتكر أنه لا يقدر أن يعيش بدون الخبز، فهو مائت سلفاً. فيسوع، بانتصاره على تجربة إبليس الأولى، يريد أن يقول لنا: أنا واقف إلى جانب من يريد محاربة الشيطان. وهذا يعطينا شجاعة وثقة واطمئنان.

 

من التجربة الثانية، التي يَعْرضها المُجرِّب على يسوع، وهي منحه كلَّ سلطانِ ومجدِ الممالك الأرضية، إن سجدّتَّ لي! هنا نقطة ذكاء إبليس، فهو يفتكر أن الذّهب اللامع يُغري وسيصل إلى غايته بأقرب وأقصر الطُّرق. يريد إقناع يسوع بأنّه بِغِنَىً عن إكليل الشّوك والذّل، إذا ما صارت بيده سلطة وغنى كافيَين، فيُغيّر البرنامج، الّذي من أجله أتى. فتصير حياته كما جاءت في فيلم المُخرج اليوناني الملحد Scorsese في التسعينات من القرن الماضي، حيث أظهر يسوع على الصليب، لكنّه قبل لفظ أنفاسه الأخيرة، يُغيّر رأيه، ويسمع لرغبة الجماهير: ألا انزل عن الصليب فنؤمن بك، فنزل فعلا عن الصليب، بعكس ما هو في الإنجيل، وبالتالي فتّش عن مريم المجدلية، الّتي كانت له علاقة معها سابقاً، كما اتّهمه صاحب الفيلم الملحد، إذ هي التي كانت غسلت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ودهنتهما بالعطر الغالي الثمن، وتزوّحها وأنجب منها ولدين وسافر معهم إلىMarseille  في فرنسا، حيث ضاعت أثاره مع الوقت هناك. برأيي هذا فيلم ليس فقد مهين للدّيانة بل فيلم وقح لا يستأهل المشاهدة.

 

المُجرّب يطلب ركعة بسيطة قدامه، كما يفعل أهل إنجلترا أمام ملكتِهم، فيستقِلَّ عن أبيه وبالتّالي يتسلط على كل ممالك الأرض وأمجادها. لكن يسوع ما كان في باله كلُّ هذا التفكير الخيالي. فهذا تكذيب لحقيقة رسالته بل هو كفر، إذ مَن يتجاسر أن يكتب ولو بالخيال هكذا عن الله، هو لا يعرف الله. ويسوع أرفع من أن يتصرّف حسب تخيلنا نحن البشر. يسوع سيتسلّط على العالم بطريقته، أي بانتصاره على الصليب والعذاب والموت، فيرفعه الآب إلى مجده الأبدي.  إذ في هذا إرادة الله. "إنَّ أفكاري هي غيرُ أفكاركم، وطرقي هي غيرُ طرقكم". "إن طعامي هو أن أعمل إرادة أبي". لذا فللربِّ إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". فمن موقف يسوع هذا نستنتج، أنّ من يُرِي ضعفاً أمام إبليس، فهو الخاسر.

 

أما التجربة الثالثة، فهي قمّة السوء، إذ إبليس يُعلن عن معرفته للتوراة، التي يوردها، ليخدع يسوع. إن كنت ابن الله، فألق بنفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب: يوصي ملائكته بك ليحفظوك. ومكتوب أيضا: يحملونك على أيديهم، لئلا تصدم بحجر رجلك. إذن بَرْهِن على أنَّ الله بقف إلى جانبك، أو أظْهِر استقلالَك عنه، بل أظهر لنا انَّك قادر أن تعيش مستقلا عنه. أما يسوع فيجاوب أيضا، بمعرفة أعلى من معرفة إبليس للتوراة: - مكتوب أيضا، لا تُجرِّب الرّبَ إلَهَك!.. بجوابه هذا، يضع يسوع حدّاً لسلطة إبليس، إذ هذه القفزة من جناح الهيكل إلى أسفل، هي ليست في برنامج الخلاص، بل القفزة الّتي قرّرها له الآب، هي من الأسفل إلى الاعلى، أي إلى الصليب. وأنا إذ ارتفعت، جذبتُ إليَّ الجميع. فهنا هو سيكون في قبضة الله أبيه، وفي هذه القفزة تقومُ رسِالته. ثقتُه بأبيه لا تتزعزع.

 

فها نحن ابتدأنا زمناّ كنسيّا جديداً، زمن التوبة الأربعيني، حيث مطلوب منّا فيه ، أن نُحاوِل تنقيةَ نفوسِنا وحياتِنا، منْ شوائب الضعف والخطايا، المسيطِرة علينا، والّتي نقع فيها دائماً، إذ هذا هو الصوم المقبول منّا عند الله، أي الاجتهاد في إصلاح الذّات، وذلك بمقاومة إبليس وإغراآتِه، الّتي عرضها على يسوع ولم يُفلِح. فلنا الآن قدوةً في تصرّف يسوع، وهو قبل كلِّ شيءٍ التّمَسُّك بعمل إرادة أبيه، التي بنى عليها كلّ ما سيحدث له، حتّى آخر حياته. هل نحن مستعدّون للخضوع لإرادة الله، طيلة هذه الأربعين يوماً. يا إنسان! للرّبِّ إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. وبالتالي أتمنّى لكم صوما مباركا، مقبولا عند الله.

 

 

 

الخطيّة الأصلية

 

جميلٌ هو هذا العالمُ وأجْملُ ما فيهِ الإنسان

أنتَ خلَقْتَه على صورَتِكَ وذا مِنْكَ إحسان

 

مِنَ التُّرابِ جَبَلْتَهُ ثُمَّ نَفَخْتَ فيهِ رُوحَك الحيّة

فَصارَتْ رُوحُهُ مِثْلَ رُوحِكَ خالِدَةً نعمْ أبدية

 

جَمَّلْتَهُ بِكُلِّ الصِّفاتِ وخَلَقْتَ له شريكةَ العُمْرِ

تُعاوِنُهُ بالسّرّاءِ والضّرّاءِ فلا حسابٌ شهري

 

حوّاءَ أسْمَيْتَها فَهْيَ سُتعطي الحياةَ لنّسْلٍ جديد

بارَكْتَهُما للحياةِ وأَسْكَنْتَهُما في الجنَّةِ بيتا فريد

 

أنتُما أُوْلَى الْخَلْقِ فانْمُوا واكْثُرا وامْلآا المعمورة

غِذاؤُكُما سيكونُ ثمارَ الجنَّةِ مقطوفَةً فمعصورة

 

ستقومان ِبالْعِنايةِ بِأشْجارِ الجنَّةِ الكثيرَةِ الواسعة

شَرْطاً واحداً أفْرِضْهُ لا تَأْكُلا مِنَ التُّفّاحَةِ اليانعة

 

أحَبَّ آدمُ حواءَ فَهْيَ جذَّابةٌ لأنّها عَظْمٌ مِنْ عظامه

ولحمٌ مِنْ لحمِهِ فما الاختلافُ إلاّ تحقيقٌ لأحلامه

 

في نُزْهةٍ بينَ أشْجارِ البساتينِ سَمِعا صوتاً ينادي

انْظُرا ما أجملَ هذي الشَّجْرَةَ شَكْلُها غيرُ اعتيادي

 

هِيَ حيّةٌ طوَّقَتِ الشَّجْرَةَ كالحبيبةِ طَوَّقَتِ الحبيب

في يَدَيْها تُفّاحَةٌ برّاقةٌ شَكْلُها بَلْ وعطْرُها غريب

 

ذُوقا هذي التُّفَّاحَةَ فَهْيَ جميلةٌ ليس فقط من بعيد

بلْ وأيضاً من قريبٍ فمَنْ أكَلَ مِنْها يُصْبِحْ سعيد

 

لا قالَ آدمُ مِنْ جَميعِ الفواكِهِ نأكُلُ إلّا مِنْ هذي

هكذا أرادَ يهوانا فَلَهُ مِنّا الطّاعةَ وما فيها شواذِ

 

أمّا حواءُ فسالَ اللُّعابُ مِنْ فيها حِينَ استنشقت

فأَمْسَكَتِ التُّفاحةَ وقَسَّمَتْها نِصْفَيْنِ وفِعْلاَ أكلت

 

كلَّ ما أكَلْنا مِنْ ثِمارٍ حتّى اليومَ ما له بذي شبيه

فأغْرَتْ أدمَ فحُبَّاً بِها ما أَفْشَلَها إذْ هُوَ ليسَ شريه

 

لكنْ ما أنْ بَلعا ما بالفَمِ حتّى حَدَثَ ما لا توقّعا

كأنَّ ساحراً رشيقاً برمشة عين جرَّدَهما فوقعا

 

فأسْرَعا بالعُرْيِ لِجَمْعِ ما وَقَعَ مِنْ ورقِ التين

لِتَغْطِيَةِ ِعورَتْهِما وبِعُشْبٍ شُرْشُهُ صُلْبٌ متين

 

جَلَسا في مَغارَةٍ مُعْتِمَةٍ لا يَخْرُقُها ضوءُ الشمس

أمْضيا وقْتَهُما صامِتَيْنِ وإنْ تَكَلّما ففقطْ بالهمس

 

في نُزْهةٍ قصيرةٍ نزَلَ يهوى لِرُؤْيَتْهِما بين الشجر

لَكِنْ لا أثَرَ لهُما ولا أيُّ لَحْنٍ مِنْ حَلْقَيْهِما قَدْ صدر

 

آدمُ أينَ أنْتُما ما خرَجْتُما لا لِلْنُزْهَةِ لا ولا للمديح

هَلْ أصابَتْكُما وَعْكةٌ في البَيْتِ ألا تقول الصّحيح

 

يهوانا نحنُ عُراةٌ نُخِيطُ مِنْ يَومَيْنِ وَرَقَ التِّينِ ثيابا

ما مَرِضْنا ولا تَعِبْنا أمّا في ضَميرِنا فنَسْمَعُ العِتابا

 

هَلْ أكَلْتُما مِنَ التُّفّاحَةِ الّتي حَرَّمْتُ عليكُما لمسَها

كَمْ بِالحري أكْلَها فالْقَصاصُ مَعروفٌ لِمَنْ يَمَسَّها

 

حواءُ قالتْ، طَعْمُها لذيذٌ خُذْ فكُلْ مِثْلي بلا هوان

رَدَّتْ حواءُ اعْتِذاراً، الحيَّةُ قْالتْ كُلَا أنْتَما بأمان

 

لا قالَ يهوى لِعَدَمِ الطَّاعَةِ ما عادَتِ الجنَّةُ بيتَكما

ملاكِيْ يَنْقُلْكُما خارِجَ أسْوارِها العالِيَةِ أنا أنفيكما

 

مِنَ الآنَ ما عادَتِ البساتينُ والأشْجارُ مُلْكاً لكما

ولا لِبَنِيكُما فأمامَكُما الشُّغْلُ الشّاقُّ لِأَكْلِ خبزكما

 

وأنْتِ أيَّتُها الحيَّةُ اللّعينَةُ حالا تَزْحَفينَ على بطنكِ

تُراباً تأكلي فآدمُ وبنوه يَسْحقونَ رَأْسَكِ نقماً لغشكِ

 

أنا خالِقُكُمْ وأبوكُمْ أبْقى لَكُمْ وأَعِدُكُمْ مِنَ اليومِ بمخلص

يكونُ مِنْ نَسْلِكُمْ أمّا مَجيئُهُ فَيطولُ عَلَيْكُمْ أنا المؤسِس

 

خطيّة آدمَ وحواءَ أبَوَيْنا الأوَّلينِ نُسمِّيها الخطيَّةَ الأصلية

لأَنَّها أوّلُ ما اُقْتَرَفَ الإنسانُ ضِدَّ خالِقِهِ بِإيعازٍ مِنَ الحية